بقلم الأستاذ بولبابة سالم حتّى عيد الاستقلال لم يوحّد التونسيين، كل شعوب العالم لا تختلف على الإحتفال بعيد استقلالها بل هو مناسبة توحّدهم مهما بلغت اختلافاتهم السياسية وهو فرصة لنسيان التجاذبات و الاختلافات و الصراعات .لقد اتفق التونسيون بعد الثورة على ألاّ يتفقوا حتى في ذكرى استقلال بلادهم ، طبعا تعوّد الناس على كرنفالات احتفالية و سهرات فنية و مظاهر الزينة في الشوارع و الساحات العامة و خطابات رئيس الدولة . اقتصر الاحتفال هذا العام على موكب رسمي بقصر قرطاج وسط انتقادات من المعارضة التي اتهمت السلطة بتهميش هذه المناسبة بسبب موقفها العدائي من الزعيم بورقيبة . رد السلطة و المقرّبين منها كان واضحا و اعتبرت أنّ النمط السابق من الاحتفالات قد ولّى و أنّ الوقت للتقشف لا لتبذير المال العام الذي له مجالات أخرى ذات أولوية بعد الثورة و اعتبرت أنّه بإمكان التونسيين أحزابا و منظمات و جمعيات أن يحتفلوا بعيد الإستقلال فلا أحد منعهم من ذلك فالحرية متاحة للجميع . لكن حصل ما غذّى هذا الاختلاف و صبّ الزيت على النار فقد شهدت باريس تدشين النصب التذكاري للزعيم بورقيبة في قلب العاصمة الفرنسية في ذكرى استقلال تونس ، و بعيدا عن خفايا هذه المبادرة الفرنسية و أهدافها خاصة و أنها جاءت من المستعمر القديم الذي يراقب الوضع التونسي باهتمام كبير إلاّ أنّها أعادت إلى السطح شخصية بورقيبة و دوره في استقلال البلاد و في الحركة الوطنية . اختار البعض أن يكون عيد الاستقلال مناسبة لمحاكمة بورقيبة و فترة حكمه و لم ينظر إلى الفترة البورقيبية كمرحلة تاريخية لها حيثياتها و ظروفها الموضوعية و تناسى مكتسبات دولة الاستقلال في الصحة و التعليم و بناء مؤسسات الدولة و مجمل المنظومة القانونية و التشريعية و المؤسساتية و مستوى التحضر و الوعي السياسي الذي بلغه التونسيين مقارنة ببعض الدول التي تشبهنا أو تفوقنا في الامكانيات . طبعا للفترة البورقيبية سلبياتها أيضا و متى كان الفعل السياسي ملائكيا؟ لقد قمع بورقيبة معارضيه بقسوة بدءا من خصمه اللدود صالح بن يوسف الذي وقع اغتياله في جينيف ثم تصفية اليوسفيين و التنكيل بهم مرورا الى اليساريين و الاسلاميين في السبعينات و الثمانينات و جعل نفسه الزعيم الأوحد فقد نصّب نفسه رئيسا مدى الحياة و تجاهل تضحيات الشهداء و أبطال المقاومة المسلحة . قد نسقط في متاهات إذا أردنا إلباس الماضي أدوات الحاضر و ميكانيزماته خاصة المسالة الديمقراطية فالوعي الشعبي و التركيبة القبلية و أولويات المرحلة خلال منتصف القرن الماضي لا يمكن تكييفها بمعطيات الحاضر زد على ذلك معطيات الجغرافيا السياسية . أرفض منطق العدميّة السياسية فلكل مرحلة انجازاتها و اخفاقاتها و على البعض أن يعي الفرق بين الاختلاف و العداوة مع رجال تلك الحقبة . كان بن علي يخاف بورقيبة حتى وهو ميت و كلنا يتذكر ما حصل في جنازته التي غيّبتها تلفزتنا الوطنية حينها حيث كانت تبث باستمرار مشهد غروب الشمس حتى قال عنها مراسل القناة الفرنسية الخامسة متهكما:" لا يوجد في القناة التونسية سوى مشهد الشمس التي لا تريد أن تغيب". إنّ عيد الاستقلال مناسبة وطنية جامعة لا يجب أن تحضر فيها المشاحنات السياسية ، فالسياسي عليه أن ينظر إلى المستقبل و يعالج مشاكل الحاضر الحقيقية و يترك الماضي للخبراء و المختصين لفحصه و بحثه . مشكلتنا الحقيقية أنّنا نستهلك كثيرا من الوقت للحديث عن الماضي و لا نتحدث عن المستقبل و استحقاقات الحاضر بل بعضنا يطنب في الحديث عن الماضي هربا من الخوض في تحدّيات الحاضر الصعبة . و كل عام و تونس مستقلة .