تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانطلاق بمظاهرة نادى خلالها التونسيون ببرلمان تونسي
حوادث 9 أفريل الداميّة كما رواها حاكم التحقيق الفرنسي 23 قتيلا ومئات الجرحى في صفوف المتظاهرين وقتيل و4 جرحى في صفوف الجندرمة الفرنسيين
نشر في الشعب يوم 10 - 04 - 2010

لقد كانت العاصمة يوم 8 أفريل 1938 مسرحا لمسيرتين جبارتين، الأولى بقيادة الزعيم المنجي سليم وانطلقت من رحبة الغنم والثانيّة بقيادة علي البلهوان وانطلقت من الحلفاوين، وكانت نقطة التقاء المسيرتين باب البحر أمام مقر الإقامة العامة الفرنسية وقد ألقى الزعيم علي البلهوان خطابا ألهب الحماس ضمنه احتجاجا قويا من الشعب التونسي ضدّ سياسة الحكومة الفرنسية، مطاللبا بانتخاب برلمان تونسي، ومنح التونسيين الحريات العامة ومعلنا عزم الشعب على الاستمرار في التظاهر حتى يظفر برغائبه المشروعة، ومعلنا كذلك أنّ مسيرة جبارة ستنتظم يوم 10 أفريل 1938.
كان من المتوقع وقد انفضت مظاهرة يوم 8 أفريل بالعاصمة تونس، أن تنتظم مظاهرة سلمية أخرى يوم 10 أفريل 1938.
غير أن يوم 9 أفريل لم يمر بسلام، فقد عمدت السلطات الاستعمارية إلى إلقاء القبض على الزعيم علي البلهوان، وسرى الخبر سريان النار في الهشيم فتجمعت جماهير غفيرة بشارع باب البنات، أمام قصر العدالة حيث اقتيد الزعيم علي البلهوان للاستنطاق... وسرعان ما انقلبت المظاهرة إلى معركة دموية مع الشرطة والجندرمة والعساكر (1).
هذا ما كنا نردده وما تلقيناه سنوات وسنوات إحياء لعيد الشهداء الذين قدموا أرواحهم رخيصة قربانا لحريّة الوطن، وفي هذا الصدد أريد أن أتوقف عند معطيات ومعلومات جاء بها ضابط فرنسي وهو الرائد »دي قيران دي كايلا« (2) بوصفه قاضي التحقيق لدى المحكمة العسكرية بتونس المكلف بملف »المؤامرة ضد أمن الدولة« والذي تعرض بإطناب الى كل ما حدث يوم 9 أفريل 1938 وذلك ضمن قرار الإحالة الموجه الى دائرة الاتهام لدى محكمة الاستئناف بالجزائر. فقد كتب »دي قيران دي كايلا« ما يلي: »في يوم السبت 9 أفريل 1938 صباحا سرى خبر مفاده أن علي البلهوان اتصل في الساعة الحادية عشرة بدعوة للمثول أمام قاضي التحقيق بقصر العدالة بتونس، وقد وصل هذا الخبر إلى أسماع الطلبة الزيتونيين فانتظمت مسيرة في اتجاه قصرالعدالة بحيث وصل علي البلهوان أمام هذه البناية على رأس عدد كبير من الاهالي« ويضيف »دي قيران دي كايلا«: »وعلى الساعة الثالثة ظهرا سرى خبر مفاده أن علي البلهوان سيودع السجن، فحاول هذا الحشد اكتساح قصر العدالة ولكن قوات الأمن وكان عدد أفرادها 40 عونا سيتم دعمهم لاحقا تمكنت بعد جهد جهيد من التصدي لذلك الحشد«، ويضيف قاضي التحقيق: »وأمام ضغط قوّات« حفظ النظام، تقهقر هذا الحشد، وقد انقسم الى ثلاث مجموعات«.
❊ في ساحة باب العلوج
المجموعة الأولى تحصنت وراء قصرالعدالة بساحة »باب العلوج« وعمدت إلى رمي وابل من الحجارة على مبنى كتابة المحكمة المدنية بتونس وعلى سيارات على ملك فرنسيين كانوا غامروا بالمرور من هذه المنطقة، وكانت الحجارة توفرت لهم من حضيرة بناء كانت متواجدة هناك.. ولم يتمكن المسيو »باسيار« (3)، وهو فرنسي الجنسية من النجاة إلا بفضل تدخل صديق تونسي خفّ لنصرته. أما المسيو »فيلانق« (4) وهو صيدلي وضابط بالبحرية الفرنسية فقد تعرضت سيارته الى التهشيم وأصيب بجروح من جراء ذلك، وقد تمكن من الوصول الى المستشفى المدني شاهرا مسدسا كان في قبضته، وهو يتلمس طريقه بين أفراد عصابة من الأشرار تملكها شعور من الغضب والعنف«.
