هل أعاد التاريخ نفسه؟ هكذا يتساءل من يتأمل تجربتَيْعبد الفتاح مورو الأب المؤسس الثاني لحركة الاتجاه الإسلامي، وحمادي الجبالي الذي أعاد بناء التنظيم بعد محنة 1981، وأصبح على مدار ثلاثة عقود رمزا من رموزه بل مفتاحا من مفاتيحه. لا أحد يستطيع الاستهانة بمكانة الرجلين في عقول وقلوب النهضويين، أو أن ينكر رمزيتهما التاريخية، ومكانتهما القيادية. لا يستطيع أحد أن ينكر أنهما تحملا مسؤولية القيادة (السياسية لمورو، والتنظيمية والحكومية للجبالي) في ظرف صعب وتجاذبات حادة، وصراعات نفوذ عاتية، و" وعي في مستوى الصفر" لدى جزء من النخبة والقواعد الإسلامية، بخطورة المغامرة بالهجوم على نظام دكتاتوري شرس مدعوم من الخارج، وخطورة الاستخفاف بإكراهات الحكم، والثقة المفرطة في النفس، والقراءة غير الواقعية لما ينتظره الشعب من مناضليه أو من حكامه الجدد، ولمّا يمكن أن يفعله الاستئصاليون لاجتثاث الاسلاميين والخصوم السياسيين وأعداء الثورة لإجهاض تجربتهم الفتية في الحكم. لا يستطيع أحد أن يقلل من شجاعة مورو والجبالي، الفكرية واصداعهما بمواقف نفذت إلى عقول وقلوب التونسيين، وإن لم يحصل حولها إجماع بالقبول الحسن، أو بالرفض والازدراء. ولكنها حركت المياه الساكنة، وشجعت على النقد والتقييم، وساعدت على نوع من التغيير الايجابي في الاتجاه. " صدمة الاستقالة" كان لها وقعها وتأثيرها في دفع النخبة الاسلامية إلى مراجعة أخطائها، و"صدمة التكنوقراط" أنهت مسلسل ابتزاز الحلفاء، وسلطت الضوء لأول مرة على " شرعية الكفاءة وحسن الاداء" باعتبارها أساس الحكم الذي يضمن الأمن والاستقرار والرفاه. شعبية مورو لا تقل عن شعبية الجبالي، وكلاهما يعطي التونسيين صورة محبّبة عن "المناضل المنفتح" الذي يؤمن بالحوار والاختلاف، ويرفض التطرف والتعصب، ولا يتوانى عن النقد اللاذع والعلني ويدفع في اتجاه تحرير السياسي المتحزب من قيود " الانضباط الدوغمائي"، وتقديم "الولاء القبلي" على مراعاة المصلحة الوطنية. وكلاهما اقترن اسمه بلحظة إنسانية مؤثرة جلبت لهما التعاطف. لم يتخيل أحد أن يهين الأبناء والدهم، وهو جالس في مقعد الوزراء يوم تنصيب حكومة الجبالي، ينتظر ذكر اسمه الذي تبخر دون سابق اعلام من قائمة الحكومة، رغم دعوته رسميا للمجلس التأسيسي لحضور ولادتها كعضو من أعضائها؟ لحظة مؤلمة أشعرت كثيرين بالخجل بل بالقرف من السياسة التي تتغلب فيها الأحقاد والحسابات الشخصية والمزايدات ، على الأخلاق والمشاعر الإنسانية. وحين طبع الجبالي على جبين الغنوشي تلك القبلة التاريخية، انهمرت دموع، حارة وصادقة داخل القاعة وخارجها، لان السلطة لم تسرق "القائد حمادي"، ولأن السياسة لم تهزم الأخلاق ، ولأن "انقلاب 6 فيفري" لم يجهض الثورة، ولم يقسم حركة النهضة. كاد يسدل الستار عن القصة يوم وقف عبد الفتاح مورو على منصّة المؤتمر، أبا مؤسسا وقائدا تاريخيا تهتف له القاعة، بل تهتز على وقع كلماته وحركاته، ويوم استقبل الجبالي في مجلس الشورى استقبال الأبطال، بالهتاف والنشيد الوطني، والتصفيق. كاد يسدل الستار. ولكن.. الستار لم يسدل. فكلاهما يريد نهاية أخرى للقصة .