هي ليلة ليست كالليالي، على مسرح قرطاج، انعتق فيها الفن عن عوالم الطرب والموسيقى ليتجلى مرثية وصرخة في وجه صمت ثقيل في الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي مساء الأحد،حيث احتفى الجمهور بصوت يسري من رزح الركام، جاء مثقلا بوجع الحرب ورائحة التراب المقاوم.. مرآة غزة وأنينها، محمد عساف "حي فلسطين" ، كان الصوت الطاغي هاتفا باسم شعب الجبارين ، ليتوشح الفضاء وجنبات المكان بالاعلام الفلسطينيةوالتونسية في سماء المدارج، رفرفت كقلوب خافقة بالحلم والألم معا " الحرية لفلسطين"،فلم يكن الجمهور مجرد مستمع ، بل كان شريكا في الرسالة.. هنا نغني كي لا نصمت، نغني كي لا تنسى غزة.. عساف، ابن غزة، على ركح قرطاج كان شامخ القامة، حنجرة تضج كبرياء ، لكن عيناه فضحتهما شقوق الوجع، خاطب جمهوره بصدق يشبه ترابه: "نحن اليوم في تونس الحبيبة التي قال فيها الشاعر محمود درويش كيف نشفى من حب تونس...كل المحبة لتونس... تحية لفلسطين أم البدايات وأم النهايات، غزة العزة التي تتعرض للإبادة أمام هذا الصمت...لك الله يا فلسطين... جئتكم اليوم والألم يعتصرني، واخترت تواجدي في قرطاج المنارة الثقافية حتى نُسمع أصواتنا". قبل أن يغني ، تغنّت كلماته بالاهات التي تسكنها رجفة الأم المترقبة على بوابة مستشفى ميداني في غزة ، ليطل صوته المكلوم ، ويضيء ليل قرطاج: "يا دنيا اشهدي"، فالعرض منذ البداية مهدى لغزة،وأجره أيضا موجه لأهلها..هكذا كان الفن هذه الليلة ،أعمق من الأغنية، وأعمق من المسرح. غنّى عساف "ارفع راسك" ،فرفعت الحناجر معها كل الرؤوس، وتغنى "يا فلسطين جينالك" وصدح "منتصب القامة أمشي" من ألحان مارسيل خليفة وكلمات الشاعر سميح القاسم، فكان صوته ينفث في الهواء سطورا من كبرياء، خص الأمهات والبنات بأغنية حملت عزما آخر: "يا بنات بلادنا يا زاد عتادنا"،وغنى "على الكوفية"، و"شدوا الهمة"، و"بكتب اسمك يا بلادي" التي كتبها إيلي شويري ذات حنين قديم من السماء إلى بيروت، فتوحدت كل أوطان الحاضرين في اسم واحد: فلسطين. ثم كان لابن غزة نشيده الخاص.. "غزة أرض المجد وأرض العزة" و"سلام لغزة سلام" ،كلمات ولحن من أوجاع غزة إلى عنادها ، وقدم عساف نشيدا ولد قبل تسعين عاما وظل صامدا في الحناجر: "موطني" للشاعر جمال طوقان،ومن ألحان محمد فليفل، نشيد هو الآخر لا يموت، كما لا تموت غزة. محمد عساف، الذي عرفه الملايين طفلا يشق الحدود بحلمه ليصل إلى "أراب آيدول" في اللحظات الأخيرة، حمل معه ذات الحلم إلى قرطاج، فهو ذاك الفتى الذي انتصر بصوته ذات ليلة، حين صوت له أكثر من 68 مليون قلبٍ عربي، جاء ليذكرنا أن اللقب الحقيقي الذي حمله ليس نجم الغناء العربي، بل نجم من نجوم غزة المعلقة بين القصف والكرامة. ليلة محمد عساف على ركح قرطاج لم تكن مجرد حفل،بل وقفة شموخ ، كانت صرخة أمل، كانت دمعا يليق بغزة وأمهاتها وأطفالها... كان الغناء فسحة حرية حين تغلق الأبواب.