السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاعل الرمز الداخلي الذاتي في تكوين الامة العربية
بقلم: عادل بوعلي
نشر في الشعب يوم 26 - 05 - 2007

إن منظور الرموز الثقافية يساعد كثيرا على طرح قضايا وظواهر عديدة ذات علاقة بالمسألة الثقافية باعتباره طرحا يتمتع بدقة كبيرة في الفهم والتفسير ومن اهم القضايا التي يمكن مناقشتها هنا هي قضية حواراو صدام الحضارات فالاشتراك او التشابه بين التجمعات البشرية في الرموز الثقافية يعزز بالتأكيد من الاستعداد او التحمس والقدرة على الحوار والتفاعل بين تلك التجمعات واللغة هي اهم عناصر المنظومة الثقافية لفتح ابواب الحوار والتواصل بين الافراد والمجموعات البشرية ومن ثم يمكن القول بان حوار الثقافات بين العالم الاسلامي والعالم الغربي يتطلب من الطرفين معرفة لغات بعضهم البعض وهذا مفقود عند الطرف الغربي نخبويا وشعبي وعلى العكس من ذلك فان لنخب العالم الاسلامي معرفة واسعةومتمكنة بلغات المجتمعات الغربية وفي طليعتها اللغتان الانقليزية والفرنسية وبازدياد نسبة التمدرس منذ استقلال المجتمعات الاسلامية ان هذا الواقع اللغوي الشعبي يعزز عند المجتمعات الاسلامية هاجس التفتح والحوار مع المجتمعات الغربية اما هذه الاخيرة فليس لها ما يدفعها الى تعلم لغة المجتمعات الاسلامية في ضوء هذه المعطيات لا يمكن الحديث عن المساواة في رغبة الطرفين الغربي والاسلامي في الحوار فجهل الغرب للغة العرب والمسلمين يضعف كثيرا من استعداد وقدرة تلك المجتمعات على الحوار التلقائي والمتحمّس والواعد مع المجتمعات الاسلامية.
كما ان الحديث عن علاقة العربي المسملين بالغرب المسيحي يحتاج الى الاشارة الى الخلفية التاريخية التي ربطت بينهما فمن جهة غزا العرب المسلمون ما يسمى إسبانيا والبرتغال وحكموا وهيمنوا قرونا عديدة وحاولوا التوسع أكثر في أوروبا بحيث كان العرب المسلمون القوة الوحيدة التي هددتهم في عقر دارهم وهو ما يجعل المخيال الغربي (منظومته الثقافية) منذ ذلك التاريخ خائفا وعدائيا ومتوجّسا تجاه العرب المسلمين ومن جهة ثانية فقد هزم العرب المسلمون في الاندلس شرّ هزيمة وطردوا منها شرّطر دفسجلوا في مؤلفاتهم هيامهم بالاندلس وغضبهم مما تعرضوا له على ايدي المنتصرين الاسبان المسحيين فولد ذلك عندهم مخيالا حاقدا على الاسبان وعلى الغرب بصفة عامة نتيجة للحرب الصليبية والاستعمار الغربي لهم في العصور اللاحقة ومن ثم فان المنظومة الثقافية السلبية ازاء «الآخر» عند مخيالي الطرفين (الغرب والعرب المسلمين) مرشحة لان تكون ابدية ذلك ان الرموز الثقافية تتصف بالخلود وهو ما لا يسمح بالتفاؤل للحديث عن حوار حقيقي متكافئ فعلا بين الغرب والعالم العربي الاسلامي فالطرف الغربي هو اقل تأهلا وتحمّسا ونزاهة.
