سعيد: لا أحد فوق القانون والذين يدّعون بأنهم ضحايا لغياب الحرية هم من أشدّ أعدائها    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    يوميات المقاومة...تخوض اشتباكات ضارية بعد 200 يوم من الحرب ..المقاومة تواصل التصدي    أخبار الترجي الرياضي ...مخاوف من التحكيم وحذر من الانذارات    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    انتخابات جامعة كرة القدم .. قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    اعضاء لجنة الامن والدفاع يقررون اداء زيارة ميدانية الى منطقتي جبنيانة والعامرة من ولاية صفاقس    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    فاطمة المسدي: ''هناك مخطط ..وتجار يتمعشوا من الإتجار في أفارقة جنوب الصحراء''    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    قرار قضائي بتجميد أموال شركة بيكيه لهذا السبب    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    تحول جذري في حياة أثقل رجل في العالم    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    رئيس مولدية بوسالم ل"وات": سندافع عن لقبنا الافريقي رغم صعوبة المهمة    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من وحي تاريخ الحركة العمالية
ما ننفرد بنشره بقلم: مصطفى الفيلالي
نشر في الشعب يوم 13 - 01 - 2007

كل شيء كان صعبا، يوم ميلاد الاحاد العام التونسي للشغل، في 20 جانفي 1946، حتى العثور على قاعة اجتماع لانعقاد المؤتمر التأسيسي. وقد كتب على المؤسسين ان ترافقهم المصاعب، فيما تبقى من عمر الاستعمار الفرنسي، وان تمنحهم «مشاكل الاستقلال» في الفترة الاولى من انشاء الجمهورية، عند بناء مؤسساتها، ترميم اقتصادها واثبات حقوق الفئات الاجتماعية الضعيفة. كذلك تحف المتاعب بكل مهد لمولود كريم، تلقاه الحياة بضروب الامتحان، وتزرع طريقه بشتى العراقيل، فينشأ على الصبر والجلد، ويشب على التضحية، ويكتمل بالاعتماد على الذات ويظل على مدى النصف المنقضي من القرن العشرين، حاضرا في المجتمع، مشاركا في نحت التاريخ، مؤثرا في انشاء المستقبل. وسيظل الاتحاد العام التونسي للشغل، في فاتحة القرن الجديد، ملتزما بالمشاركة في المسؤوليات الوطنية، فيما تلقاه البلاد من تغييرات هيكلية، على صعيد البناء الاقتصادي، وصيانة المكاسب الاجتماعية والحفاظ على أولوية الدولة، وما يترتب عن ذلك كله بالقياس الى رعاية التوازن بين فئات المجتمع المدني وأجياله، والحفاظ، في عصر العولمة، على خصوصيات الانتماء الحضاري وحق الانسان في فسحة المستقبل.
1 الظروف المستعصية
لو إفترضنا ان أحوال المجتمع، اذا اشتد بها العسر والتعقيد، كانت مدعاة الى انبعاث تيار تصحيح، يتطوع له نفر مصلحون، يتوحد سعيهم في تنظيم مشترك، اذا يجوز القول، بمثل هذه المعقولية التاريخية، ان قيام الاتحاد جاء لينهض بوظائف «شاغرة» وليعين على تقويم انحرافات مستعصية كانت شاملة لمختلف ميادين الحياة الوطنية، نستعرض منها المظاهر التالية، بدءا بالحياة السياسية.
2 البيئة السياسية
كانت لتونس دولة قائمة، ولكنها كانت دولة «شبحا» بلا سيادة ولا نفوذ. ولم يكن الباي، أمير البلاد، بعد ابعاد المنصف، الامير الدستوري الثائر، أمير الا على قصره في شاطئ قرطاج، انفرط النفوذ من يديه ومن وزرائه، وانحصر بأيدي المقيم العام الفرنسي، وكاتب عام الحكومة والمديرين الفرنسيين للمصالح القطاعية. ولم يكن للشعب من وجود سياسي، سوى في هذا الهيكل الرمزي للسيادة، وبينهما برزخ عريض من القطيعة والصمم. وما كان له من حقوق سياسية يمارسها ولا من مجالس نيابية او بلدية منتخبة.
ولم يكن «المجلس الكبير» المتناصف في عدد الاعضاء بين ممثلين عن مائة وسبعين ألف فرنسي، ومثلهم ينوبون عن ثلاثة ملايين والربع من «رعايا سيدنا» لا يملك ان يغير من قرارات السلطة التنفيذية ولا ان يبرم أمرا من أمور الدولة. انما كان وجوده تبريرا لممارسات هذه السلطة وتزكية لقرارتها. وكانت توجد الى جانب السلطة المدنية بالعاصمة، سلطة عسكرية لقوات الاحتلال، تباشر صلاحيات الامن، وتحتكر النفوذ بجميع مظاهره الادارية والاقتصادية، في الشطر الجنوبي من البلاد، بما كان يعرف يومئذ، من قابس الى حدود ليبيا باسم التراب العسكري، شبه المستقل عن سلطة العاصمة. ومن وراء هذه الخريطة في تقاسم النفوذ الاجنبي، كانت للجالية الفرنسية، من معمرين واصحاب مصالح مالية، مرتكزات اخرى من السلطة لدى البرلمان في باريس ولدى قوى التأثير في الاحزاب السياسية الفرنسية والتجمعات الاقتصادية. وكانت تلك الجالية تملك ان تفرض ارادتها حتى على السلط الفرنسية بتونس، وفي احيان كثيرة على غير ما ترتضيه هذه السلط.
3 البيئة الاقتصادية
كانت هذه البيئة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، موصومة بالثنائية والبتر، فمن جهة أولى هناك قطاعات عصرية، ذات وسائل تقنية متطورة وامدادات مالية سخية كانت جميعها بأيدي الاجانب، ومن جهة ثانية نجد قطاعات «تقليدية» موصومة بالمجمود، وضعف الانتاجية، فاقدة للسند المالي، مثقلة بالديون، كانت بأيدي الاهليين. وكانت هذه الثنائية واضحة في الميدان الزراعي، اذ كانت الاطيان الخصبة بالجهات الممطرة المفتوحة على المسالك الرئيسية وعلى المواني والحواضر الكبرى ملكا للأجانب من معمرين ومن شركات عقارية رأسمالية، تستأثر بأكثر من نصف المحاصيل، وتستفيد من ثلثي اعتمادات التسليف الزراعي، وتحتكر الجانب الاوفر من تجارة المحاصيل الكبرى كالحبوب والزيوت والتمور والخمور، في معاملات رأسية مع دور التجارة «بالوطن الأم». وكان الاستهلاك الداخلي متوقفا في معظم المقادير وفي اهم المحاصيل على انتاج القطاع الاهلي، مما كان يجعله عرضة للاختلال والتفاوت الكبير، بسبب عوامل المناخ وقد توالت على البلاد اعوام الجفاف من 1944 الى 1946، وإنحط الانتاج الزراعي الى مقادير عاجزة عن اشباع الحاجيات الضرورية، فانتشرت المجاعة بالبلاد. واشتد وقعها بالارياف الغربية والوسطى، وتقاطرت قوافل النازحين من الجنوب الى المناطق الساحلية تفاقمت طوابير البطالة، وانتشرت حول المدن احياء اللاجئين الى صفائح القزدير. فاضطرت السلط الى توزيع الحبوب وخاصة الأرز، الذي لم يكن مألوفا في العادات الغذائية، فاقترن دخوله لأسواق الاستهلاك باشتداد المجاعة. ورفضت السلط الفرنسية دخول الباخرة المصرية «فوزية» للمواني التونسية لإفراغ شحنتها من الحبوب، وردت الى اصحابها اعانة الشعب المصري لأخوته في تونس.
