يُحكى في هذا الزمان في حاضر العصر والأوان أن شابا في مقتبل العمر أتم دراسته الجامعية بالحصول عل الأستاذية في اللغة العربية، فابتهج شديدا لأن الدنيا ابتسمت في وجهه أخيرا وأبواب السعادة فتحت أمامه، فشارك مرات كثيرة في امتحان الكاباس ولكن بدون جدوى لأنه يعود في كل مرة بخفي حنين... لم ييأس... لم يرم المنديل... طرق أبوابا أخرى غير الكاباس لعله ينجح في مسعاه ويحصل على عمل يعطي لحياته قيمة ومعنى ويحفظ له كرامته، ولكن ظلت تلك الأبواب موصدة أمامه... لم يدر ماذا يفعل... عمل في المقاهي والمطاعم ومحلات بيع المواد الغذائية أو الملابس الجاهزة أو محلات بيع المواد الحديدية أو محلات الجزارة.... عمل في الأراضي الفلاحية... عمل مع المقاولين في أشغال البناء... يظل في بعض الأحيان عاطلا عن العمل لأيام... أما شهادته الجامعية فوضعها في إطار مزخرف وجميل وعلقها في بهو منزلهم، فكان كلما غادر البيت ليعمل أو ليبحث عن عمل يلتفت إليها ليلقي عليها نظرة كأنه يودعها، وحين يعود ويفتح باب المنزل يجدها أمامه كأنها في انتظاره فيتأملها ثم يدخل غرفته... وذات يوم أظلمت الدنيا في عينيه فقرر أن "يحرق" دون رجعة، فاتصل بثلاثة من أصدقائه في نفس وضعيته فكروا هم أيضا في ما فكر فيه وقرروا هم أيضا ما قرره. وفي سرية تامة اتفقوا على كل التفاصيل. وفي الليلة الموعودة خرج من غرفته خلسة وأخذ لدقائق معدودة يتأمل شهادته الجامعية التي أفنى جزءا كبيرا من عمره من أجل الحصول عليها، ثم أشار إليها بيده إشارة الوداع وغادر المكان مسرعا كأنه خشي أن تثنيه شهادته عما عزم عليه من أمر وقرر القيام به من مغامرة... توجه إلى أحد الشواطئ حيث كان ينتظره مركب بلاستيكي صغير غير مهيأ وغير صالح في الأصل للسفرات الطويلة وعلى متنه أصدقاؤه الثلاثة وشاب آخر يبدو أنه سيقود الرحلة بما أنه صياد سابق وخبير بالطرق البحرية. وانطلق المغامرون الخمسة في اتجاه الضفة الأخرى للمتوسط وقد كان الطقس جميلا والبحر هادئا صافيا ماؤه "مزيت" كأنه مرآة عملاقة. وغمر الرفاق الحالمين شعور بالسعادة والغبطة لأنهم يؤمون شطر الجنة الشمالية الموعودة. ولكنه شعور مشوب بخوف من المجهول وهم لم يغادروا البحر بعد ولم يصلوا إلى مبتغاهم. وحتى لا يشعر بطول المسافة وثقل الوقت انبرى صاحبنا يترنم بأغان "مزودية" خالدة طرب لها الرفاق. وفجأة هبت عاصفة هوجاء كأنها احتجاج على تلك الأغاني أو ربما هي تفاعل شديد معها، فهاج البحر وماج وعلت الأمواج وصار المركب البلاستيكي الصغير لا حول له ولا قوة تتلاعب به الأمواج العاتية كأنه لا شيء إلى أن انقلب بمن فيه. فوجد الرفاق أنفسهم وسط الماء، فتشبثوا بأطراف المركب وتذكر صاحبنا الجنة الموعودة على الضفة الشمالية للمتوسط، ورأى حلمه يتلاشى وقد تلاعبت به الأمواج العاتية. وظلوا على تلك الحال ساعات عديدة شعروا خلالها بأن الموت يدنو منهم في كل لحظة. ولكن شاءت العناية الإلهية أن ينجوا بأنفسهم إذ مرّ بهم مركب صيد كبير فانتشلهم وعاد بهم إلى بر الأمان. ووصل صاحبنا إلى بيت العائلة بعد أيام من الغياب فهب إليه الأقارب والأصدقاء والجيران يهنؤونه بالنجاة والسلامة. وقالت له والدته: "يا ابني، الداخل إلى البحر مفقود والخارج منه مولود". وقال له أبوه: "احرص على العمل في بلدك ولا تغامر بنفسك، فأنت أملنا الباقي في هذه الحياة". وقال له صديقه الحميم: "أرجو أن تعتبر ما وقع لك درسا تتعلم منه وتتعظ به". فرد صاحبنا قائلا بكل ثقة في النفس: "فعلا يا صديقي العزيز، إنه درس لن أنساه وعبرة لا أقدرها بثمن، ولذلك قررت أن أحرص في "الحرقان" القادم على أن أتأكد من استقرار الأحوال الجوية على مدى أربع وعشرين ساعة على الأقل قبل أن أغامر بدخول البحر وعلى أن يكون المركب كبيرا وقادرا على تحمل قوة الأمواج العاتية وضرباتها ولطماتها والصمود أمامها لا مركبا بلاستيكيا مثل الذي حرقت به في المرة الماضية .....!!