وإن السياسة الأمريكية الصدامية لإدارة بوش الصغير مع العالم العربي والاسلامي اليوم خير مثال ميداني تتجلى فيه مشروعية الولايات المتحدة الأمريكية للصدام مع عالمنا وتأتي المنظومة الثقافية لإدارته بمثابة عاملا حاسما في الصدام لا مع هذا العالم فحسب بل مع المجموعة الدولية قاطبة. وإن ذلك ليحمل من الدلالات الكثير خاصة إذا ما حصل التوافق على أن «توزيع الثقافات في العالم يعكس توزيع القوة» (6) فمن الجائز النظر في تيار الأمركة الجارفة على أنها مؤشرات على «الامبريالية الثقافية» التي تعني فرض ايديولوجيا أو حضارة أجنبية على مجتمع أو شعب رافض لذلك ولكن طالما أن العلاقة بين الدول غير متكافئة فان بعض الدول لا سيما الدول الاستعمارية التقليدية والولايات المتحدة الأمريكية سعت وتسعى باستمرار الى فرض رموز ثقافتها وقيمها المختلفة على الشعوب العربية والاسلامية والعالم الثالث عموما باسم الحضارة والمدنية وستكون النماذج الأخرى عصيّة على الحصر لمن يفتح هذا الملف، فالأداة الثقافية للاستعمار كان لها مفعولها في الاستعمار القديم وقد نشير هنا الى الاطار الفرنكوفوني (7) الذي نجح الإستعمار الفرنسي بتركيزه على الجانب اللغوي والثقافي في المغرب العربي لا بين النخب وحدها وإنما أيضا بين عامة الناس فأصبحت اللغة الفرنسية لغة المؤسسات في ظلّ الاحتلال الفرنسي وفي مؤسسات دولة الاستقلال ونظرا لأن اللغة هي أم الرموز الثقافية فانه يجوز وصف التبعية الثقافية لمجتمعات المغرب العربي لفرنسا بأنها تبعية خطيرة لأنها تحرم اللغات المحلية والوطنية (العربية والبربرية) من النمو والاستقلال الكاملين ولا يقتصر خطر التبعية الثقافية على ذلك وإنما يمس أيضا قضايا الشعور بالاغتراب الثقافي على مستوى الهوية الثقافية عند الأفراد والمجتمعات فالتبعية الثقافية من منظور الرموز الثقافية أخطر بكثير من التبعية الاقتصادية لأن مدّة بقاء الرموز الثقافية للمستعمر القديم طويلة العمر في المجتمعات المستعمرة وهو ما يجعل استقلالها اللغوي الثقافي اصعب بكثير من استقلالها عن الاحتلال العسكري والهيمنة الاقتصادية.إن السؤال المتعلق بمصير اللغة العربية ربما كان في مراحل زمانية وتاريخية مختلفة نوعا من الاستنفار وقد كان بالفعل كذلك منذ بداية النهضة العربية الحديثة واستمر على ما هو عليه عندما جثم الاستعمار ثم إمتد الى سنوات المقاومة والتحرير ولكن في هذا الزمن الجديد أصبح سؤالا مهما وضاغطا ليس عند الدول العربية فقط بل أيضا عند الدول الأوروبية (8) إذ لم يعد يحتمل التأجيل بل أضحى من أمهات الأسئلة لانه بثقله الرموز يقوم مقام أركان الصراع الكلاسيكي كلها : السياسي والحربي والاقتصادي والفكري لأن «اللغة سجل العقلية النفسية والاجتماعية للشعب المتحدث بتلك اللغة» (9) وهذا يعني الرضوخ الداخلي للاستعمار عندما تتشكل في الافراد والجماعات البشرية مجموعة من الصفات العقلية والنفسية وما يناسبها من علاقات اجتماعية تجعل المجتمع لا يستطيع مقاومة الإستعمار وتسهيل للاستعمار مهمّته ويمكن أن نلخص ذلك في المفهوم الذي إلتقطه ابن بني وهو «القابلية للاستعمار». (10)
