بقلم: شكري بن عيسى (*) والبلاد اليوم صارت على صفيح متحرّك، من انهيار شبه كامل لهيبة الدولة، بين انفلاتات في التصريحات من الوزراء، في الداخل ناجي جلول الذي تسبب بتصريحاته المنفلتة احتدادا كبيرا في الساحة التربوية كلفه العزل، والزريبي وزيرة المالية التي تسببت تصريحاتها العشوائية المضرة تعميق تدهور الدينار وكلفتها هي الاخرى العزل والشارني باتهام جزء من جمهور الافريقي بالارهاب، وفي الخارج المؤخر الذي كاد يتسبب لنا في ازمة ديبلوماسبة مع الشقيقة الجزائر لولا تنديد الشعب الواسع بتصريحاته العدوانية.. اضافة الى الاشتعال الواسع من الجنوب الى الشمال مرورا بالوسط والساحل، احتجاجات تطاوين المتصاعدة وبعدها الكاف قبل ان تلتحق بهم القيروان والمهدية، وتم خلال تنقل الشاهد للجنوب رفع "ديغاج" في وجهه قبل ان يتم قطع زيارته، ما اظطره لالغاء زيارته في نفس الاسبوع للقيروان وايقاف (او تعليق) بقية الزيارات، ومع التدهور غير المسبوق في الثقة ازاء القصبة وقرطاج، والارتفاع القياسي في نسبة التشاؤم.. والبلاد على هذه الحال من الاحتقان كان منتظرا من السبسي الظهور، بعد ان خسر كل شيء او يكاد. لكن ما يلاحظ هذه المرة ان ردّة الفعل كانت سريعة، والتصرّف كان فوريا مباشرة منذ ظهور المؤشرات "الحمراء" في استبيان الزرقوني يوم الجمعة 5 ماي، والحصيلة بالفعل هذه المرة كارثية جدا اذ السبسي يخسر دفعة واحدة 14 نقطة ليسقط الى درجة رضا اقل من 38%، والشاهد ايضا يخسر دفعة واحدة ما يزيد عن 10 نقاط لينزل الى نسبة رضا في حدود 54,6%، أما نسبة التشاؤم للتونسيين فوصلت حدا كارثيا وفاقت ال80%، وكأن الامر (الكلمة) تم التحضير له قبل نشر النتائج الجاهزة قبل يوم (اي الخميس)، وكالعادة يتم "تسريب" خبر الخطاب "الهام" عن طريق الاذاعة "الاكثر استماعا" التي "علمت" ب"الخبر" منذ التاسعة صباحا يوم الجمعة. والاذاعة "الاكثر استماعا" صارت الحقيقة بوقا دعائية لقرطاج يقع اعلامها عبر الطرق "الموازية"، من ناحية حتى يقع تضخيم الخبر باسناده للمجهول الذي يفخّم الحدث، ومن اخرى حتى يترك هامشا للرئاسة للتحرّك تحته ولا تلتزم بالامر عند "الضرورة"، ويبدو هذه المرّة أنّ أغلب الطرق الاتصالية أستنفذت واستهلكت من الحوارات المعدّة سلفا الى الاخرى المركّبة، وفي الظروف الحالية يبدو أنّ الرئاسة لم تجد من حاشيتها من "الصّحفيين" من يغامر ويقوم بحوار تزويقي، فاضطرت اضطرارا لاسلوب ثاني اعلنت عليه الاذاعة المروّجة ل"الكلمة" بأنها ستكون في شكل "اجتماع عام"، وهو ما سيعطي ربما في الشكل اطارا مغايرا. غير أن المشهد الوطني الذي يتنزّل فيه "الخطاب" لا يسمح الحقيقة بهامش ولو صغير لمضامين جديدة ومغايرة، كما أنّ أداءه القاصر في الرئاسة في نطاق اختصاصاته الحصرية في الخارجية خاصة لا يسمح بهامش مناورة، فضلا عن أنّ تدخّله في الاحتجاجات سيكون دوسا على مجال اختصاص الحكومة، ونفس الشيء بالنسبة لانهيار الدينار والصعوبات الاقتصادية، أمّا الحديث عن مشروع قانون "المصالحة" فهذا ايضا ما سيزيد في تعكير الامور باعتبار ان طرح هذا المشروع من بين اسباب التأزم الحاصل اليوم. والسبسي الذي، ربما يكون خطابه بين يومي الثلاثاء والخميس والارجح ان يكون الاربعاء، سيجمع الاحزاب والمنظمات الوطنية والسفراء والمنظمات الدولية، ربما قد تقاطع المعارضة (في جزء كبير منها) خطابه فيكون الفشل مضاعفا، اذ انحيازه المبالغ للاحزاب الحاكمة وخاصة النداء افقد ثقة المعارضة فيه، واليوم هناك احزاب مقاطعة بل مهاجمة له على راسها حزب سليم الرياحي، خاصة وانه في مرات سابقة حصلت انسحابات علنية بسبب أخطاء برتوكولوية مقصودة، واليوم لا يبدو أن الصدع تم رأبه. أمٌا الاشكال الاخر فهو توقيت الخطاب، اذ أن خطابا في النهار سيفقده كل متابعة وبالتالي كل اهتمام، أما الخطاب الليلي فهذا أمر شبه مستحيل وهو غير اعتيادي في المشهد السياسي، ويبدو أن اثر "الصدمة" المنتظر لن يحصل مع غياب بدائل حقيقية عميقة، ومع فتور "الكتيبة" الاعلامية المعتادة التي كانت تقوم بالدعاية والتضخيم، وفقدت اليوم "أظافرها" مع الخيبات