كلاهما يريد أن يكتب صفحته في تاريخ حركة النهضة كما يراها هو . يريد دور البطولة المطلقة دور " الكاوباوي" الذي لا يقهر، ولا يهزم، ويصفق له الجميع في النهاية. دور السياسي المتعالي على النقد، بل صاحب الفضل بأخطائه قبل اجتهاداته الحسنة. عبد الفتاح مورو لم ينتقد دوره في التسعينات، ولم تبرهن أفعاله بعد الثورة عن اقتناعه بأنه راجع أخطائه وتخلى عن ذاتيته المفرطة والدليل هو " حديث ماريان" في ذروة الصراع ضد الانقلابيين. ماذا كان يريد وقتها؟ إنقاذ النهضة بالتضحية بنجاحها المتطرف ورئيسها الذي يقود الجناح المتصلب؟ أم استباق الأحداث ليكون في طليعة "موجة التكنوقراط" خاصة وأنه شُرّف بعضوية "مجلس الحكماء" وما أدراك ما مجلس الحكماء؟ في ذروة الإعداد لمحرقة التسعينات، فعل مورو نفس الشيء ، ألقى عبد الفتاح مورو وهو رمز القيادة السياسية العلنية وقتها، استقالته في وجوه قيادات ومناضلي، حركة النهضة في خطوة يصر هو على أنها كانت لحظة احتجاج أو محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويراها آخرون على أنها "قفز من السفينة" و"فرار بالجلد" من مواجهة محتومة بطريقة أعطت النظام المخلوع غطاء أمام الرأي العام للإجهاز على الحركة. وساعات بعد اغتيال شكري بلعيد، سارع حمادي الجبالي إلى قرار فردي بحلّ الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط، أي إخراج النهضة من السلطة بيد أحد أبنائها في شكل "انقلاب ابيض" . الجبالي برّر خطوته بالخوف على الثورة وعلى تونس وعلى النهضة. والنهضويون - أو اغلبهم على الأقل- رأوا مبادرته، إعلان حرب على الثورة والانتقال الديمقراطي، واعترافا ضمنيا بعجز النهضة عن الحكم، وهدية مجانية للاستئصاليين ليورطوها في اغتيال بلعيد، وهو السيناريو الذي تجنّد الاعلام وطابور من السياسيين والمحللين للبرهنة عليه وتحويله إلى "ساعة صفر" الثورة الثانية للإطاحة ب "دولة الخوانجية". الجبالي يصرّ على أن مبادرته امتصت احتقان الشارع وسحبت البساط من تحت أقدام المتآمرين على الثورة، وأرسلت رسائل طمأنة إلى العالم من خلال زوّاره الأجانب من السفراء والمبعوثين الخاصين. لو كان الأمر صحيحا أو دقيقا . فلماذا لم يثر الشعب على النهضة لأنها رفضت حكومة التكنوقراط؟ لماذا بقيت شعبية الجبالي، مجرّد رقم في استطلاعات رأي ولم تنزل الجماهير "لمناشدته" العودة إلى القصبة؟ لماذا لم تحظ مبادرته بأي دعم خارجي، مقابل الدعم الكامل لموقف النهضة بالدفاع عن شرعية 23 أكتوبر؟ من يعرف مورو، يصر على أن استقالته المدوية كانت تنتظر "الذريعة" والدليل على ذلك أنه لازم الصمت طيلة 20 سنة ، قبل أن ينفجر بعد الثورة صراخا وتحديا ومطالبا بحقّه في عضوية التأسيسي والحكومة وربما رئاسة الجمهورية باعتباره رمز الاعتدال في حركة متشددة. ومن يعرف الجبالي يؤكد أن فكرة "التكنوقراط" كانت تخامره منذ الفوز بالانتخابات، وأنه لم يكن راضيا عن إصرار حزب المؤتمر على إقصاء "وزراء بن علي" والمتعاونين مع نظامه، وأنه لم يجد أفضل من حادثة الاغتيال ليضع الجميع أمام الأمر الواقع. استقالة مورو من النهضة تحولت إلى صمت سلبي، ولكنه لم يقطع كل الجسور والخطوط مع رفاق الأمس، كأنما ترك الباب مواربا تحسبا أو يقينا بتغير نحو الأفضل. واستقالة الجبالي من الحكومة بعد أن رفضت مبادرته، لم تكن قطيعة، وإصراره على الاحتفاظ بمنصب الأمين العام