يستمر الحبيب عاشور في سرد الأحداث فيقول في مذكراته: (ومرّ أكثر من اسبوع على مقابلتي ومحادثتي مع الهادي نويرة دون ان يكشف عن هاته المقابلة وما تم الاتفاق عليه، والحال انه جعلني آمل كثيرا في انه سيقوم بوضع حدّ لنشاط الميليشيا ورؤسائها الذين تحدثت عنهم أعلاه. وبعد بضعة ايام من تلك المحادثة، أتاني الكاتب العام لجامعة المعادن وأطلعني على رسالة مبعوثة من الرئيس المدير العام لأهم مصنع في الجهة والتي يقول فيها : »لقد تلقيت أمرا من وزارة الاشراف بأن أوقف كل نقاش مع النقابة يتعلق بمطالب يكون لها مفعول مالي«). ويقول عاشور (فاتصلت بالرئيس المدير العام الذي صرّح لي بأنه لم يعد في وسعه ان يلتزم بأي شيء في خصوص المطالب النقابية التي سبق له وان أعطى موافقته بشأنها فاتصلت بالوزارة المعنية بالامر فوقع التأكيد لي بأن هاته التعليمات التي سبقت اتخاذ القرار هي صادرة عن الوزير الاول ذاته، وقد تم تعميم قرار الوزير الاول على جملة الشركات القومية والدواوين والتي كانت في أغلبها قد بدأت حوارا مع النقابات ونقاشا في المطالب منذ أمد طويل دون ان تكون هناك صعوبات في الحوار أو تنتج عن ذلك أية فوضى. وقد نجم عن قطع المفاوضات وعدم تطبيق الاتفاقات التي أبرمت دهشة كبيرة داخل المؤسسات المعنية، وغضب شديد داخل هياكل الاتحاد لا يساويه الا عبثية القرار الوزاري المتخذ). ويتابع عاشور: (وقد عقدت النقابات المعنية والجامعات اجتماعات متكررة، وبالنسبة لأغلبها فإن اجتماعاتها انتهت بإصدار لوائح احتجاج أو بإنذار بالاضراب، ولكن الحكومة استمرت في عدم الاستماع واصبحت الميليشيات اكثر تهديدا وبشكل خاص إثر نداءات تدعو الى القضاء على المنظمة الشغيلة). ويتابع عاشور: (وفي يوم ما (وقد تبين لي ان المقصود بذلك هو يوم 19 نوفمبر 1977) وعند انعقاد اجتماع للديوان السياسي للحزب تعرض الهادي نويرة الى نشاطات الاتحاد والذي ينوي القيام بعدة اضرابات ليس لها ما يبررها وختم نويرة كلامه بالقول إن الاتحاد العام التونسي للشغل ليس بمنظمة نقابية وإنما هو ضرب سياسي وبعد ذلك أخذ محمد الصيّاح الكلمة فقال : »يجب أن ننتهي من اتحاد هذا شأنه«، ثم أخذ الكلمة بعدهما الفرجاني بن الحاج عمّار رئيس اتحاد الصناعة والتجارة، فأعرب عن سروره باللغة التي استمع لها من الهادي نويرة ومن محمد الصياح. تركتهم بعبّرون عن سخطهم وعن الضغينة التي يحملونها ضد الشغّالين، ولكن هذا سمح لي بحصول قناعة لدي وهي قناعة كاملة ونهائية حول المشاعر الحقيقية لهؤلاء السادة قادة الحزب الاشتراكي الدستوري، وأخذت بعدئذ الكلمة وبهدوء كبير استطعت المحافظة عليه فقلت لهم »إنكم ولكي تبرّروا قطعكم للحوار والمفاوضات المستمرة منذ أشهر بين الرؤساء المديرين العامين والاعراف من جهة وبين الاجراء من جهة أخرى، فإنكم دفعتم بتهمة شنيعة لا شيء يبررها مطلقا، وهي ان الاتحاد اصبح حزبا سياسيا ولم يعد منظمة نقابية ومن بين هؤلاء الذين ذهب بهم الشطط الى التعنيف في قولهم وظهروا مقتنعين بهذا الاتهام، هل هناك شخص واحد منهم يستطيع ان يعطينا دليلا واحدا على ذلك؟ فلربما حصل ذلك دون ان أعلم فأنيرونا من فضلكم!«. ويتابع عاشور: (وسكتّ لحظة انتظر فيها الجواب، ولكن لم ينبس أحد ببنت شفة ولذلك أخذت الكلمة من جديد وقلت: »ولكنّي انا أستطيع ان أقدم لكم الحجّة على ان الاتحاد هو منظمة نقابية ولا شيء اكثر من ذلك، ولوضع حدّ لهذاا الحراك الاجتماعي فإني أقترح عليكم ان تلغوا هذا المنشور الوزاري الذي وضع حدّا للمفاوضات بين الاعراف والاجراء، وسوف لن يحتفظ الاتحاد العام التونسي للشغل الا بالمشاريع التي هي بصدد النقاش فيها مع عشر شركات فقط والتي توصّل فيها الاطراف المتعاقدون الى