ومضى »دي قيران دي كايلا« يقول: »وعلى الساعة الرابعة بعد الزوال حلّ بساحة »باب العلوج« الجندي »كولومباني« (5) وكان يمتطي دراجة عادية، ولما اقترب من الساحة انطلقت صيحة: هاهو اضربوه... اضربوه... فحاول الجندي الهروب ولكن وابلا من الحجارة لاحقه فأصيب في جبينه وسقط في الطريق على ركبتيه، فأحاط ذراعيه برأسه حماية له، فيما هرول عدد كبير من الأهالي فأشبعوه ضربا ولكما بواسطة عصي كانوا يحملونها وحجارة كانت في أيديهم، وقد أغمي على الجندي »كولومباني« وكاد يلفظ آخر أنفاسه لولا تدخل ثلاثة من العاملين في المستشفى المدني (6) الذين سارعوا لنجدته بكل شجاعة وأجبروا الجماعة على ترك سبيله، وقد نقل إلى المستشفى العسكري على عجل وهو في حالة غيبوبة، حيث أجريت له عملية جراحية. وانتهت المعركة في هذه المنطقة في السابعة مساء وكانت قد استمرت 4 ساعات كاملة«.
❊ في ساحة باب سويقة
ويواصل »دي قيران«: »أمّا المجموعة الثانية، فقد اتجهت نحو ساحة باب سويقة والشوارع المحيطة بها، مرورا بشارع باب البنات وهناك استهدف الحشد الهائل عربات »الترامواي« فأمطر 12 منها بوابل من الحجارة، ونتيجة لذلك لاذ الركاب والأعوان بالفرار، بينما تمّ حرق عربتين من عربات »الترامواي« (7) واضطر رجال الإطفاء إلى إطفاء النيرات تحت وابل من الحجارة. وقد تمّ إطلاق النار على القوّة المسلحة التي خفت إلى المكان مما »اضطرها« لردّ الفعل، وتدخلت فرقة الخيّالة (الفرسان)، وكذلك السيارات العسكرية المجهزة بالمدافع الرشاشة (8) لإخلاء ساحة باب سويقة والشوارع المحيطة بها. وكانت الأضرار بساحة باب سويقة جسيمة، وكذلك الشأن بنهج »المرّ« حيث تم هناك تحطيم عدد كبير من عربات النقل وتعطيبها«.
❊ في ساحة القصبة
ويضيف »دي قيران«: »أمّا الجماعة الثالثة فقد اضطرت للتقهقر في اتجاه شارع »باب المنارة، وكان المتظاهرون، أثناء انسحابهم، قد عمدوا إلى الاعتداء على قوات الأمن والمباني التابعة لإدارة المالية وعلى السيارات التي كانت تحاول المرور أو التي كانت راسية أمام إدارة الشؤون الاقتصادية. وكانت قوات الأمن المتركبة من فوج من الجنود (9) ومن أعوان الشرطة و»الجندرمة« تتحرك تحت قيادة آمر »الجندرمة« الفرنسيّة بالبلاد التونسية العقيد »فالون« (10).
»وقد أبدى المتظاهرون في ساحة القصبة مقاومة شديدة، ولكن أمكن في النهاية السيطرة عليهم بعد جهد جهيد. وتحسبا لكل الطوارئ والاحتمالات، تمركز أعوان الشرطة العسكرية أمام مدخل ثكنة القصبة (11) لحمايتها من كل محاولة اكتساح وقد أقام المتمردون حاجزا في مدخل شارع باب منارة، وذلك بين الجامع والمستشفى الصادقي. وباتت المعركة عنيفة جدا، فقد كان في حوزة المتمردين أنواع مختلفة من الأسلحة، من مسدسات وسكاكين وحجارة، واختلط التراشق بالحجارة مع الطلقات النارية فأعطى العقيد »فالون« الإذن بتوجيه الإنذارات الرسمية (12) باللغة العربية ولكن المعركة استمرت على أشدها، وسقط عون »الجندرمة« »نيكولا« (13) مغشيا عليه بعدما أصابته طعنة سكين في رقبته، وقد نقل الى المستشفى الصادقي المحاذي حيث لفظ أنفاسه الأخيرة متأثرا بجراحه، وتوالت الاعتداءات على الأشخاص.. ففي تمام الخامس والربع مساء، وبينما كان الجنديان »لامبلي« (14) و»هاسير« (15) في طريق العودة إلى ثكنة القصبة، تعرضا إلى الاعتداء من طرف عدد كبير من المتظاهرين الذين تحصنوا بنهج »السراجين«، وقد أصيب »هاسير« برصاصة مسدس خلفت له جروحا خطيرة في رجله بينما وجهت للجندي »لامبلي« طعنتا سكين، وفي الوقت نفسه تقريبا كان الجندي »بلان« (16) التابع لفوج الممرضين الخامس والعشرين ضحيّة اعتداء من طرف جماعة من المتمردين الذين سددوا له ضربة على أم رأسه أسقطته أرضا أردفوها بضربة أخرى أفقدته الوعي والقوة، وكاد المتظاهرون يقضون على حياته لولا ضابط الصف »لواس« الذي سارع لنجدته وإنقاذه رغم أن أزيز الرصاص كان يصفر قرب أذنيه، وكانت السيارات العسكرية المجهزة بالرشاشات تجوب شارع »باب المنارة« للسهر على سيولة حركة المرور ومرافقة السيارات التي كانت على ملك الأوروبيين بوصفها معرضة لعديد الاعتداءات مما أدى الى جرح عدد من سائقيها«.
