وات - تحرير أميمة العرفاوي - بين أغصان الأشجار الكثيفة التي تغمر هضاب جبال منطقة العمامرية التابعة لعمادة هنشير الرومان بمعتمدية بوعرادة من ولاية سليانة، تسارع الحرفية المختصة في صناعة الفخار "زينب الدريسي"، إلى جمع كميات من "طين الجبل"، متحدية صعوبة تضاريس المنطقة، لتوفير المواد الاولية لعملها. تستوقفك ملامح امرأة مكافحة ترابط بين الجبال والأودية لساعات طوال، مقدمة بجسمها النحيل، على مهنة محفوفة بالمخاطر، تستحضر معها وبها نموذج "إرادة حياة"، وعنوان سعي لا يكل وراء اللقمة الشريفة، فتجد نفسك منساقا وراء رغبتك الملحة في اكتشاف عالمها الصغير ظاهريا والكبير باطنيا، قبل أن تواصل طريقك. ... تمشي بخطوات ثابتة واثقة في نفسها لتتجه الى أقرب مكان تجد فيه المواد الأساسية لصناعة الاواني الفخارية، من "طين" و"طافون" و"قوقعات الحلزون"، تقبع على ركبتيها وتنطلق في نبش التراب تارة وترتاح تارة أخرى والعرق يتصبب من جبينها غير عابئة لا بلدغة الزواحف ولا بالبرد والرياح والأمطار والوحل الذي يتسرب إلى أطرافها. زينب الدريسي (43 سنة)أم ل3 أبناء من متساكني منطقة العمامرية التي تبعد حوالي 40 كم على معتمدية بوعرادة، حرفية مختصة في صناعة الأواني الفخارية منذ أكثر من 30 سنة، قالت في حديثها لصحفية (وات) أنها اكتسبت هذه الحرفة من والدتها التي تعلمتها بدورها من جدتها حتى أصبحت ارث الأجداد بقرية العمامرية الريفية في أحد أركان منزلها المتواضع (حوش الدار)، تعترضك أوانيها التي لاتزال في طور التجفيف، لتعطي المنزل رونقا وجمالا، وداخل ورشتها الصغيرة، التى هي في الآن ذاته مطبخا وغرفة نوم، ترصف بقية الأواني التي انتهت من تصنيعها تفانت زينب، في إعداد "الفخار" إلى أن أضحت من الخبيرات في مجالها بشهادة جميع متساكني عمادة "هنشير الرومان"، فهي تسارع بإتمام واجباتها كربة بيت، لتدخل عالمها الخاص سعيا منها إلى كسب رزقها و المحافظة على هذه الحرفة حتى لا تندثر "فقلة قليلة ما زالوا يمتهنوها" وفق قولها. تلامس بأناملها المتشققة الطافون(الجبس) الذي جلبته من أعلى الجبال ومع كل شق وخدش قصة ورواية تتعلق بكل آنية، لتنطلق في رحيه بواسطة الرحى الحجرية الدائرية، وهي عبارة عن حجارتين يشكلان دائرة ومفترقتين من الوسط ويتم وضع الأولى على الثانية بشكل متوازي، ويتم إنزال المادة المراد طحنها من ثقب صغير وسطهما ويتم تحريكها باليد حتى تطحن المادة ومع كل حركة، صوت يوقظ النائم ليخبره ان "من نام لم تنتظره الحياة" تمزج زينب المادة المتحصل عليها بعد الرحي بالطين والماء، الذي تتكبد عناء جلبه المياه من عمادة عين كسيل المجاورة لانعدام توفر الماء الصالح للشراب ببلدتها، حيث تحدثت بنبرات متعثرة قائلة "حتى الماء الصالح للشراب غير متوفر، أقوم باكتراء سيارة ب50 دينارا لأشتري بعض اللترات من الماء وأوزعها بين الشراب والمأكل وحرفتي" تتفنن زينب في حرفتها فتتقنها بكل شغف وحب والابتسامة لا تفارق وجهها الذي بدا عليه التعب، تواصل عملها فتدهس الطين والطافون بساقيها، وهي تنطق ببعض الالحان الطربية وفي بعض الاحيان بعض القهقهات لتمرير الوقت ودعم معنوياتها إلى أن تحصل على كرة كبيرة من الطين "كعوارة"، تمكنها من انجاز لا يقل عن 40 أنية . تواصل حديثها وهي تطرق الطين في تركيز تام وبكل حذر غير مبالية بمن حولها، هاجسها الوحيد انجاز عملها بكامل إتقان راسمة في ذهنها شكل الآنية التى تعتزم التفنن في صنعها (صحن، كانون وغيرها)، فهي تنجز القطع التى تتطلب ساعات من العمل من ابتكارها وحسها الفني