ومن يدرك دور البؤر الثقافية في الارتباط بالاستعمار فان له أن لا يعجب من أن «الاستعمار الحالي» كسابقة يحرص على تشكيل النخب المرتبطة به من دوائر المثقفين والسياسيين فقد إحتلّ من تلقوا منح فولبرايت الأمريكية مواقع الصدارة في أول حكومة بولندية تشكلت بعد انهيار النظام الشيوعي . إن وزير خارجية بولندا من الذين تلقوا منحة فولبرايت كما ساعد أحد الذين درسوا بمنحة من منح فولبرايت في قيادة نضال تيمور الشرقية في سبيل الاستقلال ورئيس البيرو «أليها ندرو توليرو» كان ممن تلقوا إحدى منح فولبرايت وقد أصبح أكثر من مائتين ممن اشتركوا في برنامج وزارة الخارجية الأمريكية الخاص بالزوار الدوليين ، إما رؤساء دول أو رؤساء حكومات ومن بين رئيسة أندونيسيا «ميغاواتي سوكانوبوتي « والرئيس «ميخائيل ساكاشفيلي» رئيس جورجيا الجديد كما أن الرئيس «الفا عمر» رئيس مالي السابق والرئيس الحالي لموفوضيه الاتحاد الافريقي هو أيضا من خريجي هذا البرنامج ولعلّ الجيل القادم من بين الطلبة العرب الذين تم اختيارهم ضمن استراتيجية مبادرة الشراكة من أجل التعليم الذي وضعته الولايات المتحدة الأمريكية قصد نشر الأنماط الحضارية والثقافية الأمريكية عالميا وهذا لا بدّ أن يكون له علاقة بعولمة اللغة الانقليزية في العصر الحديث.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ليس لها حلفاء حقيقيين بل مجرد أتباع فانه يكون مفهوما أن «تتحول بلدان ذات سيادة من حيث المبدأ الى بلدان تدور تابعة وبائسة في فلك غيرها» (11) لأن حالة الاستلاب والعجز تطورت مع تراجع هامش التحرك والمناورة للحكومات الأوروبية فإبان الحرب الباردة وفرّت الثنائية القطبية مساحة تحرك نسبي لدول العالم بل وللقوى السياسية والحركات والمنظمات بالاستناد الى هذا القطب أو ذاك وهي معادلة باتت منتهية الصلاحية منذ تفكك الاتحاد السوفياتي ليصبح الخيار المتاح إما الاحتماء تحت المظلة الأمريكية أو الرضا بمصير الواقعين على «محور الشرّ» أو «قائمة الإرهاب» كما يحلو لأمريكا أن تقول وهي تصنيفات خصصها صانعوا القرار الأمريكي لمنبوذي العهد الاستعماري الجديد من الدول المارقة ومن لفّ لفها.
إن ظاهرة إنتقاد ما يسمى «الامبريالية الثقافية الأمريكية» من طرف المجتمعات المتقدمة والنامية على السواء ينبغي أن يفهم في اطار علمي وليس من منظور ديماغوجي إذا ما نظرنا اليها من وجهة نظر طبيعية الرموز الثقافية الانسانية فنشر رموز ثقافة أجنبية يعني أن تأثيراتها في تلك المجتمعات سوف تدوم طويلا إذا ما تمّ تجذرها في تربة تلك المجتمعات وبالتالي يكون التخلص منها في فترة لاحقة عملية صعبة فالأدلة تفيد أن نشر اللغة والقيم الثقافية والعقائد الدينية في مجتمعات وحضارات أخرى يعتبر أهم تخطيط محكم يمكن أن يقوم به أي مجتمع من المجتمعات لتأميم إقامة علاقات دائمة مع الأمم الأخرى.
غير أن الانصهار الثقافي الكامل أو شبه الكامل للمجتمعات العربية والاسلامية في رموز ثقافة الآخر نادر وقوعه في القديم والحديث وخير مثال على ذلك احتكاك الدينين المسيحي والاسلامي عبر التاريخ اثبت أن المسلم عموما لا يصبح مسيحيا سواء أكان إحتكاكه بالمسيحية في ظروف استعمارية (الإستعمار الفرنسي في الجزائر خاصة ) أو في ظروف عادية أما دخول المسيحيين في الاسلام فقد شمل المستعمرين أنفسهم وعددا كبيرا من المفكرين في الديانة الاسلامية وهم في عقر دارهم . إنها ظاهرة معروفة في القديم والحديث على السواء. كل ذلك يدل على أن رموز الدين الاسلامي تعطي للمسلم مناعة ضدّ تبني ديانات أخرى فرموز الديانة الاسلامية تملك جاذبية قوية قادرة على استقطاب غير المسلمين الى الاسلام وهذا يعني أن تجذر الرموز الدينية الاسلامية في عمق شخصية الانسان المسلم أكثر بكثير من تجذّر الرموز الثقافية الأخرى فيها.