كانت التبعية هي السمة الثانية الكبرى للاقتصاد التونسي، تبعية شاملة مغلقة، لا طمع في فك اغلالها، ولا اجل موعودا لرفع أوزارها. فقد كانت تونس تابعة لمنطقة الفرنك انتاجا للخيرات، واصدارا للعملة، واحتسابا لموازين التجارة. ولم يكن لتونس بنك مركزي يملك صلاحيات الاصدار والترويج والتقييم والمتابعة. وكان الفرنك الفرنسي الجزائري هو العملة المتداولة في سوق الصرف، المعتمدة في احتساب التجارة. وكان للبنك المركزي في باريس بالاضافة الى حق الاصدار، صلاحيات ضبط قيمة العملة، والتخفيض من هذه القيمة عند الاقتضاء. وقد حدث مثل هذا التخفيض في الاشهر الاولى من عمر الاستقلال، فبوغتت الحكومة التونسية دون تشاور ولا انذار بقرار أحادي، يقضي بتخفيض قيمة العملة بنسبة العُشر. فكان ذلك من العوامل الحاسمة التي عجّلت بخروج تونس من منطقة الفرنك وباصدارها للعملة الوطنية وانشاء الدينار.
كذلك كان الشأن بالنسبة للتبعية التجارية. اذ ظلت حصيلة التجارة الخارجية من العملات الاجنبية مندمجة في الصندوق العام للمنطقة المالية، ولم يكن بحسابات البنك المركزي في باريس رصيد متميز تستطيع السلط المالية التونسية توظيفه لتمويل شراءاتها من مناطق الدولار او الاسترليني او غيرها. وبمثل هذه التبعية كانت فرنسا تتحكم لا في أرصدة الميزان التجاري فحسب، بل وايضا في الامكانات المتاحة لميزان الدفوعات وآفاق التصنيع الوطني. وقد كانت التبعية في هذا الميدان ايضا محكمة الاغلاق، اذ كان استغلال مناجم الفسفاط والحديد والرصاص وترويج منتوجاتها بأيدي الرأسمال الاجنبي، الذي لم يكن يرى من ربح في تصنيعها محليا. فكان النشاط الصناعي، بسبب ذلك، معدوما اللهم الا في ميدان مواد البناء وتحويل بعض المحاصيل الزراعية من مطاحن للحبوب ومعاصر للزيتون والخمور. أضف الى ذلك انعدام موارد الطاقة، الذي كان يتخذ مبررا لعرقلة الصناعات التحويلية. وما كان الا مبررا سياسيا، اذ كشفت الحفريات البرية والبحرية، بعد الاستقلال، عن وجود مكامن للنفط والغاز الطبيعي، يتواصل الى اليوم استغلالها ولا تزال كافية لمتطلبات التصنيع ولإشباع حاجيات الاستهلاك المدني بالحواضر السكنية.
4 البيئة الاجتماعية
أ البطالة
كانت البطالة من أبرز سمات الاوضاع الاجتماعية، عند قيام الاتحاد العام التونسي للشغل. وكان يعني منها سبعة أعشار القوى العاملة الوطنية، دون العمال الاجانب من فرنسيين وطليان واسبان ومالطية. ونظرا لضيق النشاط الصناعي التحويلي، فقد كانت تنتسب الى الزراعة معظم القوى العاملة التونسية. اذ كان سكان الريف يبلغون 68 بالمائة من مجموع السكان (000.230.3). وكان معظم عملة الزراعة عرضة للتشغيل الموسمي بحقول الزيتون والكروم والتمور وفي سهول الزراعات الكبرى للحبوب. وكانوا عرضة للبطالة الغالبة في سنوات الجفاف المتوالية. اما القلة المشتغلون بصورة مستمرة بضيعات المعمرين وفي الشركات العقارية، فقد كانوا عرضة للاستغلال الفاحش في عد ساعات العمل وظروفه حتى بالنسبة للأطفال والنسوة، وعرضة للحيف في مبلغ الاجور وفقدان الضمانات الفردية والعائلية. من اجل هذا الحيف وذلك الاستغلال كان عمال الزراعة في طليعة القوى العاملة التي انضمت الى الاتحاد العام التونسي للشغل، وكانت اضراباتها عن العمل في مقدمة الحركات الاحتجاجية التي شنتها الحركة العمالية في العام الاول من وجودها سنة 1947، بالضيعات الكبرى مثل النفيضة والعلم وسيدي ثابت وسوق الخميس، ودفع العمال في هذه المواجهات ضريبة الدم، اذ استشهد عشرات من بينهم تحت رصاص الدرك الفرنسي، وجُرح وأعتقل المئات.
ظلت فرص التشغيل، في غير ميدان الزراعة، قليلة بالقياس الى تفاقم أفواج المرشحين للعمل، في مجتمع فتيّ، نصف اعداده من فئة الشباب. وكان قطاع المناجم يأتي، في أهمية الاستيعاب، بعد قطاع الزراعة، ويتقدم عليها في درجة الوعي الطبقي وفي قوة التلاحم بين العمال. ولعل ذلك من آثار الحركة النقابية الاولى التي أنشاها محمد على الحامي عام 1924 ومات من أجلها، اذ كان يخص قطاع المناجم بعناية فائقة في التوعية والتنظيم. وكان التشغيل موصوما بالقلة والحيف في المصالح الادارية. فلم يكن عدد اعوان الدولة عام 1946 يزيد على ثلاثة وعشرين ألفا، من بينهم سبعة عشر ألفا فرنسيا. يحتكرون مراتب النفوذ، تاركين للأهالي الوظائف الهامشية الدنيا، من حجاب وسواقين واعوان صيانة، يتقاضون منها أدنى الاجور، في حين كان زملاؤهم الفرنسيون يتمتعون بأعلى الرواتب، ويزيدون عليها ثلثا اضافيا كان يعرف باسم «الثلث الاستعماري»، يمتازون به بعنوان الجنسية. ومن غرائب ما كان يمتاز به نظام الاجور الفرنسي في تونس، ان المعلمين بالمدارس الابتدائية كانت تصرف لهم «منحة البُعد» اذا كانوا يشتغلون بالجنوب التونسي. كما كانوا لا يتورعون عن التمتع بما كان يُعرف بالوثائق الرسمية باسم «منحة القمل» اذا كانوا يباشرون التعليم بالمدارس «الفرنكو عربية» الخاصة بأبناء «الاهالي».
