طارق عمراني تعيش تونس هذه الأيّام على وقع إحتجاجات شعبية في مناطق متفرّقة من البلاد ،و حراكا إجتماعيا يزداد زخما من يوم لآخر. شتاء "ساخن" ككلّ "شتاءات " تونس منذ ثورة جانفي 2011 حتى أصبح الإحتجاج الدوري طقسا سنويا، للتذكير بمطالب الشباب المنتفض، "شغل ،حرّية ،كرامة وطنية " ،التي كانت محرّكات لمطالب سياسية عجّلت بسقوط نظام بن علي بقوّة الشارع. غير أن تحرّكات هذه السنة، تختلف عن سابقاتها بالنظر لعديد المعطيات؛ على غرار إرتدادات جائحة فيروس كورونا الإجتماعية و الإقتصادية ،بإرتفاع معدّلات البطالة و إحمرار كل المؤشّرات الإجتماعية ،و تراجع نسب النموّ الإقتصادي ،علاوة على الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ انتخابات 6 اكتوبر 2019 ،التي أفرزت برلمانا فسيفسائي التركيبة ،عجز عن تحقيق الإستقرار الحكومي لغياب تحالف برلماني صلب . و في سياق متّصل تشهد الساحة السياسية التونسية صعودا لافتا للحركات الشعبوية ،اذ يتصدّر الحزب الدستوري الحرّ نوايا التصويت في الإنتخابات التشريعية، حسب أحدث دراسات إستطلاعات الرأي ،و هو حزب محسوب على النظام القديم ، و جناحه اليميني المتطرّف، تتزعّمه عبير موسي التي بنت مشروعها السياسي ،على شيطنة الثورة و المنظومة السياسية التي أفرزتها باللعب على الوتر النوستالجي لجزء مهمّ من الجماهير إزاء حكم بن علي . كما يتصدّر رئيس الجمهورية قيس سعيد نوايا التصويت في الإنتخابات الرئاسية، و من المعروف على سعيّد رفضه للمنظومة الحزبية برمّتها بشكل راديكالي عبر التنظير و التبشير بديمقراطية مباشرة في إطار نظام مجالسي لوكسمبورغي (نسبة لروزا لوكسمبورغ )، يقوم على الهدم و بناء عمودي جديد للسلطة، إنطلاقا من المحلّي إلى الجهوي فالإقليمي ثم الوطني، و هو مشروع سياسي أكد أغلب العارفين بالشأن السياسي، على استحالة تطبيقه في تونس نظرا لطوباويته ،و عدم تواؤمه مع الخصوصية التونسية. و من نافل القول أن فشل المنظومة الحاكمة ،سنوات الثورة و النظام السياسي (ديمقراطية نيابية تمثيلية و نظام شبه برلماني ) الذي يقوم على توزيع السلطة على 3 مراكز (برلمان/ حكومة/رئاسة الجمهورية) في تلبية المطالب الاجتماعية ، قد خلق مناخا من انعدام الثقة بين الشعب و حكّامه، و هو ما ولّد نوعا من "الاختناق الديمقراطي" مع دعوات نخبوية لتجميع السلطات في مركز واحد و عودة للنظام الرئاسي . و بحسب أغلب المراقبين في تونس فإن رئيس الجمهورية قيس سعيد من أكبر المستفيدين من هذا الوضع المرتبك، الذي تعيشه تونس اليوم أو ما سمّاه المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي "الأزمة العضوية " حيث الأزمة متعددة الأبعاد...اجتماعية، اقتصادية و مؤسساتية و هوما يفسح المجال للقائد لتجاوز حدود النظام السياسي عبر قيامه بالدور التحكيمي من خلال "اللحظة القيصرية " حسب تعبير ذات المفكر فالوضع في تونس اليوم يمكن أن نلخصه بهذه القاعدة الغرامشية "القديم ينهار، الجديد لم يولد بعد ، في الأثناء تكثر الوحوش الضارية ". و في ذات السياق فإن ما عزّز فرضية إستغلال الرئيس التونسي و حاشيته للحراك الاجتماعي، هو تشكّل لجان شعبية و تنسيقيات موازية تقود هذه التحرّكات بشكل متزامن و منظّم في كل الجهات و بشعارات موحّدة، و هو تماما ما تحدّث عنه سعيد خلال حملته الانتخابية التي وصفها بالحملة التقسيرية ،بضرورة إستعادة الجماهير زمام الأمور من الأحزاب بعيدا عن التنظّم الكلاسيكي ، في إطار ما يعرف ب "الإنفجار الثوري" . من المؤكّد أن الديمقراطية في تونس تعيش اليوم إمتحانا مصيريا فلا نبالغ بالقول ، عندما نؤكد بأن المسار الديمقراطي برمّته مهدّد وأنّ إنفلات الأوضاع و خروجها على السيطرة يمكن أن يعود بالبلاد سنوات إلى الخلف . و لنا ان نتساءل هنا : هل يجوز أن نحمّل الديمقراطية مسؤولية تردّي الأوضاع الإجتماعية و الإقتصادية ؟ قد تكون الإجابة "لا " خاصة مع الحالة التونسية حيث لم يمض على الثورة أكثر من 9 سنوات و هي مدّة لا يمكن أن تكون كافية لتقييم نجاعة الديمقراطية، و اختبارها على المستويات الإقتصادية و الاجتماعية، كما أنّه ليس هناك ما بثبت صحّة الفرضية، التي تقول أن الديمقراطية تساعد على تقليل الفقر، بشكل مباشر و أنّ ذلك قد يحتاج إلى مرور وقت كاف لكي تؤتي الديمقراطية ثمارها التوزيعية و تحقّق تراكماتها التاريخية، و رسوخها بعد أن تتعافى من تركة النظام السابق (السابق للتحول الديمقراطي)، الذي عادة ما يكون قائما على المحسوبية و الفساد و غياب المساواة و العدل. فسيرورة الثورات تحتاج إلى عقود من الزمن حتى تتضح معالمها ، كما أشار لذلك المفكّر الامريكي كرين برينتون في كتابه "تشريح الثورة ". لكن مقابل هذا التصور، هناك رأي شعبي يرى بأنّ قيم الديمقراطية تستدعي معها دوما قيم المساواة ،كما أن سقف الإنتظارات من الثورة التونسية ،كان عاليا بالنظر إلى أن الشرارة الاولى لها بعد إضرام البوعزيزي النار في جسده ذات شتاء في سوق شعبي بتونس العميقة، كانت في شكل صرخة ضد الظلم و الفقر و اللا مساواة ، فحتى النخب السياسية بعد الثورة سعت إلى إستجداء أصوات الناخبين في الإستحقاقات الإنتخابية ،بوعود منمّقة دون أي برامج إقتصادية واقعية و علمية، حتى أن تعاملها مع التحرّكات الاحتجاجية كان عبر السياسات الترقيعية الوقتية التي تسعى إلى إمتصاص الغضب الشعبي، و شراء السلم الإجتماعي بأكلاف باهظة ورّطت الحكومات اللاحقة في تركات ثقيلة . كما أسلفنا بالقول فإن الثورة التونسية لم تنجح إقتصاديا و إجتماعيا إستنادا لأرقام رسمية لا تحتاج لعالم في الأركيولوجيا حتى يؤكّدها ،و هو ما جعل المسار الديمقراطي هشّا و مهدّدا لكن وجب علينا التأكيد على نجاح الثورة التونسية على المستوى السياسي، و صمودها أما عديد الهزّات التي عرفتها خلال ال10 سنوات فكانت عصيّة على الاختراق، فنجحت تونس في تنظيم 6 إستحقاقات إنتخابية إستوفت كل شروط النزاهة و الشفافية بشهادات دولية و حقّقت أكثر من تداول سلمي على السلطة سنة 2011 ثم 2014 ف2019 ،لتستجيب لمعيار صامويل هنتنغتون الذي يعتبر أن ترسيخ الديمقراطية، هو رهين بمرور تناوبين على الأقلّ على السلطة بعد الإنتخابات الحرّة الأولى. فالثورة التونسية سفّهت عديد المسلّمات الدغمائية التي تقول بإستحالة الديمقراطية في العالم العربي حتى أن النموذج التونسي شهد توافقا بين الإسلاميين و العلمانيين سنة 2014 مع حياد المؤسّسة العسكرية و هو ما جنّب تونس مصير جيرانها الدموي ، وجعلها إستثناء في المنطقة العربية . في نهاية هذا المقال يمكن أن نلخّص بأنّ الحراك الشعبي الذي تعيشه تونس اليوم سيكون إمتحانا للديمقراطية بعد 10 سنوات من الثورة ،عمّا اذا كانت ديمقراطية شكلية ورقية عاجزة على المقاومة و إدارة الأزمات، أم أنّها كما وصفها المفكّر مالك ابن نبي، بأنّها تتجاوز صناديق الأقتراع و شكلانية تسليم السلطة ،نحو الشعور الديمقراطي الذي تضطلع الثقافة بمهمّة تنميته في نفسية المجتمع ،و عقله فتجعله محصّنا من جهة ضد السلطوية و عودة الإستبداد، و من جهة أخرى ضدّ الحنين للديكتاتورية و العبودية...