بقلم: شكري بن عيسى (*) في الذكرى الاولى لاصدار الدستور يجدر ان نسائل انفسنا والطبقة السياسية والنخبة الفكرية والمؤسسين وكافة الشعب التونسي، هل استجاب المعيار القانوني الاعلى في الدولة لاستحقاقات الثورة في العدالة والكرامة والحرية وخاصة الاستقلال والسيادة الوطنية، وهل نحن بالفعل على طريق القطع مع الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، وهل اصبح للتونسي المسحوق او المهمش الحق في الحلم بالتوزيع العادل للثروة الوطنية والمشاركة في تسيير البلاد والمساهمة في النهوض بالوطن. تأتي هذه الذكرى ونحن في قلب ازمة سياسية حادة بعد انتخابات تشريعية افرزت هجينا من الاحزاب عجزت على الوصول الى تحالف سياسي يمكن ان ينتج اغلبية برلمانية قادرة على تشكيل حكومة لحكم البلاد، وحتى المعارضة فالى اليوم لازالت مفهوما هلاميا لم يقع الاتفاق حوله في النظام الداخلي، ويبدو ان بعض القوى الحزبية في المجلس تريد ان يكون لها ساقا هنا وساقا هناك ومن مصلحتها ان تظل الامور عامة غير محددة، وبالنسبة للحزب الاغلبي فهاجس التحكم في القوة التي ستعارضه وخاصة داخل المجلس النيابي مسألة عالية الرهان. ومع صدور دستور 26 جانفي والانطلاق في تطبيقه منذ سنة كاملة لم يحس التونسي بتغير او امكانية تغير ملموس في حياته وعلى المستوى الوطني وفيما يتعلق بالمستقبل او ما يرتبط بالاجيال القادمة، بل ان الخروقات انطلقت منذ البداية وهذا هو الاخطر، فمن ناحية دستور لا يضمن تطلعات الشعب ومن اخرى لا ضمانة قوية لتطبيقه والالتزام به، ويبدو ان الامر سيكون متروكا للقوى الفاعلة وشبكات التحكم والنفوذ، وخضوع القواعد الاولى التي استدعت التأويل للتطبيق يثبت وهن وهشاشة القانون الاعلى في البلد، الذي بان بالكاشف انه يفتقد للدقة والوضوح. الانطلاق كان في تطبيق الفصل 89 حول احترام اجل اسبوع لتكليف رئيس الجمهورية لمرشح الحزب الاكثري بتكوين حكومة، وما تبعه من رفض للنداء لمطلب المرزوقي حينها، والدخول في لعبة التأويل واستدعاء مؤسسة الحوار الوطني لتفسير النص بطريقة سياسية تعتمد موازين القوى ومواقع النفوذ السياسي، وفي مستوى ثان كان الخرق في مستوى الفصل 59 المتعلق بانتخاب رئيس مجلس النواب في جلسته الاولى التي تم تمديدها وتركها مفتوحة لايام، و"الفضل" كل الفضل للتأويل الذي يطوّع النص الدستوري لاغراض من يطبقه ويمتلك الادوات السياسية. الخرق الاخر الفظيع تعلق بالفصل 76 والسبسي أدى اليمين الدستورية قبل حسم استقالته من النداء وبقي ليوم او اكثر وهو يحمل صفة رئيس نداء تونس، والمسألة بالاساس اعتبارية، لأن من يخرق مرة يخرق مرات ولا يوجد اساسا خرق "بسيط" وخرق "جسيم" والخرق خرقٌ مهما كان جنسه ونوعه، وهو يشرّع لعدم احترام القانون وسيادة الشعب العليا، ويؤشر لكل الانحرافات بالسلطة. الخروقات فعلا كانت متعددة، ومنها ما لا يمكن رصده، ولئن كانت "علوية القانون" المضمنة في الفصل الثاني من ابرز القواعد التي نالتها الخروقات فان هناك خروقات ما اخطر، عن طريق التعسف في استعمال القانون، و"ارادة الشعب" المضمنة في نفس الفصل كانت منتهكة بطريقة "قانونية" وتزوير الارادة الشعبية ان كان سابقا وفي كل مرة عبر حشو الصناديق بالبطاقات فان اليوم يتم عن طريق تضليل مكاتب سبر الاراء والاعلام الذي تفنن في صناعة ناخب "على المقاس"، وايضا الضخ المالي الداخلي والخارجي الذي ظل خارج دائرة الرقابة وتحكم بشكل كبير في ارادة الناخبية. اليوم طلع علينا الوزير