ولنضرب مثلا على ملامح التشغيل الاداري عام الاستقلال، عندما تسلمت السلط التونسية الادارة العامة للزراعة مثلا. فقد كان بها نحو مائتي موظف بالمصالح المركزية، لم يكن من بينهم مهندس تونسي واحد، ولا مدير مصلحة فنية. اذ كانت جميع الوظائف الاساسية بأيدي الفرنسيين. وأكبر ما كان يرقى اليه التونسي هي خطة مترجم، الى جانب الوظائف الاهلية من حجابة وحراسة وسياقة وصيانة. وكان غياب التونسيين من الوظائف الفنية والهندسية نتيجة سياسة مبيتة، اتضحت يومذاك في انتاج «المدرسة الاستعمارية للزراعة». اذ كانت أخرجت ثلاثة عشر مهندسا تونسيا، ونحو الف وخمسمائة مهندس فرنسي في خمسين عاما. فاسندت الى هؤلاء الضيعات الدولية الخصبة والمراتب الادارية المرموقة، في حين ظل المتخرجون التونسيون يبحثون عن الشغل في مراتب هامشية ومصالح لا صلة لها بالزراعة مثل الكتابة بمراكز الشرطة.
ب التعليم
بلغ مجموع المزاولين للتعليم من ابناء التونسيين مائة وسبعين ألفا، بمختلف المراتب، في عام كان عدد المرشحين للتعليم قريبا من المليون. وما كان عدد الثانويات للتعليمين العام والغنّي يفوق العشرة، متمركزة بالحواضر الكبرى من الشريط الساحلي، دون سائر الجهات. ولم يكن بتونس جامعة التعليم العالي. فكان الطلاب مجبورين على الالتحاق بجامعات فرنسا أو الجزائر العاصمة. بالاضافة الى هذا العجز البنيوي كان التعليم موصوما بالسعي الى اهداف سياسية ترمي الى طمس الذاتية الوطنية والى فك الترابط الثقافي بين تونس وبين المشرق العربي الاسلامي. يتمثل ذلك السعي في تطفيف خط اللغة العربية في برامج التعليم وفي الادارة والحياة العامة لصالح اللغة الفرنسية، وفي محاولة مسخ التعليم الديني بالتقليل من نصيبه في حصص الدروس، وتهميش التعليم الزيتوني، واحياء ممارسات الشعوذة وتعبّد الاولياء، من تشجيع حركات التنصير في القرى والمناطق الجبلية. وما كان يكتب للتعليم التونسي ان ينجو من هذا الطمس الحضاري الا في رحاب جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية التي أنشأها الوزير المصلح خير الدين عام 1875.
لم يكن من مقاصد التعليم العمومي الاعداد للحياة المهنية، لا في العدد ولا في المواصفات، اللهم الا فيما يخص تخريج طابور المترجمين، ممن كانت تحتاجهم الادارة الفرنسية ومصالح العدالة للتعامل مع الاهالي. اما سائر مناهج التعليم الزيتوني والمدرسي، فلم تكن تنفذ بمتخرجيها الى اسواق الشغل، فتيسر لهم الحصول على مورد رزق، على ما كانت تتصف به هذه الاسواق من ضيق في قدرة الاستيعاب ومن ضعف التنوع للفرص المتاحة. من اجل ذلك المأزق ظل طلبة الزيتونة ينادون بتعصير المناهج وبإدخال مواد «عصرية» تضمن لشهاداتهم التأهيل الى الالتحاق بالوظائف الادارية والمهن الحرة. اذ لم يكن التعليم «التقليدي» يؤهلهم سوى لخطط الاشهاد او التدريس لمواد التربية الدينية بالمدارس، بما كان لهذه الخطط من محدودية الاستيعاب.
لذلك كانت أوضاع التعليم في أزمة متعددة الجوانب، غداة الحرب العالمية الثانية: أزمة استيعاب وعجز عن توفير المقاعد المدرسية لمن يبلغون سن التعليم، وأزمة برامج بما للعربية فيها من تهميش مقصود، لتغليب اللغة الفرنسية وتوهين مقومات الذاتية، وأزمة مناهج بما كان ينقسم اليه التعليم من تقليدي وعصري، ثم أزمة مقاصد، بما كان للأهداف السياسية الاستعمارية من أولوية على المقاصد التربوية الحضارية، وأخيرا أزمة وظيفية، بما كان للتعليم العمومي من ضعف العناية بتأهيل المتخرجين للحصول على مورد رزق في سوق الشغل. هذا بالاضافة الى ما تركت عليه معظم الارياف في جنوب البلاد وغربها ووسطها من اهمال تربوي كان يتمثل في قلة عدد المدارس الابتدائية بالقرى والمداشر. ولولا وجود الكتاتيب القرآنية في هذه التجمعات السكانية لكانت الأمية متفشية في الصغار الى جانب سيطرتها على الكهول بمعظم البلاد.
وقد قامت الجامعة العمومية للتعليم، في نطاق جامعة الوظيفة العمومية، داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، بدراسة أوضاع التعليم وبحث الحلول الواجبة لتلافي اختلالاتها، وعرض المقترحات العملية لبناء سياسة تربوية شاملة، فتكون من تلك الدراسة ملف فني جاهز اعتمده الوفد التونسي لمفاوضات الاستقلال مع السلط الفرنسية عام 1955. ثم كان لأعضاء تلك الجامعة الاتحادية، غداة الاستقلال، دور بارز في وضع الخطة العامة لإصلاح التعليم عام 1958. وكان على رأس وزارة التربية المرحوم الامين الشابي، امين عام جامعة التعليم، ثم خلفه الاستاذ محمود المسعدي على رأس الوزارة، فتولى تنفيذ تلك الخطة.
ج الصحة
لم تكن الاحوال الصحية احسن مما كانت عليه شؤون التعليم، اذ كانت تتصف بالقلة في عدد المؤسسات الاستشفائية وما بها من فرش ومن يقوم عليها من اطباء وممرضين. فقد كان يتوفر سرير واحد لكل الف ساكن وطبيب واحد لعشرة الاف، وصيدلي واحد لثلاثين الفا، مع نقص فادح في التجهيزات العلاجية وتطفيف مجحف في الاعتمادات وخلل كبير في التوزيع الجغرافي. اذ كانت تلك المعدلات العامة تنحدر في جهات الوسط والشمال والغرب الى طبيب واحد لأكثر من خمسين الف ساكن، وسرير واحد لثلاثين الفا وصيدلي واحد لكل مائة الف. ولم يكن النظام الصحي يتوجد على مؤسسات مختصة في طب الاطفال او في طب القلب والشرايين أو طب الاعصاب. فكان علاج تلك الامراض داخلا في وحدات الطب العام بالنسبة لعامة المواطنين، او يتطلب السفر الى فرنسا بالنسبة للأجانب وللقلة الموسرة من المواطنين.
وتشهد على فساد الاوضاع الصحية نسبة توزيع الماء الصالح للشراب، اذ كانت الاستفادة من الشبكة مقصورة على الحواضر الكبرى بنسبة 15 من جملة السكان. كما يتضح ذلك الفساد من جانب نظام الصرف للمياه المستعملة، اذ كانت البلديات في خدمة السكن الرفيع بالمدن الكبرى، ولم يكن من عجب في هاته الاوضاع، اذ كانت البلديات في قبضة السكان الفرنسيين، لا تشمل مجالسها الا نفرا قليلا من اهل الولاء والاخلاص من التونسيين.