إن تمسك الناس بدياناتهم من جهة وتغييرهم لها من جهة أخرى هو مؤشر على ارتباط الانسان بالروحانيات والميتافيزيقا فتغيّر الناس لدياناتهم يتم داخل الدائرة الدينية وهذا يفسر عمق الجانب التديني للانسان الذي تؤيده استمرارية الديانات في كل الحضارات الانسانية شرقا وغربا وحتى محاولة تبديل ذلك بإيديولوجيات مادية أمر فاشل وصعب كما تدل على ذلك محاولات تجربة الدول الاشتراكية المعاصرة.
ومن هنا فان عامل الرموز الدينية والرموز اللغوية يصبح عاملا حاسما في أي تحليل موضوعي ومتعمق لظاهرة الانصهار الثقافي من جهة والانشطار الثقافي من جهة ثانية بين الشعوب فالأمة التي لا تنجح في صهر «الآخر» في رموزها الدينية ورموزها اللغوية تكون غير أمينة وغير واقعية إن هي إدعت الانصهار الكامل أو شبه الكامل «للآخر» في الرموز الثقافية لحضارتها لأن إنتساب المجتمعات والشعوب الى رموز دينية مختلفة أدّى الى تجزئتها في بعض الحالات، فانفصال باكستان وبنغلادش عن المجتمع الهندي الكبير مثال على أهمية دور الرموز الدينية في تلاحم الشعوب أو تباعدها وان اشتركت في عوامل أخرى مثل العرق أو الثقافة ثم إن إزدياد التوترات والصراعات داخل الفيدرالية الكندية الناتج عن مفهوم الخصوصية التي تسعى مقاطعة «كيباك» «Québec» الى تقنينه في الدستور الكندي الفيدرالي يرجع أساسا الى الخصوصية الثقافية التي تميزها عن غيرها من المقاطعات الكندية الأخرى ففي فضاء الشمال الأمريكي الواسع حيث تهيمن اللغة الانقليزية وثقافتها تظل كيباك Québec نفسها ذات هوية فرنكوفونية مصدرها اللغة الفرنسية فكان المجموعتين تنتميان الى قطبي مرجعيتين مختلفتين والى خريطتين معروفيتين (ذهنيين) إذ ليس لهما نفس الروح الثقافية الرموزية.
إضافة الى ذلك فان تفكك الكونيات المجرّدة : الستالينية والتروتسكية والماوية كان محددا كبيرا في عودة المثقفين اليهود الستالنيين والتروتسكيين والماويين السابقين للانخراط في المنظومة الدينية والايمان بالتوراة فالمثقفين اليهود تحولوا الى انتلجنسيا يهودية تتخذ من التوراة مرجعا لها وتعتبر منظومته الدينية مصدر كل صلاح ومدنية.
لقد ارتدّ الكثير من هؤلاء وخاصة منهم الذين تبنوا مواقف الاتحاد السوفياتي والصين والقضية الانسانية وطابقوا في الماضي بين هذه المواقف وبين هويتهم الشخصية أوالكونية.(12)
وهكذا تبقى تجربة العرب المسلمين التي جعلت منطقة ما بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي تجربة فريدة من حيث تمكنها تمكنا كاملا من تحقيق الصهر الثقافي الكامل أو شبه الكامل للآخر في بوتقة الحضارة العربية الاسلامية لولا نجاح العرب المسلمين الفاتحين في نشر رموز دينهم الاسلامي وتعليم لغة الضاد وثقافتهما لشعوب ما بين المحيط والخليج على الخصوص فوشائح الرموز الثقافية بين الجماعات البشرية من رموز لغوية ثقافية هي الضمان الوحيد لخلق لحمة بينهم إنها تطبع سبل الشعور بالتضامن بينهم بطابع الأزلية الذي لا تعرفه لا الاحلاف العسكرية ولاالتجمعات الاقتصادية بين الامم.
