منجي المازني عادة ما يكون الانقلابيون ينشطون ضمن مؤسسات النّظام القائم (استبدادي بالأساس)،فهم يمجّدونه ويطبّلون ويصفّقون له وفي نفس الوقت يخطّطون للانقلاب عليه في أول فرصة تتاح لهم. وعندما تحين هذه الفرصة المناسبة ينفّذون انقلابهم على هذا النّظام بالطرق المتاحة والمتوفّرة حسب الظرف والحال. بحيث يصبح هذا النّظام بين عشيّة وضحاها أسوأ نظام عرفه البلد. ويسوّق الانقلابيون لأنفسهم أنّهم المنقذون دون غيرهم للشعب المقهور. حيث يعدونه بالخلاص من الدكتاتورية والظلم والاستبداد وبتحقيق التنمية والرفاهية في وقت وجيز لم يحققه غيرهم. ثمّ لا يلبثون أن يبدأوا في الترويج لحكمهم "الرشيد" الذي هو في حقيقة الأمر لا يختلف في شيء عن النظام الاستبدادي الشمولي. وهذا عين ما فعله تماما المخلوع بورقيبة حيث ركب موجة تخليص البلاد من الاستعمار. لكنّ الوقائق التاريخية تفيد بأنّه عقد صفقة معه وبموجبها آلت الأمور إليه فانقلب على هوية البلاد وكل الثوابت. وجثم على صدورنا ثلاثة عقود كاملة. وهذا عين ما فعله المخلوع بن علي حيث أطلّ علينا ذات 7 نوفمبر قائلا "لا ظلم بعد اليوم، ولا رئاسة مدى الحياة" وما لبث أن انقلب على وعوده وجعل من نظامه أكبر نظام دكتاتوري بوليسي دموي في المنطقة. لا يهمّه من أمر الشعب شيئا. ولا يفكّر إلاّ في مصلحته الشخصية. وهذا ما يفعله اليوم حرفيّا الرئيس قيّس سعيّد،حيث اصطفّ مع الثورة والثوار زمن الثورة وهو الذي لم نكن نسمع له،من قبل،ركزا. وقد كان عارض الرئيس الباجي قايد السبسي في مسألة أداء اليمين. وتقمّص دور عمر ابن الخطّاب كأحسن ما يكون(بالتمام والكمال). وها هو الآن ينقلب على الثورة والثوار وعلى آرائه وأفكاره المعلنة بعد أن أصبح رئيسا للبلاد. فقد انقلب الرئيس قيس سعيّد على كلّ شيء جملة وتفصيلا ودون استثناء. انقلب على أداء اليمين. وانقلب على الدستور الذي ينصّ على أنّ النظام هو شبه برلماني وليس رئاسوي. فيما يريد قيس سعيّد أن يستبدله بنظام رئاسي دون الرجوع إلى المؤسّسات الدستورية. وانقلب على الشرعية بتكليفه لسياسيين من خارج الأحزاب الفائزة في الانتخابات ومن خارج الأسماء المقترحة من الأحزاب والتي حازت على ثقة غالبية الأحزاب مثل السيّد فاضل عبد الكافي وحكيم بن حمودة. وانقلب على الوضوح والشفافية التي كان يتحدّث بهما وأصبح لا يتحدّث إلاّ بالغموض والغرف المغلقة والألغاز غير المفهومة. وانقلب على الصدق وأضحى لا يحدّثنا إلاّ بما ينافيه. والأحداث الجارية تؤكّد على ذلك من مثل إعلان تدخّله المباشر للإسراع بوصول 30 ألف جرعة من تلقيح كوفيد في حين أنّ التلاقيح وصلت في وقت وجيز بفضل علاقات رجل أعمال تونسي يعيش بالخارج. ومن مثل زيارته الأخيرة للقيروان ووعوده لأهلها بقرب إنجاز المدينة الطبّية في حين أنّ إنجاز المشروع من مشمولات الحكومة. وهكذا لم يترك الرئيس قيس سعيد شيئا إلاّ وانقلب عليه. فحتّى المروءة لم يدعها وانقلب عليها. ذلك أنّ الذي أوصله بدرجة أولى إلى كرسي الرئاسة هو التيّار الثوري بصفة عامّة والتيّار الإسلامي بصفة خاصّة. وللتدليل على ذلك : فلو قمنا بعملية حسابية بسيطة وحوّلنا أصوات حزب من الأحزاب(التي تحصّل عليها قيس سعيّد في الدور الثاني) لفائدة المرشّح نبيل القروي لرجحت كفّة قيس سعيّد. فيما لو حولنا أصوات التيّار الإسلامي (900 ألف صوت) من الرصيد الانتخابي لقيس سعيّد لفائدة المرشّح نبيل القروي لرجحت كفّة نبيل القروي (يصبح رصيد قيس سعيّد 2700 ألف-900 ألف = 1800ألف صوت. ويصبح رصيد نبيل القروي 1100ألف+900ألف=مليونا صوت). ولذلك يكون الفضل لفوز قيس سعيّد بالأساس إلى التيّار الإسلامي. فمن باب المروءة ورد الفضل لأصحابه والاعتراف له بالجميل أن يقترب قيّس سعيّد من التيّار الإسلامي ويبدي استعداده للتعاون معه لا أن يعضّ اليد التي امتدّت إليه كما هو فاعل اليوم. حقّا لغريب أمر رئيسنا. فنظام الاستبداد لم يدفع به إلى مجلس النواب ولا إلى سدّة الوزارة. في حين أنّ الثورة والثّوار دفعوا به دفعة واحدة إلى رئاسة الجمهورية. ورغم ذلك تنكّر لهما وناصبهما العداء. وهذا الصنيع لا يصدر في ظنّي إلاّ عن الانقلابيين الذين يبطنون غير ما يظهرون والذين لا يستطيعون العيش إلاّ في ظلّ الانقلاب على إرادة الجماهير وفي ظلّ الغموض وتواصل الأزمات. وهو ما يفسّر تجاهل قيّس سعيد للأزمة الرّاهنة وإصراره، إلى حد هذه السّاعة، على التمسّك بموقفه الرافض لاستقبال الوزراء المعنيين لأداء اليمين. فحركة النّهضة انسحبت بهدوء من الحكم في 2013 من أجل حلحلة الأمور وعدم الزّجّ بالبلاد في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. وكذلك فعل الرئيس الباجي قايد السبسي(رحمه الله)،حيث لم يشأ إدخال البلاد في نفق مظلم. واستقبل الوزراء المقترحين(في حكومة يوسف الشّاهد) لأداء اليمين. وقال قولته المشهورة : "أنا اليوم رجل دولة". وفي تقديري فإنّ هذه السلوكيّات الغير منطقية بالمرّة لن تعود على الرئيس قيّس سعيّد إلاّ بالخيبة والوبال إن عاجلا أو آجلا. لأنّ من سبقوه ويفوقونه في المكر والدهاء السياسي بسنوات ضوئية خرجوا من الدنيا ومن التاريخ مقهورين مخلوعين غير مأسوف عليهم. والعبرة لمن اعتبر...