للنهضة، وعودته المفاجئة وتحت "غطاء من القصف الاعلامي" لتزعم تيار الاصلاح وللمطالبة بصلاحياته ونفوذه داخل الحزب، بل وبترشيحه لرئاسة الجمهورية، جعلت منه في عيون أنصاره القيادي النهضوي الوحيد القادر على إنقاذ النهضة من هزيمة نكراء في الانتخابات القادمة باعتباره رمز الاعتدال في حركة متشددة، معزولة عن الواقع. رغم أن آلافا من النهضويين توقعوا أن تعيدهم خطوتهم إلى السجون والمنافي، وملايين التونسيين توقعوا أن تعيد خطوته النظام السابق في صورة أكثر شراسة ووحشية وانتقاما لا من "الخوانجية" فقط بل من الشعب الذي ثار على الدكتاتورية، وأوصل النهضة للحكم. البعد الذاتي، المتعالي، قاد عبد الفتاح مورو إلى الترشح في انتخابات التأسيسي على رأس قائمة مستقلة شعارها "سأهزم النهضة بالضربة القاضية" ، ليثبت للقاصي والداني أنه اكثر شعبية وشرعية من "التنظيم" الذي تمرّد عليه، وأن سنوات "الصمت" والاستقالة لم تجرده من شرعيته الثورية، وأن غناؤه بالألمانية في برنامج ثقافي، وتقديمه لبرنامج " شو- دعوي"، في قناة الشعب، سيجعله زعيما وطنيا. والنتيجة معلومة، هزيمة قاسية وعودة عاصفة إلى قيادة النهضة وبحث عن ذات تائهة، كادت تغامر بالقفز من السفينة مرة أخرى يوم 6 فيفري. ونفس البعد يدفع حمادي الجبالي، في الاتجاه نفسه ولكن بحذر أكبر -كعادة رجال التنظيمات السرية- يبدو وحيرة واضحة في حسم الأمور والاختيار بين السير على خطى مورو، والتريّث حتى لا يحرق أوراقه دفعة واحدة. الجبالي يرى نفسه زعيم الاعتدال، والشخصية النهضوية المحببة لدى التونسيين، ولكنه يدرك أن خروجه من النهضة سيضعفه، وأن انتماءه للساحل سيعطيه ثقلا كبيرا ولكنه لن يجعله زعيما وطنيا، وأن استقالته من الحكومة أعطته مصداقية هامة، ولكنها لن تعفيه من مسؤوليته عن فشل فريقه الحكومي، الذي تحوّل بين عشية وضحاها إلى حكومة ناجحة!! و" تمرده" على النهضة أثناء أزمة التكنوقراط قد يكون أقنعه بقدرته على تبني خط "الصوت المغاير" وارتداء جبة الاصلاح ، ولكنه يدرك أيضا أن القلوب قد لا تتسع لمغامرات جديدة مثل تجربة "المرشح المستقل" . على خطى مورو في استقالته وشطحاته المتواصلة، يريد الجبالي أن يقنع بأنه كان على حق، في " انقلابه الأبيض" وأن شعبيته في استطلاعات الرأي حقيقة لا تقبل الشك، لأنه أكبر من التنظيم والمؤسسات والقيادات والتاريخ والمعاناة ، لأنه ببساطة "اختار الوطن" على حساب الحركة، والدولة على حساب التنظيم. هما الشيء ونقيضه في نفس الوقت. الطموح الشخصي الجارف، والغيرة على المشروع. هما الاندفاع والقفز للمجهول، والحكمة والرؤية الواقعية. هما الاندفاع والتراجع، ببراغماتية أم انتهازية، أم تأثر بالمحيطين ... لا يهم. هما الصوت المختلف، المغاير، الذي يوقظ من الغفلة ويمنع السياسي من الاستغراق في "السبات الدوغمائي" ، دون شك وهما أيضاً "الصداع المزمن" ، الذي يسببه عشقهما "الاقامة في المنطقة الرمادية" ولعبة التصريحات والتسريبات، والتراجع عنها. هما كل هذه القصة الممتعة، التي يستغلها البعض للإساءة للنهضة واحراجها وإرباكها، وشق صفوفها، وتستفيد منها النهضة إلى حد الآن ببراعة لفهم أخطائها ومراجعة حساباتها وتحصين مواقعها، والتلاعب بأعصاب المراهنين على انقسامها وتفتتها.