اتفاق حول العديد من النقاط«، وذكرت لهم اسماء الشركات التي مازال فيها النزاع قائما حول بعض النقاط وعلاوة على هذه المنازعات فإن الاتحاد سيبذل كل ما في وسعه لأن يقع النظر في مطالب الاجور مرّة واحدة في السنة، كما وقع الاتفاق على ذلك مع الحكومة ومع منظمات الاعراف في موعد افريل، وهذا سيدي الامين العام للحزب في كلمات قليلة الدليل الساطع على ان الاتحاد هو بعيد كل البعد عن اعتبار نفسه حزبا سياسيا ولكنه منظمة نقابية اصيلة). ويتابع عاشور في مذكراته: (وهنا أخذ محمد مزالي (الذي كان في ذلك الفترة عضوا في الديوان السياسي) الكلمة فقال بصوت مرتفع: »إني لا أعلم بماذا يمكن لكم ان تطالبوه بأكثر من ذلك« وأضاف: »انه من الملائم ان نقوم بحل هاته المشاكل بسرعة لكي ننتهي منها ونأخذ الحبيب عاشور بكلامه واني أطلب منه الآن اذا ما كان متمسكا بكلامه« فأجبته: »نعم بالرغم من مسؤوليتي الكبرى فإني التزم بإحترام ما سنتفق عليه وان رفاقي في الاتحاد سيطبقون وجهة نظري التي تحدثنا عنها« وهنا بدا الانشراح والرضا على وجوه كل اعضاء الديوان السياسي من اجل هذا القرار الهام واستدعى مصور لأخذ صور لنا وقد قام خصماي اللدودان الصيّاح والفرجاني بن الحاج عمّار رئيس نقابة الاعراف بأخذ صورة معي أحدهما على يميني والثاني على يساري وقد نشرت الصحف الصادرة صباح الغد هاته الصورة). ويتابع الحبيب عاشور: (وفي مساء ذلك اليوم كوّنا ثلاث لجان تقاسمت الشركات التي لازالت بها نزاعات وقد ترأس كل واحد من هاته اللجان وزير مع ممثلين عن الاتحاد العام التونسي للشغل وممثلين عن اتحاد الاعراف). وهنا اكتفى بسرد ما أورده الحبيب عاشور حول الحوار مع الحكومة في مذكراته وسأعود لما ذكره فيها والمتعلقة بنفس الموضوع في الصفحة 188 من هاته المذكرات. وأعود لسرد بقية الاحداث حسب تسلسلها الزمني فأقول : في 20 ديسمبر 77 أصدر الاتحاد العام بيانا جاء فيه : »بعد تبادل الآراء حول نتائج الازمة الاخيرة يعبّرون عن ارتياحهم لعدم استفحال الازمة وللتوصّل الى حلّ انقذ الموقف قبل فوات الآوان بفضل تفهم رئيس الدولة وإدراكه العميق للخطر الذي كان يهدّد البلاد بما لا طاقة لها به ويهدّد بتصدّع الوحدة القومية التي ناضل الاتحاد في الماضي لتركيزها بالكفاح الوطني، ومازال يناضل بنفس الحماس لتركيزها بالعدالة الاجتماعية كما يعبّرون عن ارتياحهم لحصول الاتفاق على ايجاد الحلول الناجعة للمشاكل طبقا للمبادئ التي تضمنتها لائحة الهيئة الادارية المنعقدة بتاريخ 15/9/1977. وفي صائفة 77 ارتفعت الاسعار بصفة ملحوظة ونددت جريدة الشعب بذلك، وكان يرأس تحريرها المرحوم حسن حمودية عضو المكتب التنفيذي، وكان الصحافي المعروف المختار الغريسي هو مساعد رئيس التحرير وقد طلب من وكالة تونس افريقيا للأنباء أين كان يعمل أن تسمح له بالتفرّغ للعمل بجريدة الشعب وكانت اسرة تحرير الجريدة تتركب من المذكورين ومن المرحوم محمد ڤلبي ومحمد المخلبي وعلي الجريدي وفرج منصور الذي التحق فيما بعد بالمحاماة والمختار بوبكر ومحمد صالح المعروفي (محمد صالح التومي والذي إلتحق فيما بعد بالمحاماة وهو الآن يكتب باستمرار عديد المقالات بجريدة الشعب) وعبد الحميد عاشور وفتحي العياري. وقد تم توجيه سؤال من حاكم التحقيق الى كل اعضاء المكتب التنفيذي عند حضورهم لديه لاستنطاقهم بأن لهجة جريدة الشعب قد اصبحت حادّة وفيها صبغة تحريضية ضد الحكومة وقد اعتبر احتداد لهجة جريدة الشعب من طرف محكمة أمن الدولة هكذا عنصرا من عناصر إدانة النقابيين اللذين اتهموا بالتآمر ضد أمن الدولة وبهذا الصدد يقول عبد الحميد بلعيد عضو المكتب التنفيذي بمحضر استنطاقه: »إني لا أرى فيما نشرته جريدة الشعب أو ما صدر