5 البيئة النقابية وإنشاء الاتحاد العام التونسي للشغل
كانت «بالايالة التونسية» عند انشاء الاتحاد العام التونسي للشغل، حركة عمالية يسارية تتفرع عن الحركات الام بفرنسا والموالية للحزب الاشتراكي الفرنسي، والى جانبها حركة عمالية نصرانية تأتمر بأوامر الاحزاب اليمينية المتطرفة. وكانت الحركة اليسارية تأخذ بالمقولة الاشتراكية في حرب الطبقات وفي وحدة القضايا العمالية من وراء الفوارق الجغرافية وتباين الخصوصيات الثقافية. وترى ان للحركات العمالية في العالم الاشتراكي كفاحا واحدا على جبهة واحدة، يتوقف الانتصار فيها على انتصار البروليتارية على الرأسمالية. من اجل ذلك كان قادة الحركة العمالية الاشتراكية يرفضون كل نزعة قومية في الكفاح العمالي، ويعتبرونها تنكرا للأهداف وتوهينا للقوة النضالية وتفريقا للصفوف. وقد لاقت النزعة الوطنية التي امتاز بها الاتحاد العام التونسي للشغل من فجر تكوينه، معارضة شديدة من جانب زعماء الاشتراكية الفرنسية امثال (ليون جوهر)، الذي اعلن عن رفضه لقيام حركة عمالية على اساس الخصوصية الوطنية. وكان حزبه يومئذ يؤيد مشروع الوحدة الفرنسية الاندماجية التي كان ينادي بها القائد «ديغول»، ولم يصدر عن هذا الحزب استنكار علني لخلع أمير البلاد المنصف باي من قبل السلط العسكرية الفرنسية، ولا لإبعاد زعماء الحزب الحر الدستوري، ولا للقمع المسلط على الاهالي التونسيين. كل ذلك كان محمولا في الحساب العام لحرب الطبقات، ولا حل لمشاكل المجتمع التونسي، عند أولئك الاشتراكيين، الا من خلال المعركة الكبرى بين البروليتارية والرأسمالية العالمية. يومئذ يتم النصر للمظلومين وللمستعمرين بمشارق الارض ومغاربها، وينتصب العدل وينتشر الرخاء. وكان المطلوب من العمال التونسيين، في انتظار ذلك اليوم الموعود، ان يخوضوا معركة غير معركتهم، وان يندمجوا في صفوف مدسوسة بأقوام لا يأمنون غدرهم، وان تندمج حقوقهم وحقوق مواطينهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جدلية كونية، الله وحده يعلم متى وكيف يكون فيها النصر، ولمن تذهب ثمرات هذا النصر، وبأي مضمون وطني يكون؟
تغلب الحس الوطني على أوهام تلك الرؤى الكونية، وطغت مقتضيات الانتساب الحضاري، وخرجت الحمية العصبية من دفاتر ابن خلدون، فصحّ العزم وانعقد التوكل، واختار ثلة من شباب تونس المغامرة بالاعتزال، فأنشأوا منظمة تونسية عربية مستقلة، كانت نتيجة للاندماج بين ثلاثة تنظيمات جهوية وقطاعية قائمة، هي النقابات الحرة بالجنوب، وأختها بالشمال والجامعة العامة للموظفين. وقد ولد الاتحاد العام التونسي للشغل بمقر الجمعية الخلدونية، على بضعة امتار من الباب الغربي لجامع الزيتونة العريق، واشرف على اشغال المؤتمر التأسيسي، ثم اضطلع برئاسة المنظمة، عالم من كبار علماء الزيتونة الافذاذ هو الشيخ الفاضل بن عاشور، نجل الامام الطاهر بن عاشور، رئيس الجامعة الزيتونية والرائد المرموق من رواد اصلاح مناهجها. قد لا نرى سوى مصادفة تاريخية في هذه العلاقة بين مولد حركة عمالية جماهيرية، ستضطلع بتغيير الاوضاع السائدة وتشارك في استنفار المجتمع لمعركة التعصير والحداثة، وستأخذ على نفسها نصرة المستضعفين وتجنيد الفئات المظلومة، وبين المعقل الحصين للذاتية الاسلامية العربية بتونس، والركن المتين للموروث المصان من القيم والاصول الحضارية. وما كان في الحسبان المتوقع لصروف الايام ان يتم في ذلك اليوم البارد من شتاء 1946 وبالقاعة الضيقة من مكتبة الخلدونية اللقاء الطريف والتعاون الحميم بين الفاضل بن عاشور، عالم الشريعة وشيخ التدريس لأصول الدين، سليل عائلة محافظة، عريقة الجذور في العلم والمهام الدينية، وبين فرحات حشاد، العامل النكرة بشركة مواصلات في صفاقس، أصيل عائلة صيادين مغمورة في جزيرة قرقنة، لم يزد في تعليمه على مستوى الشهادة الابتدائية.
جاد التاريخ بتلك المصادفة وحصل هذا اللقاء فإنعقدت الصلة بين المنظمة العمالية الناشئة وبين الجامعة العلمية العريقة، تحمل بشائر الخير القرن المنقضي من حياة الاتحاد ان تلك البشائر كانت صادقة، وان الاتحاد لم يبرح الساحة الوطنية، مشاركا في مختلف مراحل الحياة العامة، حاضرا في جبهات النضال الوطني في المستوى المناسب وفي الظرف المواتي الذي تبرم فيه القرارات الحاسمة لشؤون المجتمع والدولة. وانه لم يتوقف عن تبليغ صوت العمال وعن حصد المنافع لفئات المستضعفين. فطبعت السياسة العامة للدولة ومخططات التنمية في مراحلها كلها بالطابع الاجتماعي الضامن لحقوق العمال، وحفلت المجالات القانونية بالنصوص المرجعية الضامنة لشرعية هذه الحقوق.
كما يشهد تاريخ الاتحاد ان نضاله لم يقتصر يوما على المفهوم الطبقي للحقوق الاجتماعية ولا عمد الى فصلها عن عامة حقوق المواطنة، وكان موقفه ذلك اتعاظا بفشل تجربة محمد علي الحامي عام 1924، وايمانا بما بين الحقوق كلها من تلازم متين، فلا وجود لحقوق اجتماعية مهنية دون حقوق سياسية.
شارك الاتحاد العام التونسي للشغل في مختلف معارك الشعب ضد الاستعمار وضد الحيف الوتخلف. وحفت به ضروب متعددة من المخاطر، وعصفت به ازمات كثيرة داخلية وخارجية. فصمد في وجه هذه المحن جميعها ولم ينخذل. ولعل هذا الفوز راجع، من وراء منشئه الكريم بجوار جامع الزيتونة المعمور، ومن اخلاص الرجال وصلابة عودهم وبفضل دماء المستشهدين الى ثلاثة عوامل اساسية.
