بقلم حامد الماطري بالرجوع إلى موضوع "واحات جمنة".. يبدو أن العديد من المواطنين و المتابعين أضاعوا الخيط و لم يعودوا متأكدين من حيثيات هذه القضية وأصبحوا يترددون في إتخاذ موقف تجاهها. صحيح أن المواقف تناقضات و تضادّت، سواء بين السياسيين أو وسائل الإعلام. صوّرها البعض على أنها عملية سطو على ممتلكات عمومية بطريقة الحوز، و أن القبول بها يعدّ أمراً خطيراً و هتكاً لسلطة الدولة.. و احتفى بها البعض الآخر على أنها تجربة رائدة، بل يحب تعميمها على كل الجهات و الممتلكات العمومية. حتى نكون صادقين مع أنفسنا، كلا الطرفين على صواب، أو على الأقل كلا القراءتين يحمل شيئاً من الوجاهة. اذا، وجب أن نتناول هذا الموضوع بشيء من التجرّد و الموضوعية: 1. فلنبدأ بالاعتراف أن ما حدث في جمنة هو عملية "حوز" لممتلكات عمومية و من دون وجه حقّ "قانوني". لكن جدير بالذكر أيضاً ان هذا الحوز لم يحدث منذ أسابيع أو أشهر، بل هو أمر واقع منذ الثورة. أي أنّ أهل المنطقة انطلقوا في استصلاح الواحة و استغلالها منذ سنوات. و لو أنهم لم يعتنوا بها لكانت الواحة أهملت و فسدت كما فسد غيرها من الضّيعات.. يعني، بالنسبة إلى أهل المنطقة، مرّت عليهم سنين و هم ينظرون إلى خيراتهم تنهب أمام أعينهم، حتى قامت الثورة فآمنوا معها أن الهنشير من حقهم فخدموه... هم لم يحرقوا و لم يهدموا و لم يسرقوا كما فعل غيرهم في قصور الطرابلسية و ممتلكاتهم في العاصمة. هم زرعوا و عمّروا... 2. نقول "يرون خيراتهم تنهب أمام أعينهم" بما أنّه قد بان اليوم للعيان أنّ "هنشير الستيل" يحقق مداخيلا ً تعدّ بالمليارات، في حين أنه كان يكترى "قانونيّاً" لأحد المتنفّذين بالجهة بمبلغ... 10000 دينار في العام!!! شخصياً، أعتقد أنه من الوجيه فتح هذا الملف لما يحمله من شبهة فساد، أو على الأقل سوء التصرف في الملك العمومي. 3. في ما يخصّ إدارة المشروع، ثبت أنها إدارة ناجحة و أنها، علاوة على حسن الاستغلال للموقع، فهي قد خلقت ديناميكية إقتصادية في المنطقة، و سمحت بإنجاز مجموعة من المشاريع الاجتماعية بالجهة (مدرسة، سيارة إسعاف...)، احتياجات هي أكثر من أساسيّة، تقاعست الدولة المركزية عن توفيرها على امتداد عقود. 4. ربما يحمل أنموذج واحات جمنة شيئاً من الرومنسية الجميلة، يغري بتبني التجربة و اعتمادها في مواقع أخرى، و هذا صحيح. و لكن يجب الحذر، و كل الحذر من أن تصبح مثل الحالة مسوّغاً للبلطجة و الاستيلاء على أملاك الدولة بحكم "الحوز" فيصبح الأمر عبارة عن فوضى عارمة، يستغلّها اللصوص لوضع اليد على مقدرات الجهة.. نتذكّر كيف تحوّلت أكثر من ظاهرة "ثورية" إلى وسيلة استعملها البلطجية لتحقيق مآربهم أو مآرب أولياء نعمتهم... 