عن الاتحاد في مختلف مستوياته أو دار بجلساته من نقاش ما فيه تهجم على النظام او تحريض عن العنف الامر الذي نتجت عنه 26 جانفي 1978، بل اعتبر جريدة الشعب تدافع، وفيها ردّ على الصحف الحزبية ووسائل الاعلام الحكومية وان لوائح الإتحاد بمختلف مستوياته تطالب بحلّ المشاكل النقابية والدفاع عن حقوق العمال«. وقد صرّح خير الدين الصالحي عضو المكتب التنفيذي في استنطاقه من طرف حاكم تحقيق محكمة أمن الدولة: »إني لا أرى فيما ينشر بجريدة الشعب في الفترة السابقة لأحداث 26 جانفي ما فيه تحريض على الأحداث ولا يطّلع المكتب التنفيذي مسبقا على ما ينشر بجريدة الشعب الا السانحة فقد تعرض أحيانا على الأمين العام قبل نشرها«. ويقول الطيب البكوش في محضر استنطاقه من طرف حاكم التحقيق بمحكمة أمن الدولة »واثر أزمة ارتفاع الاسعار الحاصلة بمناسبة شهر رمضان والتي لم يقع الحدّ منها والتحكم فيها في الإبان مع كثرة المضاربة والاحتكار وسيطرة الوسطاء في السوق وضعف القدرة الشرائية للأجراء الأمر الذي فقدت معه تعديلات الأجور تأثيرها، تحركت النقابات مطالبة بالنظر في مطالب قديمة كان تأجل النظر فيها خاصة ما صدر بشأنها قوانين لم يقع تطبيقها مثل قانون المناجم وقانون النفط حسبما عبرت عن ذلك اللوائح خاصة اللائحة الصادرة عقب اجتماع الهيئة الادارية في 15 سبتمبر 1977 وعقب ذلك حصلت مصالحة في مستوى الديوان السياسي وأعلمنا الأمين العام بأن الوزير الأول وعد بإرجاع الأسعار الى ما كانت عليه عام 1973 والوعد بتوقيف الحملة الاعلامية وان تتخذ الاجراءات الناجعة للحدّ من الاسعار«. وهنا لابد لي من التنويه بالمستوى الرفيع التي أصبحت عليه جريدة الشعب فقد كانت طيلة سنوات السبعينات الجريدة المستقلة الوحيدة التي تصدر في تونس قبل أن تبرز الى الوجود جريد »الرأي« وكانت الجماهير الشعبيّة المكبوتة تجد فيها متنفسا لها وكانت تلك الأقلام الحرّة التي سبق لي ان ذكرتها تعبّر بكل شجاعة عن مواقف انتقادية لحكومة الهادي نويرة خاصة من بداية أواسط السبعينات ثم انضمت لها بعد ذلك جريدة »الرأي«. ويقول المختار الغريسي نائب رئيس تحرير جريدة الشعب بمحضر استنطاقه من طرف ادارة أمن الدولة ما يلي: »بحكم صفتي النقابية ككاتب عام للنقابة العامة للثقافة والاعلام وكاتب عام للنقابة الاساسية لوكالة تونس افريقيا للأنباء حضرت عدة اجتماعات انعقدت على مستوى الهيئة الادارية والمجلس القومي للاتحاد العام التونسي للشغل ركزت فيها تدخلاتي على ان الصحافة في بلادنا لا تقوم بدورها في المجتمع كما ينبغي باعتبارها لا تلفت النظر الى السلبيات وهو عمل يتنافى مع المهنة الصحفية وقد استخلصت شخصيا العبرة من تجربة تعميم التعاضد خلال النصف الثاني من الستّينات ذلك ان الصحافة التونسية ساهمت مساهمة فعّالة في تزيين تلك التجربة التعاضدية ولم تقم بلفت نظر الحكومة الى سلبياتها الى ان حصلت الكارثة المعهودة كما نقدت الحملة التي تعرض لها الاتحاد في الصحافة التونسية والتوجيه الذي تتعرض له أجهزة الاعلام العمومية من الحزب والرامي الى عدم إعلام هذه الاجهزة بنشاطات الاتحاد وتعرضت ايضا بخصوص الحديث عن ارتفاع الاسعار ان ردّ السيد الوزير الاول على ما كتبته جريدة الشعب من مقالات مختلفة حول الشطط الواضح الذي طرأ على الاسعار في شهر رمضان الماضي اتسم بشيء من الانفعال لم نعهده منه لأننا عرفنا فيه رجلا تحرريا، وما جعل سيادته ينفعل حسب اعتقادي فذلك يرجع الى ان المعلومات التي أبرزتها جريدة الشعب هي صحيحة ولو كانت عكس ذلك لما ردّ سيادة الوزير الأول على هذا الموضوع وان كل ما صدر بالجريدة في هذا المجال تم استيقاؤه من مصادر مطّلعة فضلا عمّا لوحظ بالاسواق العمومية«.