أيمن عبيد ألمانيا ما انفكت أرض الإسراء المعطاءة، تجود على أمتها و الإنسانية جمعاء بالمبعوث يتلوه المرسال، للتذكير و التثبيت، و هي الخنساء التي لا تثنيها آلامها، عن عزائم الأمور و التحريض، تأبى على فلذات أكبادها، إلا أن يكونوا في المحرقة شموعا لا حطبا، تذوب منيرة سبل الرشاد و الأمجاد. و رسولها الأخير و ليس الآخر، بطل و فارس همام، لم يترجّل بل إرتقى فرجلاه كسيحتان، و كأني بروحه الزكيّة بعد الشهادتين تذيب الكون إنشادا، لأبيات شاعر الخضراء: "سأعيش رغم الداء و الأعداء كالنسر فوق القمة الشماء". حاولت إستقراء صورته تلك و فك رموزها، إيمانا منّي ، بأنها حبلة في ثناياها، بخلاصة حقبة بأكملها، و حاملة لسرّ الخلاص في محيّاها. فما أسعفتني النباهة، إلا بعدما إستحضر ذهني شقيقتها، بل توأم روحها، أعني ذاك القعيد الذي كدح في تونس إلى الإقتراع و الصندوق، تاركا ملايين من خلّانه، و هم في المقاهي القعداء. فما هي فحوى الرسالة و مغزاها؟ و إلى من وجه صرختها هذان البطلان؟ و لعمري لو إستنّ، أرهف الرسّامين حسّا ريشته، و مراده تجسيد حال همّة الأمة و عزم أبنائها، في صورة حسّيّة مجرّدة، لما كانت لوحته أبلغ تعبيرا و لا أدقّ توصيفا، من صورة هاذين الهُمامين الإثنين. فثقافة إقتحام الصعاب، و الجرأة و الإقدام على تجشّم أعباء النصر و تكاليفه، و الصبر و المصابرة على طول دربه و إلتواءات طريقه، و الثقة بالنفس و اليقين بالفوز و لو غاب بصيصه. كلّ تلك المعاني تؤسس لإيمان بالقدرة على مواجهة الأوضاع القائمة، بل و عوض أن نكون مجالا لفعلها و تأثيرها، نعيد تشكيلها على الشاكلة التي نريد. و ذاك هو منطق المتوكّلين لا المتواكلين، و تلك هي ثقافة المواجهة و الإقتحام التي قال فيها رب العالمين: " ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ". و إن هذه الثقافة و لئن تجلّت في هاذين المكافحين، لتنبأ بأنها في هذه الأمة خليلة و سليلة، باقية في توهّج و إتّقاد إلى يوم يبعثون، إلا أنها مثلهما، كسيحة مبتورة الساقين، ترزح بالأعباء و تنتفض من تحت أركام التراب، و تتململ مثقلة بغبار التقاليد البالية و حطام التراث. فقد تسربت لنا من عصور الإنحطاط، ثقافة أخرى، مسرفة في التخويف و التيئيس، حتى كبّل تعظيم الأعداء و تضخيم المصاعب، بالمحاذير كل تجارب النهوض و مساعي التغيير. فساد بين الشباب منطق الهروب من الواقع و القعود عن تبديله، فمنّا من إستأنس بمخدّر أو حانة تلهيه، و منّا من إرتمى بين الأمواج و قد خال، أن هجر الديار من واقعها ينجيه، و منّا من إتخذ من التأسلف أو التصوّف أفيونا و قوقعة تنسيه، و أما الباقي ففي اللمم و السفاسف و اللغو إنغمس، فأضحى الشأن العام و كبائر الأمور، شيء لا يعنيه. و إنه الإطناب في تعداد عناصر التعقيد و ذكر العراقيل ما يكردس في النفوس أكوام التشاؤم بعضها فوق بعض، حتى يحتجب شعاع الأمل و ينسدّ بالذرائع الأفق. و لا استغراب بعد ذلك، إن انعقد الإجماع على القعود، الذي أضحى من الحصافة و بعد النظر، بل و صارت محاولات الإصلاح و التغيير موصوفة بالسذاجة مذمومة، فما هي في عرف القوم، إلا تبديد للوقت والجهد، لا طائل من ورائها و لا فائدة ترجى منها و لا نفع. و بهذه السّلبيّة في التعامل مع الطبيعة و المجتمع، تتكون أرضيّة خصبة لتبريرات التسليم و الركون للخنوع او الإنتحار و الهروب بأشكاله المختلفة. و الخلاصة أن رسالة المقعدين، من تونس حتى فلسطين، ما كانت للظلم و الظلّام، بقدر ما هي موجهة للخانعين المظلومين، و من تخلّف وراءهم، عن محطات الكفاح و النضال، من أترابهم المتقعّسين القاعدين، الذين لولا أن الإستبداد إطمأن لخنوعهم و نعستهم السادرة و إستشراء قابلية الإستعمار في نفوسهم، لما استخفّ بهم و لا استحل حقوقهم و أملاكهم، و لما وجد أذنابه موطئ قدم بين صفوفهم، فإن عمّت اليقظة و تفتّحت العيون ثم إنعقد العزم على المواجهة، انقطعت أسباب الهزيمة و انزرعت بذرة النصر، التي حتى و ان لم نجني ثمارها، فيكفينا شرفا أن نموت و نحن في طريقها سائرون. و بصريح العبارة، فإن الشهيد فادي أبو صلاح و أخوه التونسي، مثّلا إشراقا جديدا لثقافة المواجهة، هاتك لحلكة ذرائع الهروب، و قاطع كل سبيل عن مبررات التهرب من المسؤولية. و الأمة اليوم في خضم التحولات الكبرى و إعادة تشكيل الخرائط، بين خيارين لا ثالث لهما، فإمّا أن تستمسك بأمل النهضة حتى تنبت لإرادة المقعدين سيقانا، فتقتحم النظام العالمي الجديد و قد شقّت لنفسها فيه طريقا نحو القمم، أو أن تخضع لنداء التخويف الذي يصطنع لها غيلانا تكبّلها، فتخنع مع القاعدين و تقرفص بين الحفر. رافعة شعار بني إسرائيل، عندما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة: "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ"