بقلم حامد الماطري لا شكّ أنّ الألعاب الأولمبيّة التي ستنطلق بعد أيّام قليلة تعدّ أهمّ حدث رياضيّ، بل ربّما انسانيّ لهذا العام، حيث ستتّجه كلّ الأنظار الى ريو دي جانيرو، و التي ستصبح حديث العالمو قبلته مدّة أسبوعين، فيتسابق الأبطال و ترتفع الأعلام و تهتزّ الشّعوب على أنغام الأناشيد الوطنيّة التيّ ستزفّ الأبطال بالذّهب. على خلاف كلّ المسابقات و الدّورات الرّياضيّة الأخرى، تعتبر الألعاب الأولمبيّة أوسع تجمّع على وجه الأرض، إذ تمثّل فيه كل أمم الأرض، فقيرها و غنيّها، صغيرها و كبيرها، و بلا استثناء، سيمرّ الجميع من ذات الممرّ و سترفع الأعلام سواسية. لذا، تحمل المشاركات أبعاداً ثقافيّة و سياسيّة تتجاوز المنافسة على الميداليّات، فتجد كلّ البلدان تحاول أن تستغلّ هذا المحفل للإشعاع قدر المستطاع و البروز بين الأمم. و يبقى فريدأً مشهد الوفود و هي تدخل الملعب الأولمبي تباعاً و هي تتأنّق في ملابس اختيرت بدقّة و عناية لتعرّف قدر الإمكان بتراث البلد و ثقافته. ريو 2016 ستكون بالنّسبة لتونس موعداً استثنائيّاً إذ لم يسبق أن ذهبنا إلى موعد أولمبي من قبل و نحن نحمل آمالاً في الحصول على عدد كبير من الميداليّات، و في عديد الاختصاصات مثل هذه السّنة. إذ يطمح الوفد التونسي الى تحطيم كلّ الأرقام السّابقة، و يعتمد في ذلك على نخبة من الرّياضيّين الأبطال لم يسبق أن اجتمعت من قبل، فإلى جانب أسامة الملّولي و حبيبة الغريبي، نجد سارّة بسباس (مبارزة بالسّيف)، نهال شيخ روحو و فيصل جابالله (جيدو) و ياسين الطّرابلسي (تايكوندو) و يوسف العكروت (الألواح الشّراعيّة) و صفاء السّعيداني (كرة الطّاولة).. ما شدّ انتباهي شخصيّاً، و أنا أتابع تحضيرات الرّياضيّين، الرّوح الوطنيّة الرّائعة التي تنبعث من تصريحاتهم و تلهم تمارينهم، و الرّغبة المحمومة في إعلاء اسم تونس.. لم أرى منذ سنوات مثل هذه الرّوح و هذا التّفاني.. لا تزال كلمات مالك الجزيري ترنّ في أذني و هو يقول أنّه يعتبر حياته الرّياضيّة بمثابة خدمة عسكريّة يؤدّيها لاعلاء راية تونس.. كم كان بودّي لو ينسج على نهجه باقي الرّياضيّون، و الفنّانون، و السّياسيّون، و المسؤولون... قرأت منذ أيّام خبر تولّي يوسف العكروت، بطل الألواح الشّراعيّة و فتى ال25 ربيعاً، المساهمة في بناء ملعب رياضيّ لينتفع به أطفال جهة مكثر... ترى من فعل مثل هذا من بين "نجومنا في تونس"، سياسيّين أو فنّانين أو "كوّارجيّة"؟ و خصوصاً، من منهم مستعدّ لفعل هذا بعيداً عن عدسات الكاميرات و الفعفعة الإعلاميّة؟ أحد "الأولمبيين" التونسيين –و هو صديق لي- يقود حملة منذ أشهر، بين عائلته و أصدقائه، للتشجيع على الاستهلاك التونسي في كلّ شيء.. الرّجل مؤمن بضرورة تقديم المنتوج التّونسيّ مهما كان سعره أو مستواه، و -منذ سنوات- يعمل قدر المستطاع على ألّا يأكل و ألّا يلبس أو يستعمل إلّا ما صنع في تونس، بأيدي تونسيّة و باستثمارات تونسيّة... بل و أنّهذهب إلى حدّ التّخيير بين ماركات الحليب بين أيّ الشركات تحمل رأسمالاً تونسيّاً صافياً و أيّها تكون فرعاً لشركات أجنبيّةǃ جميل هذا الوجه المشرق و هذا المثال المتألّق الذي يقدّمه لنا أبطالنا من بين شباب تونس الحيّ.. جميل جدّاً في صمته و في صدقه و في حياءه، و كذلك جميل في ابتعاده عن رياء البلاتوهات التلفزية أو نفاق المسارح، أو حتى اهتمام العامّة. الآن، كيف تتعامل السّلط مع رياضيّينا و مع هذا الحدث العالميّ الجلل..؟ منذ أيّام قليلة، تمّ تقديم اللّباس الرّسمي الذي سيرتديه الوفد التّونسيّ في الألعاب الأولمبيّة، و هو في دول أخرى حدث يترقّبه الجمهور بفارغ الصّبر. في تونس، تفتّق الواقع عن ما هو أغرب من الخيالǃ سيرتدي الوفد التّونسي المشارك في الألعاب الأولمبيّة ملابس رياضيّة من ماركة صينيّة اسمها "New bunren" هي عبارة عن تقليد سيّء الإخراج للماركة العالميّة "New Balance"، و الإسم مكتوب باللغة الصينية و التّقليد في العلامة المميّزة "N" هو تقليد فجّ بقدر ما هو في الأعراف الدّوليّة أمر فاضح... يعني، بلغة أخرى، و بالفصيح، الملابس و الأمتعة التي وفّرتها السّلط للأولمبيين التونسيين هي "مذرّحة"ǃ عندما سيعتلي الملّولي، سارّة بسباس أو جاب الله منصّة التّتويج و تحطّ عليهم كلّ الأنظار و الكاميراهات، لن تكون بطولات التّونسيّين هي محور التّعاليق، بل سيتندّر العالم بأبطال تونس الذين يلبسون ماركة و يرفعون بكلّ فخر رايات... "بو ذرّوح"ǃ لا أعرف إذا كان أحرى أن يوصف كلّ من بادر، أو شارك أو قبل بهذه الفضيحة بالغباء أو بالجهل أو بعدم الكفاءة، أو بالاستهتار أو بتعمّد اهانة الرّياضيين قبيل سفرهم، أو بالفساد.. المعلوم، هو أنّ كلّ مرافق –لا أتحدّث عن الرّياضيّين- سيتكلّف على الدّولة في رحلته عشرات الملايين. أي أن "تكاليف" ثلاثة "مرافقين" من "الاداريين" أو "المبعوثين" ستغطّي ثمن التجهيزات الرّياضيّة لكامل البعثة،و أكثرǃإذاً فالمسألة لا يمكن أن تتقدّم بتعلّة "الضّغط على المصاريف". و لو كان كذلك، فلماذا لم تقدّم مثل هذه الفرصة الى علامة تونسيّة، فنكون على الأقلّ صنّا بعضاً من ماء الوجه؟ المهزلة الجديدة تنضاف بالتّأكيد الى قائمة من المهازل أصبحت تتجلّى بمواظبة غريبة مع كل مهرجان أو معرض أو مناسبة دوليّة، و كلّها تعكس مدى التّكلّس و انعدام الكفاءة و الفساد–بل و حتّى المفهوميّة- الذي نخر في ادارتنا حتى النّخاع.. على مستوى "الهندام"، أولت السّلط المعنيّة في المقابل أهمّية أكبر لحفل الإفتتاح حيث ستتكفّل ماركة "انجليزيّة" شائعة عندنا -سأتجنّب الإشهار- بإلباس الوفد التونسي. و بينما سيدخل المغربي عزيزاً بجلبابه و يطلّ النيجيري مرفوع الرّأس بلباسه التّقليدي، و كذلك السّويسريّ و السّلوفيني و اليابانيّ، كلّ يرتدي تراثه بفخر و يعرّف به العالم الذي تحلّقت أنظاره من حوله في تلك اللّيلة الاستثنائيّة، سيرتدي التوانسة طواقم (Costumes) كحليّة أشبه بلبسة العريس ليلة زفافه. يبدو أن الذّوق و المنطق و حسن التّدبير أصبحت عملات نادرة في مؤسّساتنا و هياكلنا الوطنيّة.. أسرّ لي صديقي "الأولمبي" قبيل أن يسافر و في صوته نبرة من الخيبة فاجأتني و هو الذي كان يتّقد حماساً منذ أيّام قليلة: "عندما كنت طفلاً صغيرا،ً كنت احسّ بالفخر و أنا أقرأ كلمة تونس مكتوبة بالعربية على قمصان منتخباتنا، في زمن لم يكن أحد يفعل مثل ذلك، حتّى عرب المشرق.. و أنا اليوم سأشارك في الألعاب الأولمبية بقميص مكتوب بالصّينيّةǃ" و أضاف بشيء من المرارة و هو المهووس بالدّفاع عن المنتوج التّونسيّ في حياته الخاصّة:"كنت أتمنّى على الأقلّ أن نلبس جميعاً اللبسة التقليدية التونسية ليلة الافتتاح حتّى نتلألأ جميعاً تحت أضواء الحفل المتوهّجة، و لكنني فرض عليّ أن ألبس "طقماً" داكناً لا يشبهني في شيء، بل و أنّي رفضت أن ألبس مثله في حفل خطوبتي.. و زد على ذلك، كتب عليه من الدّاخل "صنع في بريطانيا".