وفي خاتمة هذا الجزء من قرار الإحالة الموجهة الى دائرة الاتهام لدى محكمة الاستئناف بالجزائر أشار »الكومندان« الرائد »دي قيران دي كايلا« إلى: »أن المتظاهرين كانوا أثناء مواجهتهم العنيفة لقوات الامن يوم 9 أفريل بعد الظهر يرددون: »اللّه أكبر، اللّه أكبر، الجهاد في سبيل الوطن.. برلمان تونسي، الجهاد في سبيل الوطن«.
نتائج الحوادث
وقد أسفرت هذه الحوادث الدامية حسب المصادر الرسميّة الفرنسية عن 23 قتيلا (17) ومئات الجرحى في صفوف المتظاهرين وقتيل وأربعة جرحى في صفوف الجندرمة والجنود الفرنسيين أحدهم في حالة خطيرة، كما أصيب عدة استعماريين فرنسيين بجروح متفاوتة الخطورة. على أن النتائج لم تتوقف عند هذا الحد فعلى الصعيد السياسي تم في يوم 9 أفريل إعلان حالة الطوارئ في منطقة المراقبة المدنية الفرنسية بالعاصمة تونس.
وفي فجر يوم 10 أفريل حاصرت قوات الأمن من شرطة وجندرمة منزل الزعيم الحبيب بورقيبة »برحبة الغنم« حيث تمّ إخراجه عنوة من فراش المرض ونقله مباشرة للسجن العسكري. وبالمناسبة تم إلقاء القبض على زعماء الحزب الدستوري ومئات من المناضلين الآخرين في كامل أنحاء البلاد وتم الزجّ بهم في السجون والمحتشدات وأرسلوا الى المنافي، وختمت الاجراءات التعسفية بقرار خطير يتمثل في حلّ الحزب الحرّ الدستوري الجديد وذلك في 12 افريل 1938.
وقد تمّ تكليف »الكومندان« »دي قيران دي كايلا« باستنطاق الزعيم الحبيب بورقيبة وأعضاده في قضية نعتت بأنها قضية التآمر على أمن الدولة والتحريض على التباغض بين الأجناس وحثّ السكان على مخالفة قوانين البلاد ومنع الجنود الشبان من الالتحاق بالجنديّة وصرف جميع من هم مهيؤون للتجنيد عن القيام بواجبهم كما يقتضيه القانون العسكري (18) وحسب الوثائق الرسمية الفرنسيّة، فإنّ عدد المعتقلين بكامل البلاد بلغ في الفترة المتراوحة بين 9 و20 افريل 659 معتقلا (19).
❊ توتّر في صفاقس
وعن إثر الأنباء الواردة من العاصمة تونس وما جد فيها من أحداث وتطورات دامية ومن اعتقال للزعماء وحل الحزب الدستوري، ساد توتر شديد بصفاقس وأعلنت الاطارات الدستورية الإضراب العام احتجاجا على سياسات القمع والاضطهاد والتعسف وبدا واضحا للدستوريين في كل مكان أن القمع سيكون هذه المرة أشد وطأة وأصعب مراسا مما كان عليه في المعركة الأولى. وبناءً على ذلك تم اعتقال الزعيم الهادي شاكر في يوم 26 أفريل بصفاقس ونقله فورا إلى تونس العاصمة حيث أودع السجن العسكري صحبة قادة الحزب وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة، وبدأ استنطاقه من طرف حاكم التحقيق العسكري »دي قيران دي كايلا«.
