بقلم حامد الماطري على هامش حفل افتتاح أيام قرطاج السّينمائية 2016، و بينما صدم الكثير من التونسيين بفجاجة العري و الابتذال التي قدّمها عدد من "فنّانينا"، في صورتتحدى مشاعرهم، بل أنّها افتقدت أصلاً إلى أدنى مقوّمات الأناقة أو الذّوق أو الجماليّة، كانت لنا بالرّغم من ذلك مفاجأة سارّة مع الرّسالة الجميلة التي أعطاها "مجد المستوري" اذ ارتدى قميصاً عاديّاً يحمل رمز آخر معاقل الثّورة التّونسيّة، "مانيش مسامح"... ليست المرّة الأولى التي "يفعلها" مجد.. لقد صرخ بأن "تحيا الثورة التونسيّة" من على منصّة أحد أهمّ المهرجانات السّينمائية العالمية في برلين، و لكنّ هذه اللّمسة اليتيمة أعادت إلينا ذكرى أصبحت بعيدة، عن بلد قامت فيه ثورة سرعان ما "عوّمت"، و اعتقدنا أن نارها انطفأت حتّى أتى هو ليذكّرنا أن ما زال للثورة بعض من جمر متّقد، و ان تغطّى بالرّماد. بعد سنوات قليلة من الهبّة الشعبيّة في 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011، و ما تبعها من ارتدادات في الدّاخل و الخارج (القصبة 1 و 2، الثورات العربيّة في أيامها الأولى و معانيها الجميلة)، يبدو أنّه لم يتبقّى من كلّ ذلك الزّخم الشيء الكثير.. فكرة الثورة يقع محاصرتها في تونس بعد أن وقع وأدها في باقي دول الرّبيع العربي. و الواقع يقول أنّ "مكتسبات" الثورة من دستور أو عمليّة محاسبة (هيئة الحقيقة و الكرامة) هي تنازع من أجل البقاء، و لا يمرّ يوم لا نرى فيه انتهاكاً للدّستور، أو حديثاً عن وجوب تعديله (و هو الذي حبره لم يجفّ بعد)، أو لا نرى تلاعباً بالإعلام أو توجيهاً للصّحافة (طوعاً أو غصباً)، أو تطبيعاً مع الفساد و الفاسدين، أو قمعاً للاحتجاجات الشّعبيّة، و مساعي حثيثة لضرب حياديّة القضاء أو تمييع لأي قضيّة ترفع تجاه أي مسؤول، من "البوليس" إلى "مستشار الرّئيس"... حتّى السّيادة الوطنيّة اهترأت و تشتّتت و صرنا اقرب إلى "اللّبننة"، تحرّرنا من قبضة "ديكتاتور" لنسقط تحت حكم مراكز النّفوذ و اللّوبيّات و حتى العصابات في الدّاخل.. تتحكّم في مصائرنا عواصم القرار و توجّهنا السّفارات، و بين التّسوّل و الإستهداف، لم يعد لنا لا حول و لا قوّة، و لا أيّ دور للتّأثير على ما يحدث من حولنا. و جاءت قضيّة استعمال القواعد العسكرية التونسيّة في العمليات الأمريكية في ليبيا لتسقط لآخر ورقات التوت عن باع طويل في الانخراط في المشروع الأمريكي في المنطقة، يعود إلى أيام الثّورة الليبيّة في 2011 (أي قبل حكاية البغدادي المحمودي بسنة) و مساهمة تونس في عبور السّلاح الى الثّوّار (بأنواعهم). أعتقد أن المنطق يفرض علينا أن نعدّل ساعتنا على توقيت زمن الثّورة المضادّة، و تحيين أساليب العمل و النّضال لاستعادة مسار الأمور. و لا يمكن المضيّ قدماً من دون استخلاص العبر من التجربة السّابقة. يخطئ من يلقي باللائمة على الباجي قائد السبسي و دوره في حكومة 2011، أو على الإعلام أو