المتتالية في جبر الشقوق، ولن يحقق بذلك على الاغلب ما ترتجيه قرطاج من اعادة ثقة اصبحت في ادنى مستوياتها. السبسي الذي صار اليوم حسب استبيان "سيغما كونساي" في المرتبة السابعة في نسبة "الثقة"، يتقدم عليه سامية ومحمد عبو والصافي سعيد ومورو وجلول وحتى الحبيب الصيد، وتآكل رصيده لا ندري الحقيقة ما الذي سيقدمه ليسترجع ولو جزءا قليلا من الثقة، خاصة وان "مكافحة الفساد المالي والاداري" تحوّلت حسب نفس الاستبيان على راس اولويات التونسي بما يقارب 21%، والحال انه في المقابل يطرح مشروع قانون للعفو عن اللصوص والفاسدين، أما غلاء المعيشة والبطالة وغياب التنمية فصارت الهاجس الاكبر مباشرة في المراتب الثالثة والرابعة والخامسة، على التوالي بنسبة اهتمام ب 15,3% و14,9% و8,8%، ولا ندري ماذا سيغير في تدهور مؤشراتهم، اللهم سيقدم لنا معجزة في ظل انهيار الثقة الحالي. ساكن قرطاج الذي بشّر قبل اكثر من سنتين ونصف الشعب بان النداء له برنامج اقتصادي "كي تشوفوه تدوخو"، وبشّرهم بعودة "هيبة الدولة" لم "يفلح" سوى في ارجاع تماثيل بورقيبة وقانون المخدرات والهامشيات الاخرى التي تثير الفرقعات الضوئية، وعجز عن تحقيق سيادة القانون الذي اوصلنا نجله حافظ مع الشاهد الى حد تعيين معتمدين بلطجية لا يمتلكون شهائد "السيزيام" و"النوفيام"، وداس منذ ايامه الاولى الدستور المسؤول عن السهر على احترامه، بالاعتداء على الحقوق والحريات وخاصة الاعلامية بعد فضائح طلب منع بث حواري المرزوقي ورضا بلحاج والتنكيل بمدير موقع "نواة"، والاعتداء على استقلال القضاء بتعطيل المجلس الاعلى للقضاء والتدخلات التي ادانتها الجمعية، فضلا عن تعطيل ارساء الهيئات الدستورية والخروقات الاخرى، أما الوحدة الوطنية التي يمثل "رمزها" بموجب المعيار القانوني الاعلى للدولة فقد تشظت في عهده واخرها مع مشروع قانون المصالحة الذي تسبب في شرخ عميق اجتماعي وسياسي. ولا ندري اليوم الى اين سيهرب وهل سيخيّر كعادته على الطريقة البورقيبية الفرار الى الامام، وسيحمّل الشاهد فشل السياسات الاخيرة والوضع المنهار مثلما فعل مع سلفه الصيد، بعدما مسح فيه كل مسؤولية عما يقارب سنة ونصف من الاخفاقات، ولا ندري اليوم ان كان سيتجه في هكذا خيار كيف سيقنع الشعب بان الشاهد لم يكن "صنيعته"، وقد يتجه الى الدعوة الى تحوير حكومي لا ندري مداه وفلسفته، وفي كل الحالات فهذا سيعتبر تدخلا في الشأن الحكومي وخرقا فادحا للدستور، وفي خيار اخر قد يتجه للبحث عن توسيع صلاحياته الدستورية وطلب تحوير الدستور يعلم انه مستحيل بالنظر للتوازنات السياسية الحالية، لادخال البلاد في جدل ليحجب الاخفاقات ويغطي على الفشل. وقد يكون الاتجاه ايضا نحو القبضة الامنية باعلان مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية عبر الالة الامنية، وما يعنيه ذلك من انهيار اجتماعي لا يعلم مداه احد في وقت تحتد فيه الامور للاقصى، وسيدخل المؤسسة الامنية وربما العسكرية على خط التأزم، والاغلب انهم سيرفضون هكذا توجهات ستضر بصورتهم ومؤسساتهم وتعافيهم، فضلا عن عدم امتلاكهم القدرات لمثل هذه المواجهات مع ابناء شعبهم الذي يعاني وسيرد باقوى ما يمكن، حالة طوارىء اليوم تستمر على مدى سنوات واحتقان طغى حتى على ملاعب الكرة، والاحتقان الاجتماعي يعم الجهات، ولن تقدر على الاغلب اي الة بطش قمع الاحتجاجات المتعددة. وسيعجز ايا كان التكهن بما ستحتويه "الكلمة" من "رسائل" بالضبط، برغم اعلان الاذاعة "الاولى" في "خبرها" بان الخطاب سيتمحور حول "الاحتجاجات الجهوية" و"مشروع قانون المصالحة" و"اداء حكومة الشاهد" و"الوضع العام في البلاد"، ولكن الثابت تقريبا ان الخطاب لن يحقق شيئا جديدا يصلح الانكسارات المتتالية لانه ببساطة لن تقدم الخطابات سوى الكلام الذي ملّ منه الشعب، واصبح لا ينتظر سوى الافعال التي غابت واصبحت شحيحة جدا، وزاد في فقدان الثقة استفحال الفساد ومزيد تحصين القطط السمان من كل محاسبة، التي يزداد اليقين كل يوم بأن من سيلقي الخطاب اصبح الاكثر استماتة في الدفاع عن افلاتهم من العقاب!! (*) قانوني وناشط حقوقي