نصرالدين السويلمي لقد كانت رسائل الثورة الدقيقة والحاسمة التي قادها الشعب التونسي من 17 ديسمبر إلى 14 جانفي مضمونة الوصول، فشرارة بوزيد التي دفعت إلى شلال الدم في القصرين وهذه الدماء التي دفعت الثورة إلى التمدّد عبر أرجاء الوطن وهذا التمدّد الذي كسّر السدود الأمنيّة وشرّع أبواب العاصمة لتتدفق الثورة إلى أحيائها الساخنة وتنصب خيامها في الشارع الكبير معلنة أنّها قد قطعت عن نفسها خطوط العودة وقطعت عن الجنرال خطوط الإمداد وأنّه لا شيء غير الاستسلام أو الرحيل، كل هذا كان يوحي بأنّ قرار الشعب نهائي لا رجعة فيه، غير قابل للنقض والاستئناف أو التعقيب. وإذا كان الشعب قد حسم أمره مع بن علي ورفض الحلول الترقيعيّة والتوفيقيّة وذهب رأسا إلى البتر، فإنّه لم يحسم أمره مع دولته واختار منهج الإصلاح والتدرّج والتطهير على منهج التهشيم والتفكيك الكامل للدولة، ولم ترتقِ القصبات الثلاث إلى مستوى إعادة الإقلاع بالثورة في جولة ثانية حاسمة تأتي على مؤسسات الدولة بعد أن أتت على الطاغية، فقد كانت محطات القصبة 1و2و3 أقرب إلى الضغط وتحسين الشروط منها إلى المطالبة بالاجتثاث الكامل وإعادة البناء على الأنقاض. Credits Kalima دون تدبير مسبق ولا تنسيق جماعي غالبا ما تجنح حركات الشعوب إلى الأسلم ويهديها حسّها العامّ إلى الأصلح، وعادة ما تلعب خواصر الشعوب التاريخيّة ومحاضنها الثقافيّة والاجتماعيّة أدوارا مهمّة في نمط ومنحى ثوراتهم، ولقد نسف الشعب التونسي رأس الوثن وأبقى على الدولة بما فيها من مطبّات وألغام وسارع ببعث مجلس تأسيسي من صلبه تقوده نخبة مكلّفة بمهمّة خطيرة تنزع بموجبها الألغام وتعالج العاهات وتبقي على المكتسبات والإنجازات التي تُحسب للشعب ولا تحسب لجلاديه. أنجز الشعب المهمّة الكبرى وقدّم للمجلس التأسيسي دولة مفخخة لكنّها متماسكة وغير منهارة، وطالبه بمعالجتها والإشراف على نقاهتها ومن ثم تأهيلها، وما إن باشرت الترويكا مهامّها حتى اتضح أنّها تتحرّك بعيدا عن المهامّ التي أوكلت لها، حيث شرعت في عملها على أساس أنّها حكومة تقليديّة قادمة للمداولة ضمن الحكومات المتعاقبة على نظام ديمقراطي عريق تسوده دولة القانون والمؤسسات، في الوقت الذي يصرخ فيه كل ما حولها ومن حولها أنّها حكومة استثنائيّة في ظرف تاريخي استثنائي وأنّها الجهاز الوحيد المنتخب والمنقّى والمزكّى من طرف الشعب وصناديق اقتراعه، وأنّ بقيّة المؤسسات الموروثة لا تمتّ للدولة بصلة إنّما هي مؤسسات حزب متغوّل استعملها كمقوّمات للبقاء و"الخلود" والبطش والتنكيل، وأنّ هذه المؤسسات كانت قبل أشهر بل أسابيع أذرع التجمّع التي يبطش بها وضروعه التي يتغذى عليها ومدافعه التي يرجم بها وجدرانه التي يركن إليها، فكيف أصبحت شريكا وهي التي حال بينها وبين الموت شعب معتدل لا يؤمن بفقه التترس، وكيف تسمح الترويكا لنفسها أن تعمد إلى شؤون شعب انتخبها واصطفاها فتديرها بمعيّة أعدائه وجزاريه ومصاصي دمه؟ لقد استعمل المخلوع أزلامه ليحتلّ منابع الدولة فغدّروها وشوّهوها وجرّعوا الشعب التلوث والسموم ولما فرّ المجرم لا يلوي.. أتت الحكومة المنتخبة فتهاونت مع الأزلام وتركتهم على منابع الدولة ومفاصل المجتمع الحيويّة وأصبح إعلاميو بن علي الذين قاتلوا معه إلى وقت متأخر من مساء الرابع عشر يطالبون بتسيير الحالة الإعلاميّة ويحذّرون الجهة الشرعيّة الوحيدة في تونس من المساس بالقطاع، وسمعنا شروحات طويلة ومؤصّلة في الاستقلاليّة وشرف المهنة من أولئك الذين نحتوا بن علي نحتا وملسوا الطرابلسيّة، أولئك الذين تسابقت مصاديحهم وعدساتهم وتدافعت في نشوة عارمة للاقتراب أكثر فأكثر من رئيس بلديّة حلق الواد وهو " يفحج على البخور " ، يبتسم عماد فلا تسع الدنيا غلمان الصحافة، ثغر طرابلسي يتبسم ومن فرط فرحتها تجهض الأقلام حبرها وتسكر إيماء وعبيد الإعلام بنشوة الرضا. لقد ارتكبت الترويكا خطأها القاتل حين تعاملت مع بقايا أظافر وشعر وعرق وقيء بن علي على أنّها مؤسسات لها سيادتها واستقلاليّتها ويجب احترام خصوصيّاتها، ما كان للجهة الرسميّة الوحيدة التي استأمنها الشعب على ثورته أن تلغي وزارة الإعلام