أولها ان الحركة العمالية الجديدة أقيمت على التلاحم الاندماجي المتين بين الجناحين الكبيرين من قوي الاصلاح، الجناح السياسي والجناح الاجتماعي، وان قوى النضال مزجت بين الطرفين ولم تفصل بينهما، ولم تقدم في الاعتبار ولا في الاولوية المضمون الاقتصادي والاجتماعي على المضمون السياسي، ولا هذا على ذاك.
في المقام الثاني تألفت من القوتين السياسية الدستورية والاجتماعية العمالية جبهة واحدة متماسكة للنضال الوطني. فلم يظفر الاستعمار الفرنسي بثغرة ينفذ منها الى توهينهما معا. مثلما تمكن من ذلك عام 1924، فأجهض المشروع العمالي التعاوني لمحمد علي الحامي، بتأييد من الحزب الدستوري القديم، ثم انثنى على الحزب السياسي، بعد ان افرده في ساحات النضال وأفقده سند القوى العمالية.
العامل الثالث ان الحركة العمالية وفرت للنضال الوطني عاملين اثنين من عوامل الصمود والفوز، تمثل الاول في القوى الداخلية المنتظمة في التشكيلات النقابية وفي الشعب الدستورية، تعددت بسببها ميادين المصادمة مع الاستعمار، في الشارع وداخل مؤسسات الانتاج الاقتصادي، بالمظاهرات تارة، وبالاضرابات النقابية تارة اخرى، وتعددت فرص المؤازرة بين المطالب السياسية الدستورية وبين المطالب الاجتماعية النقابية، ودخلت المجابهة الى معاقل الانتاج الاقتصادي. فباتت تهدد المصالح النفعية المالية التي يتأسس عليها الحضور الاستعماري بالبلاد. ثم وفر الاتحاد للنضال الوطني منابر عالمية للتشهير بالاستعمار وفضح ظلمه وارهابه، واحصاء الحقوق الانسانية المهضومة والحريات المكبوتة، ولتجنيد الانصار للقضية الوطنية. فكان انضمام الاتحاد العام التونسي للشغل الى الجامعة الاشتراكية العالمية للنقابات من أولى مبادرات القيادة النقابية، ترشح لها الاتحاد بعد ستة اشهر فقط من انبعاثه. ثم تبين للقيادة النقابية احجام هذه الجامعة عن مساندة القضية الوطنية وتمسكها بنظرية المعركة العالمية بين البروليتاريا ورأس المال، فقررت الانسحاب منها، والسعي عام 1950 للالتحاق بالكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة في بروكسال.
اثار هذا القرار جدلا ايويولوجيا كبيرا بين المسؤولين النقابيين وبين عدد من المناضلين الدستوريين. ذهبوا في تأويله مذاهب بعيدة، حول ما اعتبره بعضهم تنكرا من جانب الاتحاد للمفاهيم الاشتراكية التي لا تنفصل عن مبادئ الحركات العمالية، وعدّوه انحيازا للصف الغربي المؤيد للاستعمار السياسي والمنتصر لمبادئ الليبرالية الاقتصادية، التي تدين بها الشركات الرأسمالية. هدأ ذلك الجدل بعد مدة وجيزة، ولم يكن له من اثر على تضامن الجبهة الوطنية. وقد دلت الحركة النقابية التونسية بمسارها وتطوراتها، بعد انضمامها الى كنفدرالية بروكسل انها بقيت على نهجها وفية لمقصدها الاساسي، مقصد التحرير الشامل، تحرير الوطن من هيمنة الحكم الاجنبي ومن ابتزاز الموارد الاقتصادية، وتحرير الانسان من الحرمان والكبت ومن الحيف الطبقي، ومن البطالة والجهل والعوز الاجتماعي. كما دلت فترة النضال التحريري ان هذا النضال قد حظي بالتأييد من جانب القيادات العمالية في البلاد الغربية، بما لها من تأثير على المجالس النيابية والحكومات بأوطانها، وما تتمتع به من اشعاع في المنظمات الدولية، مثل منظمة العمل الدولية في جنيف، وما لمواقفها من صدى عريض لدى وسائل الاعلام العالمية. وقد كسب النضال الوطني التونسي من هذا التأييد رفع كابوس التعتيم الذي كانت تضربه السلط الفرنسية حول معارك التحرير، وكسب بالخصوص تفنيد المقولة الرسمية الفرنسية في المحافل الدولية بأن القضية التونسية شأن داخلي للسيادة الفرنسية، وان المواثيق الدولية تمنع من التدخل في مثل هذه القضايا الداخلية.
6 اثبات الوجود
كان الانضمام الى المنظمة النقابية العالمية في بروكسال العامل الاول البارز الذي أثبت وجود الاتحاد على الساحة العالمية، وجعل منه طرفا واجب الاعتبار في التعامل مع القضية التونسية. وقد كان لهذا الوجود صداه الكبير عند حدوث أزمات مع السلط الفرنسية في الميدان السياسي او في الحقل الاجتماعي. واتضح ذلك الصدى بصورة فعالة عند اغتيال فرحات حشاد أواخر 1952. وكان الوجود الخارجي امتدادا للحضور الفعال داخل البلاد في ساحات النضال الوطني وفي واجهات مشاغبة النفوذ الاستعماري. وكان الاستقلال عن الحركات العمالية الاجنبية في فروعها وداخل البلاد المظهر المؤسساتي لإثبات الذات على أساس خصوصية الاهداف واستقلال النهج. بذلك اصبح الاتحاد الطرف الاقوى المرشح للتفاوض مع النفوذ السياسي ومع القوى الاقتصادية. وكان من الطبيعي ان يقابل بالرفض من الجانبين مثل ذلك الاحتكار للنضال الاجتماعي، فتتجاهل السلط الادارية نواب الاتحاد وترفض التعامل معهم. فكان من أجوبة الاتحاد على هذا التحدي والاغفال، ان عمدت الجموع العمالية الى احتلال بعض الادارات الكبرى مثل الكتابة العامة للحكومة وادارة الاشغال العامة والاعتصام بها وتعطيل العمل الاداري، فلم يجد المسؤولون الاداريون بدا من قبول الممثلين النقابيين ومن الاستماع لهم. وحدث مثل ذلك التحدي مع المقيم العام، أعلى سلطة في البلاد، الذي رضخ بدوره ورضي بمقابلة القيادة النقابية.
كانت الاضطرابات العمالية المتكررة، والحاصلة في الميدان الاقطاعي الزراعي داخل أطيان المعمرين والشركات العقارية الكبرى السلاح الفعال الذي لجأ اليه الاتحاد عام 1947 لإثبات وزنه لدى القوى الاقتصادية الفرنسية، وحدثت من جراء ذلك موجة عنيفة من القمع أسفرت عن عشرات القتلى ومئات الجرحى والمعتقلين. وتوالت الاضرابات كذلك في قطاع المناجم والرصيف والمواصلات، ذهب ضحيتها عشرات القتلى. تفاقمت هذه الاضرابات وعمت معظم ميادين النشاط، وأوشكت ان تصيب بالشلل القطاعات الحساسة. فلم تر السلط الاستعمارية بدا من الاقدام على اتخاذ قرار بحل المنظمة النقابية.
