بقلم: شكري بن عيسى لعلّ الحوار المباشر الذي دام الساعة أو يزيد قليلا، الذي انتظره الشعب في ظل أفق وطني سياسي واجتماعي واقتصادي غامص وملتبس، ان كان له من فضل واضافة تذكر، فهي تلك المقارنة العميقة ولكن الطريفة التي أجراها الرئيس بين حافظ والشاهد، الابن البيولوجي والابن السياسي، اللذان انقلبا عليه دون رغبة منهما، الأوّل الذي خلق مناخ الانقلاب بتعبيد الطريق من خلال رداءته السياسية والشخصية المقيتة، والثاني بانجاز المهمة الانقلابية بنجاح برغم رداءته هو الآخر في الادارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن فارق درجات الرداءة جعل الاول يغرق مركب النداء الذي ساهم كل قيادته في الثقوب العديدة، والثاني يسرق كل ما فيه من "أشياء" فاقدة للصلوحية (على المدى القريب) عبثا لبيعها في سوق لم تعد عملتها تتضمن أيّ قيمة شرائية سوى للفتات. يسعفنا المفكّر والفيلسوف الكندي Alain Denault لفهم وتفكيك الواقع الحالي للبلاد، من خلال مقاربته حول "نظام الرداءة" السياسي أو ما يسميه "الميديوكراسي" la Mediocratie، هذه "الدكتاتورية" غير المرئية لكنها منتشرة واسعا فرضت نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي عام يضرب مبادىء الجدارة والاستحقاق والمساواة والابداع، ليكرّس مفاهيم الرداءة وثقافتها في عمق منظومة كاملة في مستوى الاهداف والادوات والشخوص، منظومة قائمة ممتدة الجذور ولكنها تعيد انتاج نفسها باستمرار وتسنسل تمظهراتها ولكن أساسا أزماتها المتعددة، التي تُغرق المجتمع فيها وتفرضها عليه وتقدم "روّادها" الذين تسببوا في التردي كمنقذين من الشرور "القدرية" التي لم ينتجوها، ولكنها (حسب ترويجاتهم وسردياتهم) من "طبيعة" الواقع الذي تحكمه قوانين أزمات من حين لآخر لا مفر منها. القاء المسؤولية على "الصلاحيات" اليوم تونس في أتون الأزمة، ولا نكاد نتزحزح عن الأزمة لنقع في أزمة جديدة أكثر جذرية، والمسألة صارت جوهرية بنيوية، ومع ذلك الكلّ وخاصة في الحكومة يقدّم نفسه في ثوب "المنقذ"، السبسي ربما الوحيد الذي أقرّ بعجزه أو ما سمّاه بمحدودية صلاحياته، بعد أن كان الآمر الناهي الحاكم بأمره، اليوم يلقي بالمسؤولية على الدستور، الذي يطالب بتنقيحه ولكن مع تحديد مهم بتنفيذ الطلب بعد 2019، ولكن أيضا على من أخرجه من الظلام ووضعه في أعلى السلطة التنفيذية، ولم يستثن ابنه الذي لم يجرأ على تحميله المسؤولية مباشرة، لكن الرسالة العامة كانت واضحة بوضعه في نفس خانة الشاهد.. في منظومة الرداءة لا يمكن ان نصل الا الى الانسدادات المتتالية، واقصى ما ينتظر من السبسي هو الاقرار بوجود بلوكاج، ولكن عدم تحمّل المسؤولية بل الالحاح بان اختيار من يحقق اليوم الفشل ليس خطأً، ولكن المفيد أو الطريف أو الدرامي الكوميدي في نفس الان هو التشخيص الدقيق لطرفي منظومة الرداءة الاساسين دون اهمال الطرف الثالث الذي سنعود عليه، باستهدافه الشاهد الذي لم يتوان على وصف نتائج حكومته بنعوت تحمل معاني الفشل، عبر التركيز على مؤشرات الاقتصاد من نسبة مديونية وحجم ارجاع الديون ومخزون العملة الصعبة وصول لتدهور المقدرة الشرائية، وقبل ذلك وصف الوضع اليوم بالأصعب بالمقارنة مع اخر ايام بورقيبة، لينطلق في القصف المتواصل تارة بشكل مباشر وطورا باستدعاء الرمزيات والامثال. "الابن الطالح".. و"اذا كان الغراب دليل قوم"؟! السبسي اعاد كلمة انه هو من جاء بالشاهد (للتذكير بانه هو صاحب الفضل) اكثر من مرة، كما انه ركز على مصدر الشرعية الشعبية المباشرة بالنسبة له كما للبرلمان، وجعلها غير مباشرة بالنسبة لرئيس الحكومة، قبل ان يمر للاحكام المباشرة ضاربا شرعية الشاهد راسا باعلان "انتهاء حكومة الوحدة الوطنية"، باعتبار اعتراض الاتحاد والنداء واتحاد الاعراف والى وقت غير بعيد الاتحاد الوطني الحر، طالبا منه (في شكل نصيحة) التوجه للبرلمان (بتطبيق الفصل 98 للدستور) بعد ان اعلن هو عدم تطبيقه (حاليا) الفصل 99، مركزا على "فقدان الشاهد للشرعية" اليوم، وفي صيغة ثانية "هو بدون شرعية" ما يستدعي الذهاب للمجلس، ولو انه يعتبر انه يمتلك اليوم "اغلبية برلمانية"، لكن يعود ليصفه ب"سي فلان" ولم يسميه معيدا كلمة "امشي توة للمجلس"، والتكرار وصل حدودا عالية بعد الطلب الاول في الحوار السابق قبل اكثر من شهرين، وفي مرة اخيرةالعودة الى كلمة "ننصحوا" التوجه للبرلمان، مع اشارة مبطنة فيها تساؤل للتحقق ان كانت النهضة ستمنحه صوتها.. الشاهد الذي اعتبر انه "ما تولدش رئيس" وانه هو من اختاره، رماه بنعوت حادة ولو بطريقة الاشارة البليغة، من قبيل اعتبار "معركة 2019 انطلقت قبل عامين"، والاشارة لا تخفى انها موجهة له وبما يعني توظيف وسائل الحكم للغايات الشخصية الامر الذي اطنب فيه في الخطاب السابق، مستدعيا المنجد المألوف في كلام عن "الابن الطالح" والاكثر حدة "اذا كان الغراب دليل قوم"، في اشارات مزدوجة المعنى ولكنها سلبية وسيئة الدلالة والمرمى، بعد ان طلبه بوجوب ان يراجع اموره، ولو انه في نفس الوقت يعتبره انه "لن يأخذ بنصيحته" بالرغم انه هو مصدر تعيينه، في اشارة مزدوجة الى ابنه الذي اكد انه لم يكن هو السبب في تعيينه في النداء، وبانه الوحيد في الهيئة السياسية (اضافة للرميلي) الذي لم يحصل على وزارة. "ارحل" مقنّعة.. في وجه حافظ حافظ الذي ان لم يحمله المسؤولية بقوة فانه وجه له خطابا غاية في قوة المعنى، باستدعاء تخلي المساترية على بورقيبة الذي تسبب في رحيل بورقيبة، مذكرا اياه بانهم (اي المساترية) اصبحوا ضده، وكلمة "كان يسمع كلامي" بليغة ولا تحتمل الا معنى "ارحل" فانك في قلب العاصفة المدمرة، مذكرا نجله بما قام به قبل عشرات السنين "انا ذاتي خرجت.. لاني كنت اعلم ان بورقيبة مستهدف"، في مماثلة اليوم بوضعه هو الذي وصل حد "الاستهداف"، الذي اشار اليه في مقطع ثاني بوجود "حملة مسعورة حول التوريث الديمقراطي"، وطبعا لا اظن انه توجد كلمات اقوى في التعبير لطلب "الرحيل". اطلاق النار على الشاهد وحافظ معا المعبّر بالفعل فضلا عن اعترافه في خصوص شخصه بشكل او باخر بالفشل، من خلال الحال الذي وصلنا اليه ومن خلال ما تناوله من قضايا في وضع مختنق، هو اصداره الحكم المباشر بالاخفاق على ابنه كما الشاهد، معتبرا في مقطع اول ان "تونس فاها كفاءات معتمة علاها" في اشارة للشاهد الذي لا يظهر الا شخصه، وفي مقطع ثاني "لو حافظ والشاهد يمشيو تونس ما تتضررش"، قبل "اطلاق النار" المباشر صوب الاثنين "كان يمشيو الاثنين حافظ والشاهد في مصلحة البلاد"، وفي الخاتمة "الشاهد ما ينجمش يواصل"، وهو ما يعني انه لن يتحمل بعد اليوم مسؤولية هذا الاختيار الذي فشل. اطلاق النار على "التوافق" رمي المسؤولية على الاخر برز في اعلان انتهاء "التوافق"، هذا الشكل من الرداءة الاخرى في ادارة الشأن العام، الذي اوصلنا الى هذه الوضعية المتردية، السبسي اعلن "موته" ولكن لتحميل النهضة تبعات خياراتها، والتمخضات التي ستحدث السنة التي مازالت قبل مواعيد 2019 الانتخابية، والنهضة اليوم بانحيازها للشاهد (ولو انها ستواجه مرحلة معقدة في التعامل معه بتمركزه اكثر في الساحة) تمارس اليوم مستوى آخر من الرداءة السياسية بمجاراة الواقع والارتماء في حضن "الصاعد"، والخضوع للخيارات الخارجية المدعمة له، النهضة الفاعل السلبي عبر "المنع" السلبي بعد "التذيل" للنداء والسبسي طويلا الذي دمر البلاد، "المنع" السلبي غير الخلاق والمبرر لمنطق الاقوى والفائز والمنخرط في المنظومة الدولية والرافع لشعار تلافي الاسوأ لتسويق السيء كنجاح وانجاز.. وهو توجه انهك البلاد باستناده الى مرتكزات سياسوية مصلحية ضيقة، اوصلتنا الى قمة التردي السياسي، وضربت المنظومة السياسية، التي طغت عليها قواعد الانتهازية واستعمال الحكم للتمركز السياسي والغنيمة، على حساب القيمة السياسية والانتقال الديمقراطي وتكريس خيارات الشعب وتفعيل النظام البرلماني (المعدّل)، الذي انقلب رأسا على عقب مع الشاهد، حيث لم تعد الكتل هي من يحدد الحكومة، بل صارت الحكومة تصنع كتلتها، وكرست في "ارقى" درجة "السياحة الحزبية"، وجعلت البرلمان اكبر ساحة ل"الميركاتو السياسي" للنواب، في تكريس فظيع للفشل لقائدي اللعبة الشاهد وحافظ، وطرفي الازمات حزبي النهضة والنداء دون التغافل عن السبسي وصديقه اللدود الغنوشي، ولكن ايضا تجذر منظومة الرداءة التي صارت اليوم ثقافة سياسية عميقة ومنظومة اجتماعية ثابتة !!