"شادلية بن محمود" واحدة من 30 امرأة فقط يعملن في مجال صناعة الفخار بمنطقة قلالة التونسية الأمازيغية والتي تتميز بصناعة الفخار التقليدي والواقعة في جزيرة جربة بالجنوب التونسي. استقبلتنا السيدة الخمسينية وهي ترتدي اللحفة الجربية التقليدية، وقبعة صنعت من السعف، بابتسامة دافئة رافقتها جملة الترحيب "كيفنكم وين جيتو" والمعنى هنا: "مرحبا بكم أينما حللتم". انطلقت رحلتنا مع امرأة تعتبر من أوائل النساء ممن تحدين العادات في قلالة، بعزمها العمل في صناعة الفخار التي يحتكرها الرجال في منطقة تتسم بطابع اجتماعي محافظ. فدخول المرأة لهذه الصناعة شبه منعدم بمنطقة قلالة على الرغم من أن أكثر من 90 بالمائة من سكان المنطقة يعملون في ميدان صناعة الفخار. ويقتصر تدخل النساء في التلوين والرسم على الأواني. وعلى الرغم من كون القرية محافظة وكون صناعة الفخار تتطلب جهدا عضلياً واحتكاكا بالرجال، إلا أن بعض نساء قلالة تحدين الموروث واشتغلن في كل مراحل إنتاج الخزف، ومن بينهن شادلية. تقول هذه السيدة إنها بدأت صناعة الفخار منذ العام 2000 بعد إصرارها على مساعدة زوجها عادل بن محمود، والذي آمن بقدراتها واقتنع بأنها ستقدم إضافة للعمل رغم معارضة المجتمع في قلالة. وعن ردة فعل سكان منطقتها تجاه صناعتها الفخار بالورشة تقول شادلية: "واجهت رفضا من الجميع عند دخولي هذا الميدان، لم يكن معتادا أن تقوم امرأة بصناعة القطع الفخارية من الصفر، تتخصص النساء في قلالة بتزيين وتلوين القطع الفخارية، ربما في أماكن أخرى لا يعتبر عمل المرأة في صناعة الفخار أمرا غريبا، لكنه في قلالة أمر غريب". تبدأ أولى عمليات صنع الفخار بجلب الطين من باطن الأرض، وتقوم شادلية بالحفر وجلب الطين وحمله بواسطة القفاف لتكدسه وترشه بالماء، ومن ثم تعجنه بأقدامها لتهيئته لبدء التصنيع بوضع قطع منه على "الجرارة" وهي عبارة عن دولاب خشبي دوار يتم تشغيله بواسطة القدم، ويتطلب صنع آنية فخارية مجهودا وتركيزا يمتد لساعات. ألفت شادلية صعود الدولاب "بلبستها التقليدية الجربية"، وضعت قدمها تحت الدولاب لتحرك الجزء العلوي منه حيث وضعت قطعة الطين، وبأناملها المتشققة بفعل ظروف العمل القاسية كانت تذهب وتجيء على الطين لتصنع إناء خزفيا جميل التفاصيل، وهي تدندن إحدى الأغنيات التي عرفت بها منطقة قلالة… "في قلالة نشبح زوز بنات وحدة بالخلخال ولخرى لا لا"، أي "في منطقة قلالة نرى فتاتين إحداهما ترتدي خلخالا وأخرى لا ترتديه". وبعد أن انتهت شادلية من صناعة الآنية الفخارية المعروفة باسم "الجديواة" والتي تعتبر أحد رموز جزيرة جربة والتي تستعمل لتبريد الماء، توجهت صانعة الفخار للفرن الذي توهج في درجة عالية من الحرارة لتضع مبتسمة الآنية الطينية لتصبح فخارا بعد النضج، وهي تقول: "ليس من السهل استقبال لفحات النار، لكني أحب هذه الحرفة".. ثم أخرجت الآنية بطريقة ذكية وسلسة، وتركتها في بهو الورشة لتبرد فوق التراب. وتضيف محدثتنا: "تمكنت من إتقان حرفة صناعة الفخار على الرغم من مشقة العمل واحتياجه للقوة البدنية، بعضهم يعتبر العمل البدني الشاق انتقاصا لأنوثة المرأة، لكني لا أجده كذلك". وتعود أقدم الآثار الفخارية في البلاد التونسية إلى حد اليوم إلى أواخر العصر الحجري الحديث، نذكر منها "مأوى القبصيين" في منطقة الرديف قرب قفصة، ومغارة "كاف العقاب" التي عاش فيها الحجري المتوسطي ومحطات أخرى واقعة بين مكثر وحفوز منها "دكانة الخطيفة" و"كاف القرية". آثار هنا وهناك تركها لنا ساكنو هذه الأماكن الذين عاشوا بين 4400 ق.م و3300 ق.م. وبعودتنا لمنطقة قلالة الأمازيغية فإن أعرق مصانع الفخار فيها تعود إلى 4 قرون خلت، إذ تلمح سمات المدينة الفخارية بمجرد اقترابك منها. وأخبرتنا شادلية التي أصبحت رئيسة المكتب المحلي لاتحاد المرأة التونسية بمنطقتها أنها شاركت في مهرجانات دولية ونالت جوائز عدة، منها مشاركات في فرنسا، قائلة: "لم يمنعني كوني امرأة المشاركة في المهرجانات السياحية وفعاليات الصناعات التقليدية المحلية والدولية، كنت أشارك إلى جانب الرجال لتسويق منتوجي اليدوي التقليدي بعلامتي التجارية". وبحسب مندوب الصناعات التقليدية سليم غنجة فإن النساء العاملات في مجال صناعة الفخار أو الخزف قليل، حيث إنهم أحصوا في اختصاص الخزف 30 حرفية مسجلة، أغلبهن من خريجي كلية الفنون الجميلة. كما ذكرت إحصائيات المندوبية أن عدد الحرفيات المسجلات في كامل ولاية مدنين التي تتبعها جزيرة جربة قد بلغ 4200 حرفية من مجموع 5200 حرفي، وأضاف أن قيمة القروض المتداولة المساندة للإناث بولاية مدنين 2 مليار و500د، وعدد المتحصلات على القروض 1835 أهم إنتاج بالمنطقة الزربية المرتبة الثالثة وطنيا بمساحة سنوية 3000 م. ختمت مضيفتنا رحلتنا بدعوتنا لشرب كوب من الشاي الأحمر، والذي كان يغلي على كانون من الفخار وفي براد من الفخار، بعد أن سكبته لنا في كؤوس فخارية. لم يكن الشاي وحده من صنعها بل الكؤوس الفخارية أيضاً.
تم إنجاز هذه المادة ضمن مشروع "الأحداث كما ترويها الصحفيات" المدعوم من هيئة الأممالمتحدة لدعم المرأة والمنفذ من قبل أكاديمية شمال أفريقيا للإعلام.