بقلم الأستاذ بولبابة سالم ما أقبح الحريّة عندما يستغلّها من داسوا عليها بالأقدام لعقود و ركّعوا هذا الشعب و قهروا خيرة أبنائه و حاصروا أحزابه و منظماته و جمعياته المدنية . لقد أنتج الطفح الثوري طفيليات إعلامية ملأت الساحة ضجيجا فاستوطنت المؤسسات و المنابر الإذاعية و التلفزية بل طلع علينا بعد 14 جانفي 2011 محللون سياسيون جدا جدا لم نسمع بهم و لم يكتبوا مقالا واحدا بتوجيهات من لوبيات المال و الأعمال و الثورة المضادة للتأثير في الرأي العام و تشويه المسار الثوري , و لا عجب بعد انتهاء مهامهم أن نجدهم اليوم ضمن أحزاب سياسية . لقد ظهر خلال فترة حكم الترويكا أفواجا من "الخبراء " و "المختصّين " و " الإستراتيجيين "في مختلف الإختصاصات وهو ما لم نجده حتى لدى الإتحاد السوفياتي أو الولاياتالمتحدةالامريكية أو الصين الشعبية , و ساهمت حكومة الأيادي المرتعشة للسيد حمادي الجبالي - الذي فتح الباب لعودة أبواق النظام القديم بعد ذلك اللقاء الفضيحة لإصلاح المنظومة الإعلامية ممّا أدّى إلى انسحاب الأقلام الحرّة و المناضلة – في ظهور أبطال دون بطولات , و هؤلاء الصحفيون الذين تحدّث بعضهم لأول مرّة في الشأن السياسي ساهموا في هرسلة الحكومات المتعاقبة بشكل غير مسبوق في تاريخ عمل الحكومات بل وصل العمل الإعلامي حدّ التطاول على الأعراض و الأشخاص في فوضى الحريّة التي يمارسها غرباء عن الميدان . لقد كان الهدف واضحا وفق أجندة سياسية تعمل في الغرف المغلقة لإسقاط حكومة الترويكا , لكن ما الذي حصل بعد صعود السيد مهدي جمعة ؟ و لماذا صمتت تلك الألسن الطويلة و جفّت تلك الاقلام اللاذعة ؟ و لماذا غابوا عن المظاهرة الإحتجاجية التي نظمها الصحفيون أمام وزارة الداخلية يوم 3 مارس للتنديد بممارسات بعض الأمنيين ضدّهم عند تغطية احتجاج روابط الثورة بالقصبة الجمعة الفارط . لقد تحقق الهدف و تغيّرت الأجندات , و كم كان مؤسفا ذلك التعامل الإنتقائي مع ملف التجاوزات الإعلامية من الهيئات المنظمة للعمل الإعلامي مثل الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري { الهايكا } , لقد صمتت هذه الهيئة في السابق ضدّ الدعوات الهدّامة التي تهددّ السلم الأهلي و تحرّض على العنف و الكراهية بين التونسيين من صحف و قنوات تلفزية و إذاعات { و قد صنّفت بعض التقارير المحلية و العربية بعضها بأكثر المنابر الإعلامية تحريضا على الكراهية } و أغمضت عينيها عن تقرير نقابة الصحفيين حول أخلاقيات المهنة الذي كشف عن تجاوزات خطيرة , ما أقبح الحسابات السياسية عندما تطغى على أخلاقيات المهنة , لقد انتظرنا من هذه الهيئة المستقلّة أن تضبط الإنفلات الإعلامي و تطبّق القانون على الجميع , لكنها فاجأتنا هذه الأيام بصرامة عجيبة و غريبة و لهجة حادّة و عقوبات صارمة ضدّ "الخارجين عن القانون " و طال الأمر قناة التونسية بمنع بث برنامجها " عندي ما نقلك " لمدة شهر إضافة إلى خطية مقدارها 200 ألف دينار , أما إذاعة " صراحة فم " فتم حجز معدّاتها . نحن نعلم أنّ حجم العقوبات المالية لا تتجاوز 20 ألف دينار فلماذا تضاعف المبلغ عشر مرّات ؟ و لا ننسى مالك قناة التونسية سليم الرياحي قد دعته فرقة الحرس الوطني بالعوينة للتحقيق على خلفيّة بعض البرامج المتعلّقة بموضوع الإرهاب . صُدم التونسيون ذات ليلة وهم يشاهدون من يرفع كفنه أمام وزير الداخلية في برنامج مباشر على قناة التونسية دون أن نسمع صوتا قويا يندّد بهذا السلوك المشين , تابعنا حملات تعاطف غير مسبوقة مع صحفيين طردوا من عملهم و انتهت عقودهم , وقعت حملة إعلامية رهيبة لمساندة سامي الفهري على صفحات التواصل الإجتماعي , أين اختفت اليوم تلك الأصوات ؟ و أين جماعة " فري سامي " ؟ و لماذا خفت ذلك الضجيج على حرية الإعلام ؟ أين المدافعون عن المؤسسات الإعلامية التي تُشغّل عشرات الصحفيين الشبّان من المتخرجين من معهد الصحافة و علوم الاخبار ؟ لماذا تعرّض الصحفي سمير الوافي إلى حملة شرسة ؟ هل انتهى دور حرية الإعلام و حان وقت تقييد الحريات الإعلامية ؟ أخاطب هؤلاء بمنطقهم الخاص عندما كانوا يتباكون على حريّة لم يناضلوا يوما من أجلها . أمّا قناعتي الشخصية فأعتبر أنّ هزيمة الإرهاب لا تكون إلا بمزيد من الحريّة التي تفضح أفكار الجماعات المتطرّفة و غربتها عن الواقع التونسي , رغم أنّ المرحلة الإنتقالية الهشّة التي تعيشها بلادنا تستوجب عدم شحن الأجواء بالأصوات المتطرّفة التي تشكّل نشازا . في الختام , هل تابعت الهايكا تصريحات بعض الإعلاميين الذين صرّحوا بتدخّل أصحاب المؤسسات الإعلامية التي عملوا معها في الخط التحريري , وهو أمر لم يحصل في المؤسسات التي طالتها العقوبات و سيف القانون الذي نريده أن يكون مسلّطا على الجميع .