إن التأكيد على أهمية عدم تهميش الجوانب غير المحسوسة (بالمعنى الوضعي للكلمة) للرموز يرجع الى التصور الابستومولوجي لطبيعتها فالرموز الثقافية تختلف في جوهرها عن بقية العناصر الأخرى المكونة لذات الانسان. لأن خصوصية عالم الرموز تتجلى في كونها تنطوي على دلالات ميتافزيقية تميزها عن عالم المحسوسات وتقربها من عالم العجائب والماورئيات فالجانب الميتافييقي للرموز عرفه الانسان قبل تبلور ثورة الاتصالات الحديثة التي يعتبرها الفن طوفلر Alvin Toffler أعظم الثورات جميعا في العصر الحديث ولذلك يجب أن تفهم في مساقها الصحيح لأن حدوثها لا يرجع الى تكنولوجيا الاتصالات فحسب وإنما أيضا الى المقدرة الهائلة لعالم الرموز : الكلمة والصوت والصورة التي تتميز بالتنقل من مكان الى آخر بسرعة فائقة ولا تكاد تصدق الأمر الذي يجعل عالم الاتصال والمعلومات مرشال مكلوهن Marshal Macluhon يعتبر أن عالمنا الفسيح وذا الحضارات والشعوب والقبائل المختلفة اصبح عبارة عن قرية صغيرة وهذا راجع في ذلك الى طبيعة عالم الرموز المتمثلة في قدرتها على التحرر من عراقيل عالم المحسوسات والانضواء في عالم الميتافزيقا فبالتعبير العلمي والوضعي الجديدة يمكن النظر الى منظومة الدلالات الميتافزيقية على أنها ضرب من اللانظام Désorder في نظام الظواهر المحسوسة إن مقولتنا بخصوص أهمية دور الدلالات الميتاقزيقية للرموز الثقافية في تشخيص أكمل لفهم ظاهرة ثورة الاتصال تلقي تشابها كبيرا مع اتجاهات علمية جديدة بدأت تنادي بإلحاح شديد على ضرورة دمج مفهوم اللانظام في البحوث العلمية الجديدة على مختلف مواضيعها (13).
إن الفهم والاستعاب الداخلي لطبيعة الرموز الثقافية يحتاج الى ابتكار وإرساء اسس نوع من علم الاجتماع الفهمي يكون كفؤا للتعامل مع المستويات المعقدة التي تحفل بها الرموز الثقافية الانسانية فالابتعاد نوعا ما عن البنى الاجتماعية المحيطة يسمح بالاقتراب أكثر من الجانب الانساني وهو ما يجعل هذا الاطار الذي يطرح طبيعة الرموز الثقافية بالتحليل والنقاش بوضوح عن عقم المنهجية الوضعية بخصوص التصور والفهم للتأثيرات الواسعة التي تمارسها الرموز الثقافية على ديناميكية سلوكات الافراد والمجتمعات.
------------------------------------------------------------------------
المراجع :
(6) صمويل هنتينغتون : صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي تعريب مالك عبيد أبو شهيرة ومحمود محمد خلف، الدار الجماهيرية، مصراته ليبيا 1999
(7) ظهرت الفرانكفونية ككلمة ذات دلالة ومفهوم في أواخر القرن التاسع عشر في كتبات الجغرافي «أونزيم ريكلو» عندما إبتكر طريقة جديدة لتصنيف الشعوب بناء على لغاتها ثم بداية من الستينات من القرن العشرين عندما نشرت مجلة «Esprit» الفرنسية عددا خاصا في عام 1962 عن الفرنسية في العالم شارك فيه «ليوبولد سنغور» رئيس السنغال ابّان الاستقلال (22 أوت 1960) المتحمس القوي للثقافة الفرنسية وهي الثقافة التي اريد لها ان تطمس الهوية الأصلية للشعب السنغالي .
(8 ) L'inflence culturelle Américaine en France; le monde : Dossier documents mai 1981
(9) محمود الذوادي : التخلف الآخر : عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث. الأطلسية للنشر الطبعة الأولى جانفي 2002 ص 122 .
(10) مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي. إقبال للطباعة والنشر 1989 ص 80 .
(11) Ingnacio Ramonet رئيس تحرير جريدة «Le monde Dép.» في مقال بعنوان تبعية عدد أكتوبر 2002.
(12) Edgar Morin : مقال بعنوان «اللاسامية ومعاداة اليهودية ومناهضة اسرائيل: كلمات يجب إعادة النظر فيها «Le monde Dép.» جوان 2002.
(13) مجلة : Recherche عدد خاص 232 ماي 1991 بعنوان «عالم اللانظام» La science de désordre .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.