وقد تعددت الاعتقالات بصفاقس وضواحيها وأريافها، في صفوف المناضلين وصدرت ضدهم أحكام بالسجن والأشغال الشاقة، وتمّ نقل البعض منهم إلى سجن »لامباز« بالجزائر.
❊ التآمر على أمن الدولة
وعندما تمّ ختم التحقيق في 17 فيفري 1939 وجهت التهم الخطيرة المتمثلة في التآمر على أمن الدولة والتحريض على التباغض بين الاجناس وحثّ السكان على مخالفة قوانين البلاد ومنع الجنود الشبان من الالتحاق بالجنديّة وصرف جميع من هم مهيؤون للتجنيد عن القيام بواجبهم كما يقتضيه القانون العسكري«، وذلك ضد:
الحبيب بورقيبة، صالح بن يوسف، علي البلهوان، المنجي سليم، الدكتور سليمان بن سليمان، محمود بورقيبة، الهادي نويرة، الهادي شاكر، يوسف الرويسي، الحبيب بوڤطفة، الشاذلي قلالة، علالة العويتي، محمد الصالح بن جراد، علي الزليطني، علي درغوث، عيسى الصخري، الهادي بن عطية، البشير بن يوسف، حسونة الزوالي. وكل هؤلاء معرضون، بطبيعة التهم، للحكم عليهم بالإعدام. وقد تمّ الإحتفاظ بهم رهن الاعتقال وإحالتهم على المحكمة العسكرية بتونس لمقاضاتهم.
وقرر حاكم التحقيق العسكري »دي قيران دي كايلا« إطلاق سراح كل من: الطاهر صفر، البحري ڤيڤة،، البشير بن فضل، محمد المخ، محمد براهم، الطيب بن عيسى، مفتاح بن فرحات، الصادق الورداني، الطاهر الراشدي وحسونة العياشي.
وحلّ شهر جوان 1939 وقد أنهى حاكم التحقيق العسكري »دي قراي دي كايلا« إعداد قرار الإحالة القاضي بإحالة المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة ورفاقه للمثول أمام المحكمة العسكرية بتونس بالتهم التي ذكرناها آنفا، ووقع عليه يوم 10 جوان 1939 وتولى توجيهه إلى دائرة الإتهام لدى محكمة الإستئناف العسكرية بالجزائر العاصمة لعدم وجود مثيل لها بتونس.
❊ حصن »سان نيكولا« بمرسيليا
كان الوضع العالمي منذرا باندلاع حرب لا تبقي ولا تذر، فالمواجهة بين ألمانيا من جهة وفرنسا وبريطانيا العظمى من جهة أخرى آتية لا ريب فيها وفي شهر سبتمبر 1939، اعلنت الحرب وفي هذا الجوّ المشحون نقل الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه ومن بينهم الهادي شاكر إلى السجن العسكري ببلدة تبرسق في شهر نوفمبر 1939 ومنذ نقل الحبيب بورقيبة ورفاقه الى تبرسق بدا أن محاكمتهم أصبحت غير واردة، وذلك نظرا للظروف التي أصبحت قائمة بفرنسا، وقد تدعم هذا الاعتقاد لما اجتاحت الجيوش الالمانية الاراضي الفرنسية يوم 15 ماي 1940 فاكتسحتها بسرعة كبيرة أمام عجز القوات الفرنسية عن رد الهجوم وتقهقرها السريع وعدم القدرة على مجابهتها أو التصدي لها.
وفي 26 ماي 1940 دعت إدارة سجن تبرسق الحبيب بورقيبة ورفاقه لإعداد العدّة لمغادرة السجن لوجهة لم يحددوها لهم، وفي فجر يوم 27 ماي 1940 توجه القادة الدستوريون ومن ضمنهم الهادي شاكر على متن حافلة عسكرية نحو وجهة كانوا يجهلونها ثم تبيّن لهم أنهم متوجهون الى مدينة بنزرت ومينائها العسكري، وقد تم نقلهم على متن البارجة »ألسيون« (20) التي كانت في انتظارهم وأبحروا إلى خارج بلادهم وهم لا يعرفون موعدا للعودة، بل لا يعرفون إن كانوا سيعودون يوما ليسيروا على أرضها المقدسة ثم ظهر أن البارجة العسكرية الفرنسية متجهة نحو مدينة »مرسيليا« بجنوب فرنسا.
وفي الأثناء قرر الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه تعيين المحامي الاستاذ »لادميرال« (21) لمتابعة القضية بالعاصمة الجزائرية وقامت دائرة الاتهام لدى محكمة الاستئناف العسكرية في مرحلة أولى، بدراسة قرار الاحالة ووافقت على محتواه شكلا ومضمونا، أي أنها أقرت اختصاص المحكمة العسكرية بتونس للنظرفي الغرض.
