محمّد فضل الله الزغلامي كثيرون تحدثوا عن انعكاسات قضية اختفاء الصحفي جمال خاشقجي، ومقتله الذي بات أمرا مقضيا، بعد أن استفرد به صلاح الطبيقي، مدير الطب الشرعي السعودي، فقطع جسده، حيا، داخل مبنى قنصلية الرياض، تماما كالضباع، وفق ما أوردته مصادر إعلامية. وبحسب آخر الأخبار، فإن جمال خاشقجي يكاد يقتل قاتله. ولا أتحدث هنا عن مشعل سعد البستاني، الملازم في سلاح الجو السعودي، والذي أعلنت صحيفة "يني شفق" التركية مقتله بعد تعرضه لحادث سير في بلاده. وللإشارة فإن مشعل يعد البستاني، واحد من الخمسة عشر متهما في الضلوع في قتل الكاتب بصحيفة "الواشنطن بوست". ما أعنيه هو أن الضحية الآن تحاصر من أمر باغتيالها، تؤرق مضجعه وتكاد تمزق خيوط حكمه، وتفتت رويدا رويدا علاقاته في الداخل والخارج. فقد نقلت "لوفيغارو" الفرنسية صباح أمس الخميس، عن دبلوماسي في "باريس" قوله "إن هيئة البيعة في السعودية شرعت منذ أيام في تعيين ولي لولي العهد، تمهيدا لعزل محمد بن سلمان"، مضيفة أنها حصلت على تأكيدات بخصوص ما نشرته من قبل مصدر سعودي في الرياض. وكانت هيئة علماء السعودية، دعت في بيان لها إلى عزل ولي العهد، بعد أن "بان فسقه وقتل نفسا بغير حق". الزلزال الذي أحدثه جمال خاشقجي، ميتا، لم يكتف بزعزعة حكم من لقبه رئيس الولاياتالمتحدة الأمريكي ، دونالد ترامب، ب"القاتل". حيث يشهد منتدى "مستقبل الاستثمار" المزمع عقده على الأراضي السعودية، الأسبوع المقبل، موجة من الانسحابات كان آخرها لوزير الاقتصاد الفرنسي، "برونو لومير". وقد أعلن ذلك في تصريحات لوسائل إعلامية محلية، قائلا :"لن أذهب إلى الرّياض الأسبوع المقبل، فهناك وقائع جادّة حول اختفاء الصّحفيّ جمال خاشقجي يجب توضيحها، ولذلك لن أذهب إلى الرياض". هذا ويتوقع مراقبون أن تلقي جريمة محمد بن سلمان بظلالها على السياسة الخارجية السعودية، خاصة وأن السلطات التركية، نجحت من خلال تعمدها تسريب الأنباء المتعلقة بالقضية الحدث، على طريقة المسلسلات، في دفع ممثلي القوى العظمى في العالم إلى التخلي عن الصمت الذي وصل في أحيان كثيرة إلى حد التواطئ، إزاء الانتهاكات التي ترتكبها المملكة وحلفاؤها، في اليمن، والمنطقة. وعاد الحديث مؤخرا عن الحصار الغاشم الذي فرض على دولة قطر، وربما الكويت قريبا، إذا ما أخذت العزة بالإثم، "الفتى الطائش". ويتوقع الكاتب التونسي، نور الدين العلوي، في هذا السياق، أن تعود الرياض إلى ما أسماه سياسة "الأخ الأكبر"، فتتجنب التدخل المباشر في شؤون الدول المجاورة، وتقلل من تأثير الإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي من شأنه أن يغير، وفق ما ذكره في مقال له، من موازين القوى في مصر خاصة، ودول الربيع العربي بشكل عام. ولئن بات من المؤكد أن المملكة العربية السعودية، ما بعد انتهاء صلاح القطيبي من الاستماع إلى موسيقاه المفضلة، لن تكون بسياساتها الداخلية والخارجية، كما كانت قبل أن يُشغِّلها. وبالرغم من أن التغيرات الراهنة والمتوقعة، تمثل إشارات إيجابية بالنسبة للأمة العربية والإسلامية، إلا أن تغييب شخص في قيمة جمال خاشقجي، يمثل حسب رأيي، ضربة قاسمة في مسار إلحاقها - أي الأمة العربية والإسلامية - بركب الأمم المتحضرة. ففي الوقت الذي كان يجلس فيه، وما يزال، يوسف العتيبي، إلى مائدة نظيره الإسرائيلي، بهدف تشويه الإسلام السياسي، ووأد آخر شرارة الربيع العربي، كان شهيد الصحافة يكتب بصفة دورية، مقالات بأعرق الصحف الأمريكية، فيحد من خلالها، ولو بنسبة طفيفة تحركات السفير الإماراتي لدى واشنطن. وفي إحدى مقالاته بصحيفة ال"واشنطن بوست"، قال جمال خاشقجي إن على المملكة العربية السعودية، إنهاء