المنظومة القديمة... أولئك لم يكونوا يوماً في صفّ الثورة حتى نستغرب أنّهم ضربوها. من خان الثورة ليس أعداؤها، بل أولئك الذين أستؤمنوا عليها... - بكلّ ألم، العائلة الدّيمقراطيّة، جميعها و بدون استثناء. تلك التي اختارت التّصارع على الفتات منذ اليوم الأوّل و قبل أن يشتدّ عود الثّورة، فتشتّتت أنصافاً ثمّ أرباع، حتى استحالات جزيئات لا قيمة لها... استقوت على بعضها البعض بالتّجمّعيّين أو بالاسلاميّين، و تواطأت مع اللّوبيّات و رؤوس الأموال... و بينما كان شباب الثورة يحلم بأفق بعيد لثورته، عملت القيادات الدّيمقراطيّة "المناضلة" على النّزول بسقف أهداف الثّورة و مطالبها نحو السّقف السّياسي الذي إرتأته هي لها.. - الإتّحاد العامّ التونسي للشغل، للأسف، يتحمّل الإتّحاد مسؤوليّة تشويه معاني الثّورة و تحويله وجهتها و شعاراتها منذ الأيّام الأولى، ليتحوّل التّركيز من "مشروع مجتمعي تقدّمي طموح" إلى مجموعة "نضالات" قطاعيّة ضربت وحدة الشّارع و قسمت ظهر الدّولة، و لم يحقّق من تلك المرحلة أهدافه غير الإتّحاد الذي سعى ألى أن يصبح "أقوى قوّة في البلاد". شخصيّاً، لست ممّن يوافقون مقولة أن الإتّحاد "قاد الثّورة". بل أعتقد أن قواعده كانت منصهرة في الهمّ الشّعبي العامّ –و هو أمر عاديّ- و لكنّالهيئات المركزيةكانتعمليّاً أوّل و أثقل و أكثر من ركب على الثّورة حتّى أفقدها كلّ آفاقها و معانيها. - أحزاب اليسار التي أعماها الحقد الأيديولوجي على أيّ اعتبار آخر، و أسهمت في عنف الخطاب و تحويله إلى خطاب استئصالي بغيض و خطير، من دون أن يقيّموا عواقب هذا التّمشّي. و لما أرادت "الأطراف الخفيّة" العبث باستقرار البلاد و افتعال الأزمة، لم يكن أسهل لديهم من ضرب اثنين من قيادات اليسار التروتسكي أو القومي لاشعال نار في تركيبة هي أساساً سريعة الانفجار. - النّهضة، و التي تنكّرت لماضيها و لكلّ رصيدها النّضالي، و لتعهّداتها لشركائها في حلقة 18 أكتوبر أو في الترويكا، في الانخراط في المشروع الدّيمقراطي، بل تغوّلت و طمعت، و سارت تماماً على خطى التّجمّع، تقريباً في كلّ شيء... حتى "تنازلات صيف 2013" لم تكن فعلاً في سبيل تونس أو في سبيل الثّورة، بل خوفاً و رعباً من المصير الذي وجد الإخوان فيه أنفسهم. أسوأ ما في الأمر هو أنّ الرسالة التي قدّمتها النهضة للتونسيين أن السياسيين سواء، لا فرق بين مناضل و مستبدّ بالحكم، بل أنّها قالت للشعب أن المناضل هومشروع مستبدّ مع وقف التّنفيذ، و ريثما يصل إلى الحكم... و من ثمّ فهو لا يتوانى عن الاعتداء على النّاس، أو توزيع المناصب و العطايا على محسوبيه، أو التّطبيع مع الفساد و التّغطية عليه... - و أخيراً "النّخبة" التونسيّة التي كان الشباب الثوري يؤمن بها و يعقد عليها آمالاً كبيرة، حتى انكشفت ضحالتها و سطحيّتها، و افتقادها للمبدئيّة كما للمنهجيّة، فأضاعت اللّحظة التّاريخيّة في سجالات سخيفة، حتى صارت كلمة "نخبة" في تونس مقترنة بمفهوم "النّكبة". اليوم عاد التّجمّع في نداء تونس إلى الحكم. و كما الحال مع بعض الكائنات، يمرّ تطوّر الشّخصيّة التجمّعيّة من دودة إلى شرنقة إلى فراشة، في كلّ مرحلة يخلع رداءً (أو قناعاً) ليلبس آخر، و لا يفتأ يحاول استعادة ما خسره من مساحة، نفوذ أو سلطة، و إعادة عقارب السّاعة إلى ما كانت عليه الأمور قبل 2011. فسّخ و عاود؟ بقدر ما قد تلوح الأمور قاتمة، لا تزال بوادر الأمل قائمة و حقيقيّة. المنظومة السّياسيّة هي ضعيفة و منقسمة عند الثّورة المضادّة كما هي عند المعارضة، "النّداء" كأيّ "ائتلاف مصالح" يتفكّك مع كلّ حفلة تقام لتوزيع الغنائم... و هو اليوم استحال صدفةً فارغة، تعيش على شيء من التّنفّس الاصطناعي الذي يوفّره للحزب تواجده في مركز الحكم. حتى مشروع مرزوق، هو استنساخ لتجربة النّداء بكلّ مساوئها، مع التّنصّل (بوقاحة عجيبة) من دور أعضائه (من النّدائيين) في ما آلت إليه الحالة السياسية اليوم... إعادة نفس التجربة، بنفس المكوّنات، و توقّع نتيجة مغايرة هو من ضرب المكابرة. الاشكال الحقيقي هو في فراغ الساحة السياسية، و غياب "البديل السّياسي". على مستوى أوسع، يبدو أنإفلاس "النخبة" السياسية و الثقافية أصبح للأسف من الأشياء القليلة التي يتفق عليها الشارع التونسي بمختلف مشاربه. و كثيراً ما أصبح الإختيار مدفوعاً بأقل الأضرار أكثر مما هو من باب قناعة أو إنتماء.بينما أصبح العزوف أحد أهم مميزات الإستحقاقاتالسياسية، بل حتى تلك الجهوية أو القطاعية،و هذا يعكس حقيقتين: - إحباط التونسي من التجارب السابقة التي أعطته مثالاً سيّئاً جدّاً عن السّياسيّين و العمل السّياسي فعزف عنهما. - إصرار الفاعلين السّياسيين على عدم الإتّعاظ بأيّ من الدّروس و العبر التي يفترض أن يكونوا قد استخلصوها من الخيبات السابقة (و الحاليّة). اصرارهم على عدم تقديم طرح جديد و إكتفاء كل منهم بإدعاء كونه أقل سوءًا من غيره. لذا، أصبح العمل على تغيير الواقع بالعمل السّياسي –في شكله التّقليدي- أمراً في غاية الصّعوبة، خصوصاً مع التّضييق الذي تمارسه مختلف القوى من إعلام و لوبيّات و دولة عميقة على أيّ صوت يشتبه في قدرته على كسر الجمود الحاصل. لكنّ نماذجاً مضيئة مثل "جمعيّة جمنة" (في ثباتها و تضامنها و وحدة صفّها) أو "مانيش مسامح" تقدّم سبلاً جديدة لشقّ طرق جديدة في النّضال ضدّ الثّورة المضادّة و الدّفاع عمّا رسمته – أو حقّقته ثورة تونس 2011، ريثما يصل المزيد من الشباب الذي فتح عينيه على وهج الحرّية و شعارات الثورة، و يتكفّل الزّمن و "نظريّة التّطوّر" بإحالة جيل الفساد إلى التقاعد ما لم تنجح الثورة في إحالتهم إلى قفص المحاسبة. أتمنى أن يولد من رحم "شباب الثّورة" انموذج جديد للعمل السّياسي ينجح في توحيد القوى المناضلة من جديد و يعيد بوصلتها إلى الإتّجاه الصّحيح بعد أن تاهت عنه لسنوات بوقع قيادةٍ قطعاً لم تكن في مستوى الأحداث.