وعرضت على الباي مشروع أمر يقضي بذلك الحل. وتبرز في هذه المناسبة ايضا مكانة الاتحاد على الساحة السياسية الداخلية. اذ توصل قادة الاتحاد الى مقابلة الامين باي، وكسر الحصار المضروب حوله، واقناع بعدم التوقيع على الامر المعروض. فتأيدت بذلك شرعية المنظمة النقابية لدى السلط التونسية، واستعاد الباي بفضل ذلك قدرا من الاعتبار لدى الرأي العام التونسي. فكانت صفقة مربحة للطرفين.
أثبت الاتحاد وجوده كذلك وبصورة جذرية في التحام النضال النقابي بالنضال الحزبي، وبإحكام التعاون والتشاور بينه وبين الحزب الحر الدستوري، وقد كان قادة الحزب بالمنافي، موزعين بين القاهرة وباريس ونيويورك، فاضطلع قادة الاتحاد بالمسؤوليات الحزبية، الى جانب من تبقى داخل البلاد في اقامة سرية. وشارك العمال في الكفاح المسلح، واستشهد على جبهة النضال الوطني الزعيم النقابي فرحات حشاد وهو احد اعضاء الديوان السياسي للحزب، وعمدت سلطة الاحتلال الى القبض على اعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد، غداة الاغتيال، فأبعدتهم الى المنفى في الصحراء بالجنوب.
دخلت تونس مرحلة المفاوضات مع الحكومة الفرنسية لتحقيق الاستقلال. فكان الاتحاد حاضرا، الى جانب الحزب الحر الدستوري، في الاعداد لهذه المفاوضات وتوجيهها الوجهة التحريرية الشاملة لمختلف مقومات السيادة، وبالخصوص في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. بذلك لم يكن الاستقلال السياسي هو الثمرة الوحيدة لتلك المفاوضات ولما سبقها ومهد لها من نضال شعبي. بل كان منطلقا لتوجيه النظام الجديد وجهة تحررية اجتماعية. فكانت ثمرتها الاولى اجراء الانتخابات لانشاء مجلس تأسيسي، كان للنقابيين نصيبهم الوافر بين اعضائه ودورهم المؤثر لتوجيه الدستور الوجهة الديمقراطية المستندة الى مراجع الذاتية العربية الاسلامية والضامنة للحريات والحقوق المدنية. ثم شارك اعضاء الاتحاد، بعدد مهم من الوزراء في الحكومة الاولى عام 1956، فاضطلعوا مع سائر القوى التقدمية بمسؤولية توجيه السياسة العامة وجهة ديمقراطية، وشاركوا في اقامة النظام الجمهوري وفي استصدار القوانين الاساسية الكبرى مثل مجلة التشريع العمالي، وقانون الملكية الزراعية، والقانون الاساسي للعملة الفلاحيين، وقانون الوظيفة العمومية وخطة اصلاح التعليم العمومي، كما كان لهم دورهم في اتخاذ القرارات الحاسمة مثل الخروج من منطقة الفرنك وانشاء البنك المركزي والمصارف البنكية المختصة، وانشاء مؤسسات التأمين والنقل والمواصلات، وبعث الجامعة التونسية ومدارس المهندسين ومراكز البحث العلمي.
يعسر تعداد المكاسب الكبرى من هذا الحصاد الطيب الذي شارك الاتحاد العام التونسي للشغل في زرع بذوره وجني حصاده. وهو جهد لا يزال متواصلا، ولا تزال ثماره مرجوة. وقد يحسن، مع ذلك، التأكيد على البعض من الثمرات الحاصلة، نذكر في مقدمتها ترسيخ مفهوم المجتمع المدني في الفكر العام وفي نفسية المواطن. فقد عاش المجتمع فترة طويلة من التاريخ على الاخذ بمفهوم مجتمع الرعية في ولاء غير مشروط للعائلة الحسينية من البايات. وقد شهدت كتب التاريخ من ابن خلدون الى ابن أبي الضياف، على كان يفضي اليه مفهوم الاسترعاء ومبدأ الطاعة غير المشروطة لأولي الامر، من استكانة في الانفس ومن نفاق في السلوك ومن تعفن العلاقة بين المجتمع والدولة، ومن يؤول اليه بطش الحكام واستقالة النخبة واستسلام الرعية من خراب الاقتصاد ومن تصدع الكيان الاجتماعي وارتهان مستقبل البلاد.
لا نقول بأن الشعب التونسي اضحى، غادة الاستقلال متمتعا بجميع الحقوق، ممارسا لكل الحريات، حريصا على الفوز بهذه الممارسة متصديا لكل استنقاص من تلك الحقوق. لا يكون ذلك قولا صحيحا من الوجهة التاريخية الذي لا يزال في المعاصرين نفر كثير من الشاهدين بعكسها. لكن الذي يمكن الجزم به ان عقلية الانسان التونسي قد نزعت عنها جلباب الاستقالة، الحجب التي كانت تمنعه من التبصر بحقوقه وواجباته، وخلع رداء استكانة كانت تقعده عن الاضطلاع بمسؤولية التكليف الوطني. غدا التونسي على مشارف ما يمكن ان نسميه «الترشيد المدني» ذلك من اطيب ثمرات الكفاح الوطني. وما كانت هذه الثمرة ليكتمل نضجها لو لم يكن لهذا الكفاح مضمون اجتماعي أضافته الى النضال السياسي حركة عمالية بزخمها الجماهيري، وبطعمها الاشتراكي، ومع ذلك لم يكن الفضل لها وحدها دون الحزب الحر الدستوري وسائر المنظمات الوطنية، ولا يمكن اغفال ان تغيير منزلة المرأة ورفع وصمة السفاهة والقصور عن هذه المنزلة هي من ابرز ايات ذلك الترشيد المدني ومن أبلغ التغييرات الاجتماعية عمقا وأبقاها أثرا.