صراعها العدمي مع جماعة الإخوان المسلمين، داعيا إياها وإدارة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى التسليم بأنه فصيل يحظى بقاعدة شعبية واسعة في العالم العربي، وبالتالي فإن أي صدام معه لن يجلب سوى الفوضى. فضلا عن ذلك، فإنه وبالعودة إلى مسيرته المهنية، تمكن جمال خاشقجي من الاقتراب من دوائر الحكم في الرياض، وبعقلانيته ونقده الهادئ، كان له وقع على شخصيات نافذة هناك، وكان دائما ما يشدد على أنه ناصح للدولة، لا معارض لها، ما منحه، ربما، القدرة على تأليب أصحاب القرار في المملكة العربية السعودية ضد تهور ولي العهد الحديث. ولتوسيع المشهد، فإن الإعلامي السعودي سعى قبل أعوام إلى انتهاج نفس السياسة الهادئة تجاه محمد بن سلمان، لكنه وأمام حملات الاعتقالات والتضييق على الحريات تيقن بأنه لا أمل يرجى من هذا الأخير، فأشهر قلمه في وجهه. وقد نجح جمال خاشقجي عبر كتاباته في تعرية ما دفعت "العربية" و"عكاظ"، أموالا طائلة، لحجبه عن العالم الخارجي، وفند أسطورة "الإصلاحات" و"2030"، وغيرها. وقبل محاصرته داخل مبنى قنصلية بلاده في تركيا، كان ينوي الصحفي السعودي، بعث مشاريع ذات فوائد مهمة للبلدان العربية. وقد كشف صديق له، لشبكة "أسوشيتدبرس" الأمريكية، أنه كان يعمل جنبًا إلى جنب مع مثقفين وإصلاحيين وإسلاميين لإطلاق منظمة تحمل اسم "الديمقراطية للعالم العربي"، وكان يود إنشاء منظمة إعلامية للمطالبة بالحريات الإعلامية. وفي مقال كتبه قبيل اختفائه، نشرته "الواشنطن بوست"، يوم أمس، دعا الصحفي الأبيض، وفق وصف زميل له بإحدى الجرائد السعودية على سبيل الذم، إلى توفير منصة للأصوات العربية، على حد تعبيره، بعيدا عما أسماه "السرديات والرّوايات الرّسميّة والحكوميّة، الزّائفة". وأضاف في هذا الصدد أن المواطن العربي، في غياب الحرية، يعيش إما مظللا أو غير مطلع على ما يجري من حوله، ملفتا إلى ضرورة توعيته حول المستجدات الدولية بمعزل عن النعرات القومية، بما سيتيح له معالجة المشاكل التي تواجه محيطه. وهكذا، ذبح محمد بن سلمان، أملنا في مقارعة ما يتفوه به أحمد موسى حول "مجلس إدارة العالم"، وما تروجه "سكاي نيوز" عن السجون التركية، وغيرها من الأراجيف التي باتت محل سخرية الكون. وفي إحدى مقابلاته مع قناة الجزيرة، قال جمال خاشقجي إن "المواطن الحر، أنفع للدولة من المواطن المطيع إما خوفا أو رغبة". أما الآن، وبعيدا عن لغة التّحليلات واللّهجة الرّسميّة الباردة، سأخصّص لنفسي فقرة، أتحدّث فيها بلسان قلبي. الحقيقة، لم أكن مطلعا على شخصية جمال خاشقجي قبل اختفائه. ومؤخّرا فقط اكتشفت أنّه جمع بين رصانة كهل خمسيني، فكانت كلماته تُسمع على مستوى أعلى المناصب، وبين نشاط شاب ثلاثيني، يطمح إلى الأفضل ويطبق على أرض الواقع ما يدور في ذهنه، وبين ثورية عشريني، تراه تواقا إلى الحرية، فيقول إن فقدانها أصبح أمرا لا يطاق. وببراءة الأطفال يطلب منّا ألّا نلومه على تمنياته، مضيفا أن الخروج من الأزمة التي تعصف بنا، نحن سكان العالم الثالث، أمر ممكن. وبالنسبة لي، فإنّ فقدان إنسان بالمواصفات أعلاه، غيابه وغياب كلماته ونظراته، أشدّ وطأ من أي انعكاسات سلبيّة لموته، على أمّتنا. ووددت لو صرخت في المجرمين أن اسرقوا ربيعنا العربي، والثورة التي تعيش بداخلنا، واحجبوا عنا نور الشمس إن أردتم، واجعلوا من حياتنا جحيما، فمنذ أن رأيت أطفال سوريا واليمن تحت الأنقاض، وأطفال مصر في القطارات يركضون وراء لقمة عيش، وأطفال فلسطين عزلا يواجهون المحتل، أدمنت الجحيم. وددت لو صرخت فيهم أن خذوا المناصب والكراسيّ، والوطن الذي لك يكن منا يوما.. إجعلوا من حياتنا جحيما، لكن أعيدوا لنا جمال.