قبل أن تتطهر الساحة من أردان بن علي ويتأهل صحافيون أحرار لتأثيث هيئة أو مجلس إعلامي يشرف على الساحة وينجز الثورة الإعلامية المعطلة ، فإلغاء وزارة الإعلام يعني أنّ الشرعيّة المنتخبة قرّرت أن تترك الحبل على الغارب أو أن تسند زمام الحالة الإعلاميّة إلى الصحافيين الذين سمح لهم بن علي بالتواجد وبالتالي استعملهم واستهلكهم أو أن تسند الحالة إلى بعض نشطاء النت الذين أنهكتهم الوكالة التونسيّة للإنترنت والبوليس السياسي ولم يتركوا لهم المجال للنضج والتمرس. الأمر لا يتعلق بالإعلام فحسب إنّما ينسحب على القضاء ومختلف القطاعات الحسّاسة التي بدون تطهيرها وإعادة تأهيلها لن يتحقق الإقلاع، ولقطع الطريق على القراصنة الخانسون في مفاصل الدولة الحسّاسة كان يجب أن تتمّ عمليّة الإصلاح تحت رعاية كاملة لجهة شرعيّة فوّضها الشعب لتسيّير أحد أدقّ المراحل في تاريخه الحديث وربما القديم، ومن العار أن يُسمح للذين أصدروا آلاف الأحكام الجائرة وقطعوا الأرحام وشرّدوا الأسر ويتّموا الأطفال بمجرد مكالمة هاتفيّة أو برقيّة وافدة على عجل من مكتب وزير، من العار أن تكون أدوات دولة القمع شريك رئيسي في بناء دولة القانون والمؤسسات وإرساء القضاء المستقل المنشود، أيعقل أن نأتي إلى مهمّة التأسيس لإعلام المستقبل، إعلام الثورة، إعلام الأحرار فنسندها إلى إعلام الماضي ، إعلام الجريمة ، إعلام العبيد، ففي أي زمان او مكان جدت خارقة وحدثت معجزة فاصبح بموجبها سماد العبيد تربة صالحة لاحتضان نبتة الحرية . كثيرة هي الأشياء التي لا تعقل فأصبحت بفضل تجّار السياسة تعقل، ولولا بعض المرضى المصابين بنرجسيّة مركّزة وبعض المناضلين المستقيلين من نضالهم الحاقدين على اختيارات شعبهم ما كان لأطفال بن علي أن يستأسدوا بعد ذلّة مسّتهم، كثر هم الذين ندموا بعد الانتخابات على صاع من النضال قدّموه سابقا فعادوا والتهموه ثم تخندقوا مع جوقة المخلوع وفعلوا أفاعيل ما كانت في الحسبان، فعندما أعلنت النتائج النهائيّة لانتخابات المجلس التأسيسي وعقب فوز النهضة وشريكيها بالأغلبيّة كانت رسالة الشعب فصيحة بارزة أن شكرا للجميع على المشاركة الفعّالة في حفلنا البهيج، وعلى الفائز أن يباشر تحمّل مسؤوليّاته وعلى البقيّة أن ينصرفوا راشدين إلى أعمالهم وينكبّوا على ترتيب أوضاعهم وسدّ الثغرات وتسوية المشاكل العالقة التي حالت بينهم وبين تزكية الشعب لهم، حينها كانت الترويكا بنهضتها وشريكيها تستعد لإزالة أنقاض التجمّع والبدء في مشروع دولة طموحة تليق بالسبق الذي حققته الثورة التونسيّة، لكن المفاجئة كانت أنّ المنهزمين في الانتخابات لم ينصرفوا إلى مقرّاتهم ومنازلهم راشدين وإنّما اندسوا في الزوايا و"التراكن" وشرعوا في التأسيس لمعالم ثورة مضادة مستحضرين كل الأدوات اللازمة لذلك من إشاعة وفوضة وتكنبين وتلفيق وتثبيط وتخويف وتهديد وتجييش.. ثم وأمام دهشة الجميع انكبّ ثوار الأمس القريب على أنقاض وفضلات و"ديشي" التجمّع يلتقطونها برفق.. إنّهم يبعثون التجمّع إلى الحياة من جديد وسريعا ما صنعوا له رأسا وملّسوا له بطنا واقتنوا له أقداما وحشوه بشيء من الأمعاء المستعارة الغير متجانسة ثم لم يطالبوا له بحرمة الاجساد النقية الميتة فحسب لتكريم جثته ، بل طالبوا له بحرمة الأجسام النقيّة الحية لاستدعائه لمواصلة المهمة، لقد كان المشهد جد بائس ونحن نراقب أولئك الثائرين المناضلين ينحنون على البلاط ويبالغون في الانحناء من أجل جمع فضلات التجمّع. هنا أدعياء نضال يركعون لجمع أشتات الدكتاتوريّة، هم يطهرونها، هم يغمسونها في ثوريتهم المغشوشة المنتهية الصلاحيّة، هم بصدد إعادة تأهيل القتلة والارتقاء بهم إلى صفوف المصلحين وربما الصالحين. هناك متساقطون طال عليهم الأمد وملّوا المبادئ فذهبوا يغازلون الجريمة... وهنا وما أدراك ما هنا، هنا فئة انتهازيّة تشحن بلهفة حبرا يتقاطر على أطرافها تهرول به وما أن تفرغه في فنون التزلف حتى تعود إلى الشحن وتشرع في اعداد خلطة جديدة من الذل، تجتهد في الطواف ببن علي وتسعى بين ليلى وبالحسن، تقف عند كمال لطيف، تبيت في واد التجمّع، تنحر لمحمد الصغير.. وترجم الشعب!!!!!