ابو مازن بالأمس احتفل الاجداد بذكرى الثاني من مارس، ذكرى الاستيلاء على الحركة الوطنية للاستقلال و تحويل وجهتها من هبّة شعبية تعمّ الوطن و من ثمّ اغتصابها و رهنها بجهات ومناطق من الجمهورية دون غيرها. بالأمس احتفل بعيد الصنم و العجل و التابوت والهيكل وكل ما يمجّد الاشخاص فيصبحون لاهوتا لا يقبلون النقد والاصلاح ويصبح فكرهم توراة و انجيلا و تلمودا يتلى دون دراسة وتقييم وتمعن فيُقيّم الماضي لينتفع الحاضر. في تلك الذكرى الاليمة عطّلت عجلة التاريخ فأزيحت أسماء أعلام لا نرى لهم أثر في تاريخنا سوى تسميات لبعض الازقّة و الأنهج واحتفظ الشارع الرئيسي على مدى العقود باسم زعيم أوحد ولد تونس وأنجبها من عدم ثم كان العدم بعد رحيله. و لأننا لا نقرأ تاريخا و لا جغرافيا و لأننا نهوى سماع ما يذاع علينا في أبواق الاعلام صباحا مساء، فقد صدقنا كل ما قيل و يقال لنا واعتبرنا انّ مؤتمر 2 مارس كان تصحيحيا ودافعا للحركة الوطنية بعد ان شببّت بطاقات يافعة أرادت الاستقلال للوطن و اتمام ما قام به الشيخان الثعالبي و السنوسي و على باش حامبه و غيرهم من الرعيل الاول. ولكنّ النضال التونسي الذي بدأه علماء جامع الزيتونة قد صودر بوصول نخبة مثقفة بالثقافة الفرنسية وعلمانية إلى مواقع التأثير في أهم حزب في تونس في ذلك الوقت. في ذلك اليوم عقد الحزب الحر الدستوري التونسي، في غياب لزعيمه الثعالبي المنفي، مؤتمرا استثنائيّا وانتخبت أسرة تحرير جريدة العمل التونسي، وبذلك انتقلت قيادة الحزب الدستوري التونسي من علماء الدين وخريجي جامع الزيتونة العريق في تونس، ذلك الرعيل الذي كان مشبعا بالثقافة الإسلامية والعربية، الى مجموعة من الشباب التونسي المتأثر بالثقافة الفرانكفونية وكثير من الشخصيات أتمّت تعليمها في الجامعات والمعاهد الفرنسية . كان ذلك أول انقلاب يحدث في تونسالمحتلة واول صفقة سياسية تتم على أرضها لتصدير ثقافة تغريبية مقيتة ترتهن القيم والمبادئ. كل دول العالم الثالث استعمرت واستقلت بعد كفاح رجال وهبوا انفسهم لأوطانهم ففيهم الشهيد وفيهم المناضل الذي بنى صرح الدولة الفتية دون الابتعاد عن قيمهم وهويتهم، الا تونس الذي ارتبطت بحزب واحد وفكر واحد وشخص واحد اعتقله الاستعمار ليكافئه بالرئاسة مدى الحياة و يرعى خلانه وأبناءه بعد موته. غريب الاستعمار الفرنسي الذي يعول على الثقافة دون السلاح لنهب خيرات البلاد و استعباد نخبتها، فمنذ الاستقلال ارتبطنا ايما ارتباط بهذه اللغة والعقلية حتى أضحى المتعرّب غريبا في قومه و المتعبّد درويشا يختم الحروز و يلقي بالبخور في النار ثم يتمتم. لقد اجتمع بالأمس شباب الامس و شيوخ اليوم ليحاولوا عبثا اتمام ما انيط بعهدتهم في اتفاقية الاستقلال عن فرنسا، وجوه قدّرنا انها اختفت ترعى شؤونها و تستغفر عن خطايا عديدة اقترنت بفترة حكمها للبلد، وجوه تعرفنا عليها لمّا كنا صغارا نُجلب من المدارس الى أحد الشوارع و نرفع علم تونس ولكننا نهتف باسم غير اسمها، ها هم أولادنا و أحفادنا يشهدون عصرهم بعد أن خرجوا من القمقم و من السجن وكل يحمل عكازته ويعد بالعودة الى فكر الزعيم. فهل تبنى العمارات الشاهقة بالطوب المتحلل الذي لا روح فيه؟ عجبا أمركم لقد استهنتم بسماحة "التوانسة" الذين ثاروا ضدّ صانع التغرير الذي حكم حسب وصفاتكم للوضع الاقتصادي والسياسي و الاجتماعي والحقوقي والامني فكنتم تجهلون الواقع ولكنكم تزينونه بالورود لتنالوا الحظوة والمراتب بعد أن غدرتم بذلك الزعيم "المعلم" و تنكرتم له لمّا هرم و شاخ. لقد فضحكم طبيبه الخاص بتصريحاته وقد ظل وفيا له يعوده لما غبتم عنه وتركتموه وشأنه وها أنتم تعودون اليوم بجبّته لتمجّدونه وقد وارته الاتربة وأصبح عند ربه. انّ العقود الذي مضت بالأبيض والاسود والتي مررت فيها أفكار وسياسات و بطولات لم نجد أثرا تاريخيا يدعمها و اقصاء لموروث نضالي دفع مصباح جربوع و الدغباجي وغيرهم من الأخيار أرواحهم من أجله، لا يمكن أن تعودوا وعصرنا هذا يشهد تطورا يفضح صنيعكم ويكشف عيوبكم. فلن ينصفكم الأنترانت و مواقعه الاجتماعية وصحافته الرقمية، ولن تنصفكم القنوات الفضائية و الخطب الجمعية و المجتمع المدني الذي بدأ يتنامى جهده ويبني دولة المستقبل رغم الآلام والحرمان و نقص الأموال والثمرات التي أتيتم عليها لما كان تعدادنا بضعة ملايين وخيراتنا مليارات ومليارات من الفرنكات و الدنانير.