5. على خلاف ما يشاع، ليست واحات جمنة حالة معزولة... الكثير من المشاريع أو الموارد العمومية وقع الاستيلاء عليها وقت الثورة. ربما ما تنفرد به قضية واحات جمنة -وهو في مصلحتها- هو أنها الحالة الوحيدة تقريباً التي لم تكن فيها عملية "السّطو" من قبل أحد الخواصّ أو المتنفّذين، بل قام بها مجموعة من المواطنين الذين تنظّموا في جمعية أهليّة. الجدير بالاهتمام أيضاً أن أغلب -و أخطر-حالات الاستيلاء على الملك العام من قبل الخواصّ وقع "تسويتها" في هدوء غريب (و مريب)، و نحن نتذكر جميعاً كيف صادق مجلس الشعب منذ أشهر قليلة على تسوية وضعيّة مقاطع الرخام العشوائية في تالة، بالرغم من كونها كانت عملية سطو خاصّ و عشوائيّ على ملك عامّ، في ما عدّ وقتها شرعنة للسرقة و البلطجة، بينما قامت القيامة و "وحل حمار الشيخ في العقبة" في قضية هنشير الستيل بجمنة، و هي لا تصبّ في مصلحة أحد أغنيائها أو متنفّذيها (كما هو الحال في أغلب عمليات الحوز الأخرى)، بل جمعية أهلية تمثل سكان الجهة جميعاً... 6. إذا يحقّ لنا أن نتساءل، ما الذي يمنع الدولة من تسوية القضية بإقرار كراء الهنشير من قبل جمعية واحات جمنة، و بقيمة رمزية، كما كان جاري به المفعول -و ينتوى القيام به- مع الخواصّ؟ يفترض أن أهل الجهة يتمتّعون بالأولوية، و بشيء من "حقّ الشّفعة" في استغلال الواحة. 7. مع أنني أؤمن بسلطة الدولة و بسلطة القانون، و لست من دعاة "الافتكاك الثوري"، فأنا أنظر إلى تعامل الدولة مع هذه القضية بكثير من الرّيبة.. يبدو أن الأنموذج الذي تقدّمه واحات جمنة هو في حدّ ذاته ما يزعج السلطة المركزية... لقد أخرجت واحات جملة إلى السطح قضية التصرف في أملاك الدولة، و تعامل السلطة المركزية مع بعض الجهات، كما أنها تقدم نوعاً جديداً من التعاونيات لا يحتاج فيه المواطنون إلى استقدام مستثمرين أو رجال أعمال أو أجانب لإدارة المشاريع أو لاستغلال الموارد المتاحة... و هي بذلك تقدّم منوالاً مختلفاً يحرّر روح المبادرة و يكسر الكثير من الاعتقادات أو المسلّمات.. يبدو أن هذا يخيف بعض الدّوائر، في الدولة أو من بين حواشيها -و هذا الأقرب للظن. 8. يتناسى البعض أننا قد صادقنا على دستور جديد يؤسّس للامركزية. و يفترض أن مثل هذه النماذج ستكون أكثر انتشاراً مع إقرار السلط الجهوية التي ستتصرف باستقلالية في ما تمتلكه من مقدّرات و تحاول ان توفّر أفضل الحلول الممكنة لمعالجة مشاكل أهل المنطقة، بينما يتحملون هم قدراً اكبر من المسؤولية في تنمية جهتهم، بدل استجداء التنمية من المركز أو النزوح بنحوه.. و هذا تقريبا ً هو بالضبط ما فعله أهل جمنة. رفض "السلطة" القطعي لما حدث في واحات الستيل يعكس مدى إيمانها باللامركزية، و ربما يفّر السّبب الحقيقي لتلكّئها المبالغ في تطوير الهياكل التنظيمية و الإدارية للانطلاق في المرور من القيم و العناوين إلى الواقع و القوانين العمليّة. باختصار، يبدو أن المجتمع المدني كان مرّة أخرى سبّاقاً عن الدولة في استيعاب الطرق الحديثة للحوكمة و التصرّف. و قد كان أحرى بنا إلتقاط العبر من هذه التجربة التي هي بالفعل فريدة و على غاية من الأهمية، بدل قراءتها بسطحيّة، سواء كان ذلك بالتّصفيق لها أو بشيطنتها.