وفي مرحلة ثانية، وإثر طعن قرار الاستئناف من طرف المتهمين، أحيل الملف على أنظار محكمة التعقيب بباريس وفي 9 فيفري 1940 اتخذت تلك المحكمة قرارين اثنين:
❊ الأول يؤكد اختصاص المحاكم العسكرية للنظر في قضية التآمر على أمن الدولة.
❊ والثاني يحيل المتهمين، ومن بينهم الهادي شاكر، على المحكمة العسكرية ب»مرسيليا« عوضا عن المحكمة العسكرية بتونس، وقد برّرت محكمة التعقيب بباريس قرارها هذا بأنه »يستجيب لمقتضيات الأمن العام« وفي هذا الاطار وتبعا لذلك تم نقل القادة الدستوريين إلى »مرسيليا« يوم 27 ماي 1940.
❊ حصن »سان نيكولا« ومفاجآته
بعد الوصول إلى مرفإ »مرسيليا«.... غادر الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه المكان على متن حافلة عسكرية مجهولة الوجهة محفوفة بكوكبة من أعوان »الجندرمة« التابعين للبحرية. وبعد المرور ببعض شوارع المدينة التي كانت مقفرة من المارة لا حياة فيها.. انتهى بهم المطاف عند حصن »سان نيكولا« وهناك كانت المفاجآت في الموعد فعند وصولهم انهال عليهم أعوان الحصن ضربا ولكما وشتما انتقاما منهم وامتهانا لكرامتهم، ثم دفعوهم الى غرفة واسعة الأرجاء تم فرشها بالتبن وأعلموهم أنها ستكون مرقدا لهم، فركن كل منهم إلى ركن منها خصصه لنومه في ظروف يعجز الحديث عن وصفها.
وقد اتسمت العلاقة بين القادة الدستوريين المسجونين وإدارة الحصن العسكري بالتوتر الشديد المستمر، وبدت ظروف العيش صعبة جدا، وزادت إلى الغربة أحاسيس مرة بمحاولات امتهان الكرامة، غيرأن المساجين من القادة الدستوريين لم يلبثوا حتى رفعوا أصواتهم بالاحتجاج وبلغت تلك الاحتجاجات كلا من باريس وتونس بحيث اضطرت إدارة الحصن لتحسين معاملتهم بعض الشيء، خاصة وأن انهيار فرنسا أمام الجيوش الألمانية أذهل الفرنسيين وكسر شوكتهم، ممّا أدى إلى تخليص سلوكهم من بعض شوائب الصلف والتعالي والمكابرة.
❊ المراجع:
(1) انظر كتاب »الحبيب بورقيبة، حياته وجهاده« ص 71.
(2) Le Commandant De Guérin du Cayla
(3) Mr. Bessières
(4) Mr. Villeng
(5) Le Zouave Colombani
(6) حاليا Hôpital Charles Nicole
(7) Automotrice
(8) Mitrailleuses
(9) Section des Zouaves
(10) Colonel Vallon
(11) Les sommations d'usage
(12) Le gendarme Nicolas
(13) Lemblé
(14) Haaser
(15) Blanc
(16) L'adjudant Loes
(17) بينما أقرت بعض الصحف الفرنسية إن عدد القتلى بلغ مائة وخمسين.
(18) وجهت هذه التهم إلى كل من: الحبيب بورڤيبة، صالح بن يوسف، علي البلهوان، المنجي سليم، الدكتور سليمان بن سليمان، محمود بورڤيبة، الهادي نويرة، الهادي شاكر، يوسف الرويسي، الحبيب بوڤطفة، الشاذلي قلالة، علالة العويتي، محمد صالح بن جراد، علي الزليطني، علي درغوث، عيسى الصخري، الهادي بن عطيّة، البشير بن يوسف وحسونة الزوّالي.
(19) وثيقة صادرة عن هيئة أركان الجيوش الفرنسية مؤرخة في 12 ماي 1938.
(20) La Frégate ALCYON
(21) الاستاذ LADMIRAL أصيل جزيرة لامارتينيك الفرنسية وكان يباشر مهنة المحاماة بالعاصمة الجزائرية.
❊ من كتابه »الهادي شاكر، جهاد واستشهاد« طبع التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، صفاقس، سبتمبر 2003، من ص 113 إلى ص 130 (بتصرف)
بقلم الاستاذ عبد المجيد شاكر المحامي الوزير. السفير ومدير الحزب الدستوري سابقا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.