للأدب علاقة وطيدة وقديمة مع السجن في قدم الأدب نفسه هوميروس نفسه في »الأوديسا« وضع العديد من الآلهة أو نصف الآلهة في سجون مختلفة (الجحيم، الجزر، الجبال...) والعديد من الروايات، التي كان للسجن فيها بعدا دراميا فعالا، حضيت بشهرة شعبيّة كبيرة، فمن لا يعرف »الكنت مونتي كريستو« أو »الزنبقة السوداء«، أو »بابيون« (papillon) ! وبما أنّ السينما، أصغر الفنون سنّا، قد ربطت علاقة إقتباس مع الأدب منذ نشأتها (رحلة إلى القمر لملياس 1902) فإنّها إرتكزت على مبدإ »صديق صديقي يصبح صديقي« لتبني علاقة تواصل مع السجن خاصة أنّ السينما، في روحها ليست سوى »سجن أبدي للصوّر«. هكذا إذا وعلى إمتداد أكثر من قرن تطرّق »الفن السابع« إلى السجن بجميع المقاربات، فكان الفلم الفكاهي (شرلو، لورال وهردي، عادل إمام وفرنندال...) وفلم رعاة البقر (الزاحف Le Reptile) والإجتماعي (النبي، Un prophéte، سجين ألكتراز) والفلم السياسي (الإعتراف L'aver) والفلم الحربي (الهروب الكبير La grande évasion) وفلم الخيال العلمي والصور السحرية وغيرها وعلى عكس الأدب العالمي فقد تحدّثت الرواية العربية على السجون بصفة محدودة جدّا فإذا إستثنينا بعض الكتاب المصريين والروائي السوري نبيل سليمان الذي تطرّق في كتابين لسجن الذكور ثم سجن النساء، لا نجد سوى بعض العناوين المتفرّقة والمتناثرة والتي لا يمكن أن تطلق عليها مصطلح أدب السجون... وهذا أمر طبيعي في ظلّ مجتمعات أصبح فيه مصطلح »السجن« مصطلحا سياسيا لإرتباطه ب »سجن« حرية التعبير والافصاح بالرأي فالتطرّق الى السجن مثّل ومازال يمثّل موضوعا محضورا وعلى هذا الاساس إلتصقت الروايات التي تروي السجن باسماء المعارضة بل ان اغلبية هذه الروايات تتناول »السجن السياسي« ولا تتعرّض »للسجن المدني«إلاّ عرضا. وكذلك السينما العربية التي تكلّمت على هذا الموضوع، فقد تناولته من هذه الزاوية، إذا إستثنينا بعض الاشرطة المصرية القليلة والتي تفتقد الى قيمة فنيّة وفكرية مؤثرة في تاريخ هذا الفنّ. والبحث يطول في ذاكرة السينما العربية لنجد أفلام تحكي عن السجن في غير إطاره السياسي »احنا بتاع الاتوبيس« و»البريء« و»الكرنك« و»درب مولاي الشريف« كلّها أفلاما ذات بعد سياسي، بل معضمها منع لمدّة عند عرضه. فلنذهب إلى السينما التونسية لنبحث عن شريط يروي السجن أو المعتقل أول ما يتبادر إلى الذهن رواية »كريستال« لجلبير النقاش أو مسرحيّة »التحقيق« للمسرح الجديد لكنهما ليسا بأفلام فماذا تبقى! »الفجر« لعمار الخليفي يروي في جزء منه عن إعتقال أحد مناضلي الحركة الوطنية من طرف المستعمر الفرنسي، ثمّ »النفق« للثلاثي من السينمائيين الهواة (محمد عبد السلام، بلقاسم التهامي ورضا بن حليمة) يتحدث عن تأثير التعذيب على سجين سياسي، ثم »صفائح من ذهب« للنوري بوزيد الذي يتناول نفس الموضوع، ثم... ثم... لا شيء. أمام هذا الواقع، حقّ لنا أن نتساءل: هل أن هذه الافلام تتناول فعلا موضوع السجن، أم أن الإعتقال فيها ليس سوى وسيلة للتعبير عن إحتجاز حرية الفكر؟ أين الفرد الإجتماعي أو ما يسمى بالمواطن في كل هذه الافلام؟ هل إلى هذا الحدّ أصبح كل ماهو شخصي وعاطفي وعائلي لا يتجزأ عن العام والسياسي؟ قبل أيام، من المتأكد أن الجواب عن هذه الاسئلة كان في إتجاه تدعيم التساؤل، ولكن في إختتام »أيام الفلم الوثائقي« تمّ عرض شريط »12 لبناني في حالة غضب« للمخرجة اللبنانية »زينة«. يوثّق هذا الشريط لتجربة قامت بها المخرجة مع 45 سجين حقّ عام في لبنان تتمحور حول إخراج مسرحية داخل السجن يكون فيها السجناء ممثلين وجمهورا دامت التجربة 13 شهرا وكللت بعرض داخل السجن حضره آهالي المساجين ووزير الداخلية وبعض السفراء والضباط والمساجين. لم يصوّر الشريط المسرحية ولو أنّ إختيار نص العمل كان ذكيّا، إذ تناولت المخرجة (زينة هي في آن واحد مخرجة المسرحية والشريط) نص »12رجلا في حالة غضب« الذي يروي حكاية 12 شخصا كان عليهم النظر في جريمة قتل قام بها شاب ضدّ والده، تنطلق الرواية باقتناع 11 منهم بذنبه لتنتهي بعدم سماع الدعوى. المهمّ في الشريط ليست المسرحية بل العلاقات التي تطوّرت داخل المجموعة والتي مكّنت من إكتشاف الجانب الإنساني في عمق قتلة ومروّجي مخدرات ليس فقط من جانب المشاهد أو المخرجة، بل كذلك إكتشاف هؤلاء السجناء لجوانب مخفيّة من شخصيتهم وتحوّلهم من مهمّشين دون هدف في الحياة الى مبدعين ينظرون الى الحياة حتى من وراء القضبان، ببعض من الأمل. بعيدا عن السياسي الذي اضطررنا لمصاحبته دوما معنا، مكننا الشريط من الإقرار بحقنا في الخطأ دون أن يمثلّ هذا عائقا أبديا لعزلنا عن إنسانيتنا ومواطنتنا. هل شريط »12 لبنانيا في حالة غضب« يمثل نقطة تحوّل في تطرّق السينما العربية للسجن أم هو ليس سوى فاصل عرضي سنعود، بل سيجبرنا واقعنا للعودة بعده إلى ما عشنا عليه في العديد من فترات تاريخنا المعاصر: محضور... سياسة... محضور.... سياسة... محضور... سياسة.