كان من المفترض ، ونحن ندخل سنة 2010، السنة الدولية للشباب، ونحن كذلك في طريق نسياننا ما درسناه حول مشاكل ظاهرة نزوح آلاف العائلات إلى المدن بحثا عن لقمة العيش وعن كرامة مفقودة، أن لا نشاهد أو نسمع مأساة كالتي يعيشها الشاب جمال العربي، الذي أضحى يواجه، مثله مثل آلاف من أبناء العائلات النازحة، حياة لم يقرّرها ولم يرسم ملامحها دمّرت آماله وطموحاته في عيش حياة طبيعية كأنداده لتنقلب رأسا على عقب . عندما كان جمال في جهته الأصلية بولاية الكاف، لم يكن أبدا يتصوّر أن والده عامل البناء سيقرّر تحويل وجهة حياته وعائلته نحو العاصمة بسبب خيارات تنموية خاطئة تعاني منها الجهة إلى الآن حسب بعض الدراسات، (1) وطمعا في أكثر فرص الشغل حسب تقديره ، فقد كان جمال يدرس في المدرسة بكل حماس ويحيا حياة الطفل البريء مع أصدقائه ولم يكن باله منشغلا بمشاكل والده بل كان يجهل ما يعانيه من ضيق الحال وظروفه الحياتية الصعبة وهو الذي يقود عائلة تتركب من 5 فتيات وولد وما تتطلبه من مصاريف، حتى جاء القرار الفيصل شتاء سنة 2001 القاضي بالتحول فورا إلى العاصمة ليبدأ حينها التحول المفاجئ في حياة جمال. جمال، الذي يبلغ من العمر 24 سنة، يشتغل حاليا نادلا في إحدى مقاهي العاصمة، ويقضّي حوالي العشر ساعات بين غسل الكؤوس وتنظيف الطاولات... وطبيعي جدا أن الأجر الذي يتقاضاه لا يفي أبدا بحاجة عائلته التي كثرت مصاريفها ومشاكلها خصوصا مع ارتفاع الأسعار وإهتراء مقدرتها الشرائية. وللعلم فان المقهى التي يشتغل فيها جمال هي الرابعة بعد مسلسل من الترحال بين مقهى و أخرى، ذاق فيها أنواع الاستغلال من خلاص أجور زهيدة وعدم احترام القانون المنظّم لقطاع المقاهي وإهانات الأعراف ...كل هذه الأمور لم يكن جمال يتصوّر أن يعيشها قبل أن يتمّ طرده من مقاعد الدراسة، حتى أن هاجس الدراسة بات يراوده وخصوصا في الأوقات التي يواجه فيها الحيف والظلم، وهو الآن يتمنى لو يعود به الزمن إلى الوراء ليحتضن الكراس والقلم والقسم بالرغم من وضعيته المقبولة «نسبيا» في المقهى التي يشتغل فيها حاليا... ولدى استقرار العائلة في أحد الأحياء الشعبية غرب العاصمة، حيث كانت المنازل ملتصقة ببعضها بشكل غريب، في الوقت الذي كان فيه جمال ينعم سابقا بامتداد الأراضي التي كان يلعب فيها وأصدقاءه... بكل حرية، كان جمال طفلا لا يتعدّى عمره 15 سنة، وكان مسرورا بنجاحه الباهر في السنة السادسة من التعليم الأساسي، وباعتباره الابن الوحيد والمدلّل في العائلة لم يطرح والده خلال بداية استقراره بالعاصمة، أن ينقطع إبنه عن الدراسة بالرغم من الظروف الاجتماعية القاهرة، بل شجّعه على المواصلة، وتمّ ترسيمه في إحدى المعاهد الإعدادية بحيّه الجديد في السنة السابعة أساسي التي لم يتمكّن جمال من تجاوزها لثلاث سنوات كاملة. كان أبوه قد تسوّغ منزلا لا تتوفّر فيه العناصر الصحية اللازمة و يحتوي على غرفتين ضيّقتين واحتار الجميع من كيفية العيش في منزل ضيّق كهذا وحياة جديدة أبرز سماتها الفقر والجري نحو لقمة العيش و الصخب... «تبدّل كل شيء منذ المجيء إلى العاصمة، في الدراسة، في نمط الحياة و في كل شيء» هكذا أكد جمال، فقد تغيّر المعهد والأصدقاء وطريقة العيش ولم يعد له ذاك التركيز الذي كان يتمتع به في السابق وسرعة البديهة بل كان دائم الشرود والتفكير، وأكثر ما زاد انشغاله هو تعرّض أباه إلى حادث طريق ألزمه البيت ومنع على العائلة إمكانية توفير مصدر رئيسي للعيش لمدة أشهر. لم يندمج جمال في محيطه الجديد بسهولة، فقد كان منعزلا وخائفا من تكوين صداقات جديدة وتغيير أصدقائه القدامى الذين أحبّهم وتعلّق بهم وعاش معهم السنين الطوال، فلم يكن مساره ينحرف عن الطريق الرابطة بين المعهد والمنزل وعندما يعود يقول جمال انه يبقى صامتا، حتى يجيء النوم ويقطع حبل السكون. هكذا كانت سنته الأولى في تونس ، وبقي الحال هكذا إلى حدود طرد جمال من الدراسة لتجاوزه السنوات القانونية في الرسوب وبدأ التفكير جديا في الخروج إلى العمل وهو في سنّ مبكّرة لإعانة العائلة وطلاق حياته السابقة بما كانت تتضمّن من براءة وبساطة وحرية ليرتمي بجسده النحيل الذي لم يكن يقوى على العمل، بين أحضان المجهول. شغله الشاغل وهمّه الوحيد هو العمل ، حتى انه أصبح لا يفكّر مثل الآخرين في السفر أو تكوين علاقات أو المرح مع الأصدقاء، فليس هناك وقت لتضييعه، وليس هناك المال الكافي لتوفيره من اجل كل ذلك . حين كان يرى مثقّفين أو أصحاب مواقع اجتماعية مرموقة من الذين يتردّدون على المقهى، ينتابه شعور من الحسرة والألم، وهذا الإحساس تترجمه نظرة عينيه التي تعبّر عن مزيج من اللوعة والحزن، إلا أن الغريب في الأمر، انه يستدرك سريعا، وربما يواسي نفسه، بوصف وضعية أصحاب الشهادات العليا بأنهم «الآن على قارعة الطريق» فضلا عن اعتبار نفسه «الرجل الثاني» في المنزل، لذلك عليه أن يتحمّل مسؤولياته تجاه عائلته ويساهم في المصروف وتسيير دواليب العائلة بما انه رجل، حتى وان كان ذلك على حساب عديد الأشياء الجميلة التي كان من الممكن أن يتمتع بها ويحسّ بلذّتها، فعلى حد تعبير جمال «هاذيكا الدنيا»... (1) من دراسات قسم النزاعات والتشريع والدراسات والتوثيق