نلمح الى ثمرة اخرى من ثمرات النضال السياسي الاجتماعي، تخص الاتجاه الى العقلانية، وتفضيل التأويل العقلاني لشؤون الحياة، على ما كان متأصلا من التعلق بالخوارق والاوهام ومن الهروب الى الوجدانيات. ومن ايات ذلك، تطور التدين عند العامة، تطورا تمثل في نبذ الشعوذة وتقليل الالتجاء الى الاولياء، والاقبال على اتخاذ الاسباب؛ كان لهذا التطور الموضوعي من التدين انعكاسه على موقف الانسان من الحياة العامة وشؤون الاقتصاد، وعلى ادراكه لضرورة التكسب ونبذ القعود والاتكال. كسب الانسان من ذلك الترشيد المدني ومن هذا التصميم العقلاني اداراكا أسلم لحقوقه وواجباته، ولما بينهما من التلازم، كنا ادركت الحركة العمالية التونسية ان عليها واجبات جديدة لا تنحصر في الدفاع عن حقوق الاجراء المادية والمدنية دون الربط بينها وبين حقوق الشريحة العريضة من العاطلين، وان البطالة ليست وبالا على العاطلين وحدهم، بل يشمل ضررها سائر فئات المجتمع، ويخل بالتوازن الاجتماعي المؤسس على التضامن، وان عوز العاطلين ينعكس على تقلص الاستهلاك الداخلي ويفضي الى انكماش نشاط المؤسسات والى كساد السوق. وتطور مضمون الحقوق بتطور مفهوم الحاجيات الاساسية للانسان، فأدركت الحركة العمالية ان حقوق الاجير، هي حقوق مواطنة، لا تكون مكفولة له بمجرد الرفع في قيمة الاجر كمؤشر للقيمة الشرائية ولا في توسيع سلة المنح الاجتماعية، ولا في تقنين حصة العمل وفسحة العطل، بل يقوم اشباع حقوق المواطنة على جوانب اعتبارية هامة تفتح في وجه الانسان امكانيات الحضور في الحياة العامة والاسهام في تكييف شؤون الحاضر ونحت سمات المستقبل. كما ادركت القيادات العمالية ان العمل واجب بقدر ما هو حق، واجب السعي من جانب المواطن أولا، وواجب التيسير والتحقيق من جانب الدولة. وان الوفاء بهذا الواجب قضية كلية متعددة الجوانب، وان لها كلفة اقتصادية، تتوقف على كفاءة الاستجابة من جانب الاقتصاد لواجب التشغيل، وان كلفتها حينئذ محمولة على المجتمع بجميع فئاته، كما ان لها كلفة سياسية تتمثل في التعويل على الاسواق الخارجية للتشغيل وللاستثمار، وما يقتضي ذلك من علاقات سياسية ومن قدرة تفاوضية.
اصبحت الحركات العمالية مدعوة ان تأخذ في الاعتبار التحولات الجذرية الحاصلة في العالم، تحولات في منطق الاقتصاد ونرعته الى التوحيد النظري والتسليم بمبادئ الوثنية الليبرالية والايمان بالاه السوق، معبودا واحدا لا شريك له. وتحولات في وسائل الانتاج وطغيان الكشوفات الفنية على الجهد الفردي، وطغيان دور الآلة على دور الانسان داخل المؤسسة، وتحولات في اختلال التوازن بين المال والعمل في تحقيق الانتاج، وتناقص حجم العمل مع الزيادة في الانتاج، وتحولات في قيمة المال وفك الارتباط بين الربح وبين المبادرة والسعي الفردي في انشاء المؤسسات، وتحول المال في اكبر مقايديره الى المضاربات على الملة في اسواق الصرف بدلا من الاستثمار في ورشات انتاج السلع والخيرات، نتيجة لأولوية الربح العاجل في الزمن القريب على الجدوى المرتقبة في الاجل الوسيط او البعيد.
هذه من امثلة التحول الجذرية في زمن العولمة ووثنية السوق. تقتضي من القيادات النقابية الاجتهاد في ادراكها والاحاطة بجوانبها المتعددة، وتقتضي بالخصوص حسن الاستعداد لمجابهة تحدياتها، انطلاقا من التسليم بالترابط الموضوعي المتين بين اقتصاديات العالم، ترابطا يزيد في تعميق التبيعية بالنسبة لاقتصاديات الدول الناشئة، تبعية تجعل هذه الاقتصاديات عرضة للأخذ قسرا بالتحولات الكبرى وغرضا لتأثير الرجات الكبرى، مثل التي حدثت اخيرا ببلدان اسيا الشرقية، فحطمت في ايام معدودات ثمار جيل كامل من المثابرة والتضحية والجهد الذكي.
7 التحديات المستقبلية
تبدلت المفاهيم المهيمنة على النشاط الانساني في ظل اقتصاد السوق، وتحول عن مجراه المألوف نشاط الحركات النقابية في مفاوضتها مع رأس المال، مفاوضة ظلت مبنية على تضارب المصالح وتصادم العقليات، وتأسيس العلاقات المهنية «داخل المؤسسة» على تفاوت الدرجات بين القلة المسيّرة من ذوي القمصان البيض وبين الكثرة المسخرة للتنفيذ والطاعة من اصحاب البدلات الزرقاء. والواقع ان اجتماعية العمل اصبحت اليوم غرضا لتحولات جذرية، حمل العديدين من الكتاب المنظرين على القول «بنهاية العمل» في اجل مقدر، وبالتالي القول بقرب الاستغناء عن الحركات العمالية، وفقا للمقولة المشهورة «تنتهي المعركة بفناء المتخاصمين» ولئن كانت بعض هذه المآلات لا تزال بعيدة عن الواقع الاجتماعي القائم في كثير من البلاد الناشئة، فان بوادرها تلوح في الافق، وان خط التطور متجه الى مصيرها. مما يجعل الاحتياط له واجبا متأكدا، طالما يسود الاعتقاد اليوم ان الاندماج في اقتصاد السوق، شر لا مفر منه، ومصير ضره اكبر من نفعه، وان خط التطور الاجتماعي في بيئة هذا الاقتصاد، كالنهر المعربد، الناجي من السابحين فيه قليل.
لذلك فان اكبر التحديات بالنسبة الى الاتحاد العام التونسي للشغل هو الثبات في الساحة الوطنية والنجاة من التهميش والعجز. وأولى خطوات السعي في هذا القصد تقتضي تجديد المفاهيم وادراك التحولات والاحتياط لتأثيراتها في فسحة من الاستشراف المتستقبلي. فانه لا جدال اليوم فيما الت اليه امور الاقتصاد من ترابط وثيق بين القطاعات يؤثر بعضها في بعض، ومن تماسك جغرافي بين مناطق السوق في العالم، من فوق رأس السيادات القطرية، ومن احتكار القطرية، ومن احتكار الاقطاب المالية الضخمة لقرارات الاستثمار، ولنفاق سوق المعاملات او كسادها، بالنسبة الى الموارد الاساسية كالنفط. وقد غدت اوضاعنا الاقتصادية وثيقة الصلة بدوائر واسعة تتمثل اليوم في الفضاء الاقتصادي الاوروبي، المرتبط هو الاخر بفضاء الاقتصاديات الامريكية والاسيوية. وباتت احتياجاتنا من الاستثمار لتمويل التنمية متوقفة على التوجهات الربحية وجغرافية الجدوى المالية، المهيمنة على اختيارات التوظيف لتمويل المشاريع. واصبحت بلادنا مرسمة في جدولية عالمية للمناطق التي يحيق بالاستثمار فيها قدر محتمل من المخاطرة، الى جانب مناطق اخرى تتفاقم فيها سلبيات المخاطرة، فتحجم الرساميل عن ارتيادها. ولا حاجة للتذكير بأن انشاء المؤسسات الاقتصادية وتوظيف القوى العاملة فيها، هو من النتائج المباشرة لتوظيف الاستثمارات المعوّل عليها، وان ذلك يخرج جزئيا وكليا عن القرار السياسي، وعن الارادات المنفردة، المتعازلة.
8 قابلية استيعاب العمالة
تدل الكثير من المؤشرات على ان التطور المنتظر لقابلية الاقتصاديات الكبرى لاستيعاب الطلب المتزايد من العمل هو في تراجع مستمر. يعزى هذا الانكماش الى عوامل عديدة، اهمها التطور التكنولوجي المتسارع، الذي يجعل المؤسسة تحصل على منتوج أوفر بعمالة أنقص، أضحت تتقلص بمعدل 2 كل عام، مع تزايد في الانتاج بنسبة اكبر، قد تصل الى 3. كما يكون ذلك الانكماش راجعا الى عجز المؤسسات الصغرى والمتوسطة عن الصمود في اسواق المنافسة الضاربة، المترتبة عن تحرير التجارة، وانفتاح الاسواق المحلية للسلع المستوردة الاكثر اغراء والانقص ثمنا. ونعلم ان المؤسسات المتوسطة اكثر من المؤسسات العملاقة قدرة على تشغيل القوى العاملة بكلفة مالية اقل من كلفة انشاء فرصة عمل قارة مجدية لدى المؤسسات الكبرى. وان ما تلقاه من منافسة مدعاة الى «تسريح» أفواج عديدة من العاملين، بلغت بالمانيا مثلا 27 في بحر العشرين سنة المنصرمة، في حين تضاعف انتاج السلع مرتين ونصف. ويعزى التراجع في قدرة التشغيل ايضا الى ارتفاع نسبة الانتاجية في الصناعة والخدمات، بفضل التجهيزات الذكية، ومن جراء المزيد من احكام التنظيم داخل المؤسسة وتحسين نوعية العلاقات المهنية.
نعلم من الاخبار اليومية ما يتم بصورة متكررة من اندماج بين المؤسسات الاقتصادية العملاقة، بغية المزيد من التحكم في الاسواق، وكسب رهان المنافسة. يترتب عن هذا الاندماج تسريح افواج كبيرة من القوى العاملة، قد تبلغ مئات الالاف، كما حصل عقب اندماج شركات صنع الطائرات او السيارات. وتفيد تقارير «O.C.D.E» منظمة التنمية بأوروبا، ودراسات منظمة العمل الدولية ان حجم البطالة سيتفاقم في العشرين سنة المقبلة بنحو 12 في السوق الاوروبية، واكثر من 15 بالبلاد الناشئة. ونعلم ان الاقتصاديات المصنعة تتجه الى التخفيض من ساعات العمل السنوية من 1600 الى 1000 ساعة، اي بنحو 40 وذلك لكي يحافظ الاقتصاد على طاقة الاستيعاب للطلب الاجمالي من الشغل. مع الملاحظة المعروفة ان هذا الطلب في البلاد المصنعة المتحكمة في النمو السكاني أهون بكثير من حجم الطلب في البلاد الناشئة ذات العمران الفتي. واكبر مشكلة تجابه المؤسسات في تطبيق هذه السياسة هو ابقاء حجم الاجور على مستواه الحالي، وهذا يعني زيادة نسبية بنحو 40 في اجر ساعة العمل، مع افتراض نظري لاستقرار القيمة الشرائية لهذا الاجر.
الاتجاه السائد الواجب اعتباره من جانب القيادات النقابية هو ان العمل يوشك ان يصبح عنصرا ثانويا من عناصر الانتاج، بسبب اكتساح المؤسسة من قبل التجهيزات الذكية التي تنوب عن جهد الانسان، بما لهذه التجهيزات من تحرك تلقائي ومن تسيير ذاتي مبرمج، يصبح العامل ازاءها مجرد رقيب أو مزود بالموارد او متعهدا بالصيانة عند الاقتضاء. فلم تترك هذه الاجهيزة المتطورة مجالا لمبادرة الانسان ولا لإبداعه الشخصي، بعد اعفائه من الجهد البهيمي. لقد بات الاقتصاد الرأسمالي عاجزا عن ان يوفر لكل مواطن حقه في العمل المجدي المربح. ويشع القول بأنه لا مناص من الرضا في اقتصاد السوق بقدر معين من البطالة، وتذهب المدرسة الاشتراكية الجديدة الى وجوب الفصل بين العمل وبين الدخل، ويحتدم الجدال اليوم حول شرعية استحقاق الدخل بدون مقابل، وحول شروط اسناده، وبصورة خاصة حول مأتى الموارد لتمويله.. وفي انتظار حسم هذه الاشكالية يتجه اقتصاد السوق الى التنقيص من حصة العمل المأجور، بغية اغتنام الفائض من الساعات لاحداث مواطن شغل اضافية. ولكن الى اي حد يذهب هذا العد التنازلي في تقليص حصص العمل؟
ودلت التجربة في معظم البلاد الناشئة ان خوصصة المؤسسات العامة، وخروجها من مفهوم الخدمة الاجتماعية، التي أرادتها الدولة عند بعثها لهذه المؤسسة، واقتصارها على منطق الجدوى المالية التي يقف عندها اصحاب الاستثمار من الخواص، تفضي هذه الخوصصة الى تقليص حجم الشغل من بين عوامل الانتاج، والى تسريح نسبة مهمة من القوى العاملة. اصبح الانتاج في غنى عنها، وزادت التجهيزات الذكية في تهميش دورها. وقد غدت خوصصة المؤسسات العامة سلوكا واسع الانتشار في عصر العولمة وشرطا أساسيا من شروط خطة التعديل الهيكلي التي «يوصي» بها صندوق النقد الدولي، وتلتزم بها معظم الدول الناشئة.
يتزامن إنكماش قدرة الاقتصاد على استيعاب القوى العاملة مع ضرورة مقاومة البطالة في الدول الناشئة بإعتبارها هدفا اساسيا بين اهداف مخططات التنمية، وقد اتخذت هذه الدول جملة من الاجراءات القانونية ومن الاعفاءات الجبائية ومن التسهيلات في ميدان البنية الاساسية، بغية جلب الاستثمارات الاجنبية وتوجيهها الى القطاعات المعملية والزراعية الاوسع امتصاصا للعمالة. فبات تناقص كفاءة التشغيل بسبب تلك التوجيهات الليبرالية من أخطر السلبيات في اقتصاد السوق. واصبح صندوق النقد الدولي وغيره من مؤسسات (بريتن وودز) مدركا لضرورة هذا الاتجاه في التعديل الهيكلي لتدارك انعكاساته الاجتماعية ولتلافي سلبياته على الاستقرار السياسي والامن في الدول الناشئة.
وتغيرت موازين القوى السياسية بمعظم دول السوق الاوروبية لفائدة التيارات اليسارية وهبت حكوماتها تعلن عن عزمها على اتخاذ الخط الوسط بين الليبرالية الرأسمالية وبين المكاسب الاجتماعية لشعوبها، وفي مقدمة هذه المكاسب الوفاء بحق الشغل وحق الدخل الكافي لإشباع حاجيات المواطن. ومن نافلة القول ان الحركات العمالية تساند هذا التوجه الوسطي، وتعمل على نصرة الحكومات المبادرة بتطبيقه. ومن واجب الحركات العمالية بالبلاد الناشئة ان تدرك أهمية الرهان الاوروبي الجديد، وان تحتاط للقيام بدورها في تأييد السياسة الاجتماعية بأوطانها حتى تنجح في التنقيص من سلبيات اقتصاد السوق.
البقية في العدد القادم : دور الدولة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.