دون إتباع رسوم محددة، إبداع وخبرة إكتسبتها وعلمتها بدورها لبناتها الصغيرتان، لتصبح بذلك إرثا متجددا. تحدثت زينب عن بقية مراحل صناعة الفخار، قائلة انه بعد تطويع الطين إلى أشكال مختلفة تملس الآنية ثم يقع ترطيبها بالصدفات، ليبرز بريقها وتلونها بالصبغة التى تجلبها من الجبل، وتتركها تجف تحت أشعة الشمس أو عبر وضعها في التبن لتصبح أسود اللون. اعتبرت أن أصعب مرحلة في حرفتها التى تعتز بها، هي رحلة البحث عن المواد الأولوية نظرا لقساوة الظروف المناخية بالمناطق الريفية وعناء التنقل اليها، إلى جانب المدة الزمنية التي تقضيها في إعداد الآنية فلا يهدأ بالها حتى تنجزها ولو كلفها ذلك أكثر من 24 ساعة قائلة "ليس بالسهل أن تنبش في التراب ثم ترحي الجبس إلى أن يصبح رقيقا كالسكر في 40 درجة حرارة أو في درجة تحت الصفر". المرأة الحرفية القاطنة بالمناطق الريفية، حسب تعبير زينب، امرأة مرهقة، تعمل في ظروف سيئة طيلة اليوم لتحصل على أجر لا يتجاوز الدينارين مقابل الآنية الواحدة، باعتبار أن أوانيها تنقصها أخر مرحلة وهي وضعها في الفرن حتى تتماسك وتتمكن من بيعها، لافتة إلى أنها تبيعها بهذا الأجر الزهيد إلى الحرفيات بمنطقة البرامة التابعة لمعتمدية قعفور لاختصاص نسوة هذه المنطقة في صناعة الفخار. لفتت زينب الى انه في حال تهاطل الأمطار، لا تستطيع نقل منتوجها إلى هذه المنطقة لتهرؤ البنية التحتية وعدم تهيئة المسالك الفلاحية المؤدية إلى منزلها، مضيفة أن الطريق الرئيسي يحتوي على عديد الحفر وسيارات الأجرة تمتنع عن إيصالها لغلاء كلفة إصلاح أعطاب السيارة. شددت زينب على أن قلة من الناس لا يزالون يحتفظون بهذا التراث، قائلة أنها تشعر بالألم عندما لا تلمح "طاجين" أو "طابونة"(ألتي فخار لطهي الخبز) بإحدى المنازل فتتملكها الحسرة على الزمن الجميل، الذي كانت تجتمع فيه النساء في كل البيوت لإعداد الخبز والعولة، متحلقات حول "الطابونة" كأنهن في موكب عرس تقليدي. أكدت المرأة الكادحة أن كل هذه الصعوبات لن تثنيها عن مواصلة عملها، حيث بات حلمها الوحيد "فرن" و "غرفة صغيرة" تجعل منها ورشتها وعالمها الخاص بها، باعتبار أن الورشة هي مطبخ وغرفة نوم في الآن ذاته. تحدثت زينب ايضا عن صعوبة الترويج وغياب الدعم معتبرة أن صناعة الفخار تكسب صاحبها الصبر والثقة في النفس"، داعية الأجيال القادمة إلى المحافظة على هذا الإرث والإقبال على تعلمه قائلة "ينتهي مال الجد و تبقى صنعة اليد". قصة زينب الدريسي مرآة تعكس تفاصيل حياة المرأة الريفية المثابرة في بيئة قاسية وظروف صعبة. من جهتهم، أعرب عدد من النشطاء بالمجتمع المدني بمدينة بوعرادة في تصريحات متطابقة ل(وات) أن حرفيات المدينة في حاجة مؤكدة اليوم إلى فضاء لعرض منتوجاتهن في ظل ركود السلع والبضاعة خلال جائحة "كورونا" دون إيجاد حلول واضحة من قبل السلط المعنية لفائدة قطاعهم المتضرر. وأوضح رئيس بلدية بوعرادة منجي بن المتجول ل(وات) أن مصالح البلدية بصدد تمويل مشاريع الحرفيين بعد ترشحهن واختيار عدد منهن قصد التمتع بتمويل ذاتي في حدود 2 ألاف دينار خلال شهر ماي القادم وذلك في إطار اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وأضاف أن ورشات تكوينية ستنتظم لفائدة الشباب والحرفيات بمدينة بوعرادة بحضور جميع الأطراف المتداخلة غي شهر ماي القادم ولفت الى أنه سيتم انجاز مسلك صحي بحي النور وفضاء ليكون قاعة عرض للحرفيات ودار للجمعيات واستراحة لزائري المسلك الصحي مع أواخر سنة 2022 في نطاق الشراكة مع منظمة التعاون السويسري .