المعين في حكومة الصيد المكلف بالاتصال والاقتصاد الرقمي كريم سكيك ، مقدما اعتذاره عن تولي الحقيبة المقترحة، متحججا بوجود وضعية "تضارب مصالح"، والحقيقة ان الامر ما كان ليحدث لولا كشف شبكات التواصل الاجتماعي لصفقات متنوعة اعترف بها سكيك تربطه بالمؤسسات العمومية، واطنب الرجل في مديح الصيد في بيان اعتذاره، في مغالطة واضحة للراي العام عن الشخص الذي لم يبحث في وجود وضعية مخلة بالشرف والقانون او تستر عنها، وكأن الامر لا يخص الدولة في مراكز سيادتها، سكيك لا ندري هل غابت عنه وضعية تضارب المصالح عند تقديمه لسيرته الذاتية ولم يتفطن اليها الا عند التشهير الذي طاله على الفايسبوك. الحكومة المشكلة تضمنت عديد الاسماء الاخرى من رجال الاعمال بل ان الاحزاب المشكلة لها هي احزاب مال واعمال، تفتقد لكل مقومات الحزب السيوسيولوجية ومستوجبات الحزب القانونية، وبعض الوزراء لا تزال حوله تتبعات قضائية، ومجموعة كبيرة منهم حسب بعض المصادر تحوم حولها شبهات حقيقية بالفساد. والفصول هنا 10 و11 و12 و13 و15 في الدستور المتعلقة بمناهضة التهرب والغش الضريبي والفساد وتكريس الشفافية في المال العام والمساءلة وسيادة الشعب على ثرواته، لم نكد نعثر لها عن طائلة في الواقع وحكومة جمعة كانت "النموذج" في الخروقات طوال السنة الاولى لتطبيق الدستور في هذا الخصوص، هذه الحكومة الممثلة في اغلب اعضائها لشركات دولية، وخصت خروقاتها تجديد عقود استكشاف النفط والغاز دون عرضها على مجلس النواب للموافقة. طبعا التجاوزات كانت جسيمة، والمسائل المتعلقة بالسيادة الوطنية وحفظ الثروات والمال العام هي من اخطر المسائل، والحقيقة لا ضمانات صلبة تحفظ الالتزام بها فضلا عن ان الادوات القانونية الموجودة والاليات التنفيذية المطبقة لها من الهشاشة بمكان ويبدو ان قوانين منع ممارسة نشاط فيه تضارب مصالح مع المؤسسة العمومية خلال شغل الوظيفة وبعد الانقطاع منها لا رقيب يضمنها، وايضا قانون مراقبة الذمة المالية للوزراء وكبار المسؤولين الذي بقي مقتصرا على فترة شغل الوظيفة ويفتقد لاليات فعالة للرقابة لحسن انفاذه. جمعة زيادة على حصره اغلب الوزارات لجهات الساحل تمادى في تعينات الوظائف العليا للمقربين ولم ينسى ضمان خروج "مشرف" لمستشاريه ووزرائه، احدهم عينه مختصا في المجال الاجتماعي مديرا عاما لمؤسسة طاقية، والناطق الرسمي لحكومته سعى لتعيينه في مؤسسة دولية في السودان. جمعة الذي ختم ولايته بجولات مكوكية في نطاق العلاقات العامة للولايات المتحدةالامريكية وفرنسا ومنتدى دايفوس برغم ان الدعوة تخص رئيس الجمهورية، خدمة لصورته وضمانا لمستقبله السياسي، وشاهدنا توسيما للرجل من وزير خارجية المانيا في قصر الحكومة بالقصبة، والمكافأة كانت عميقة الدلالات.. لا نعرف حقيقة امام هذا الكم الهائل من الانحرافات والخروقات، ماذا بقي للشباب والفئات الهشة والمسحوقين لضمان حقهم في الشغل والكرامة والتوزيع العادل للثروة وحق الجهات المهمشة في التنمية والتمييز الايجابي لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن يتولى منصبا يندفع للنهش والتمركز والمحسوبية والجهوية، وشبكات النفوذ هي المحدد. دستور لم يستجب في قواعده لتطلعات الشباب الذي قاد الثورة، ظل مهجورا في جزء كبير منه في منطلق تطبيقه، وكان موضع خروقات جسيمة متعددة شابته على مدى سنة كاملة، لا ندري فعلا عن اي معنى للقانون والدستور منتهك ولا ندري عن اي معنى لاستحقاقات الثورة والدولة مستباحة!!؟