الثنائية البرلمانية.. بين تنازع السلطات وغياب قانون    نابل: منع 4 مخابز من التزود بالفارينة المدعمة    احتجاجات طلابية جديدة باليابان و المكسيك وأستراليا.. دعما لفلسطين    مساكن: إيقاف إمرأة محكوم عليها ب 295 سنة سجنا !!    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    عاجل/ القبض على شاب شوّه وجه عضو مجلس محلي بهذه الحهة    الكشف عن موعد كلاسيكو الترجي و النجم الساحلي…التعيينات الكاملة لمباريات الجولة السابعة من مرحلة التتويج    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    14 قتيلا جراء فيضانات... التفاصيل    فيضانات تجتاح البرازيل وتخلّف 39 قتيلا وأكثر من 69 مفقود    حالة الطقس اليوم السبت    تونس تعول على مواردها الذاتية.. تراجع الاقتراض الخارجي بنحو الثلث    دورة كتالونيا الإسبانية المفتوحة للتنس: المصرية ميار شريف، إلى الدورنصف النهائي    التوقعات الجوية لليوم    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    وفاة أحد أهم شعراء السعودية    أوجيه ألياسيم يضرب موعدا مع روبليف بنهائي بطولة مدريد المفتوحة للتنس    دولة أوروبية تتهم روسيا بشن هجمات إلكترونية خطيرة    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    لجان البرلمان مستعدة للإصغاء الى منظمة "كوناكت" والاستنارة بآرائها (بودربالة)    اليوم العالمي لحرية الصحافة /اليونسكو: تعرض 70 بالمائة من الصحفيين البيئيين للاعتداءات خلال عملهم    وزارة الفلاحة ونظيرتها العراقية توقعان مذكرة تفاهم في قطاع المياه    اخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من المهاجرين الافارقة    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    تفكيك شبكة مختصة في ترويج المخدرات بجندوبة ..وحجز 41 صفيحة من مخدر "الزطلة"    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    سليم عبيدة ملحن وعازف جاز تونسي يتحدث بلغة الموسيقى عن مشاعره وعن تفاعله مع قضايا عصره    مركز النجمة الزهراء يطلق تظاهرة موسيقية جديدة بعنوان "رحلة المقام"    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    بوريل..امريكا فقدت مكانتها المهيمنة في العالم وأوروبا مهددة بالانقراض    فتحي الحنشي: "الطاقات المتجددة والنجاعة الطاقية أصبحت أساسية لتونس"    إفتتاح مشروع سينما تدور    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    تصنيف يويفا.. ريال مدريد ثالثا وبرشلونة خارج ال 10 الأوائل    منير بن رجيبة يترأس الوفد المشارك في اجتماع وزراء خارجية دول شمال أوروبا -إفريقيا    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    القصرين: تمتد على 2000 متر مربع: اكتشاف أول بؤرة ل«الحشرة القرمزية»    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    تالة: مهرجان الحصان البربري وأيام الاستثمار والتنمية    عاجل/ قضية "اللوبيينغ" المرفوعة ضد النهضة: آخر المستجدات..    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    عاجل/ أعمارهم بين ال 16 و 22 سنة: القبض على 4 شبان متورطين في جريمة قتل    العثور على جثة آدمية مُلقاة بهذه الطريق الوطنية    قرعة كأس تونس 2024.    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في لغة مسرحيّة »مغامرة رأس المملوك جابر« :بحث في الخصائص والوظائف
مرة أخرى: * مبروك المعشاوي
نشر في الشعب يوم 29 - 05 - 2010

من المسائل التي تطرح في تناول الأثر المسرحي اللغة:مستوى وخصائص و دلالات.و طبيعي أن تحكم تلك المسائل نظرة المبدع الفنية وما يصدر عنه من رؤى فكرية وأيديولوجية خاصة وأنّ الموضوع المطروح يعسر تخليصه مما يعلق به من قضايا سياسية و عقدية و حضارية... و سنحاول أن نعرض في مقالنا هذا لقضية لغة مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" بحثا عن مميزاتها و استجلاء لما نهضت به من وظائف.و تجدر الملاحظة أنّ قلّة من الأعمال من تعرّضت لهذه القضيّة و عادة ما يكون ذلك في أعطاف قضايا أخرى تتّصل بها شأن الحوار أو السّرد.
لقد عرفت مسألة لغة الكتابة عند العرب حديثا جدلا واسعا بين منتصر لفصحى تحاكي عيون الأدب العربي في عصوره الزاهرة و داع لأخرى هي العامية وما هو منها بقريب.و بين هذين الموقفين المتطرفين نهضت أخرى تتوسط و تعتدل.فكان موقف توفيق الحكيم مثلا المنادي »باللغة الثالثة ....اللغة التي يمكن أن يتلاقى عندها الشعب كله ...إنها تجربة النزول باللغة العربية إلى أدنى مستوى لتلاصق العامية دون أن تكون هي العامية... والارتفاع بالعامية دون أن تكون هي الفصحى«.
وفي الحقيقة ورغم هذا التنوع الظاهر في المواقف فان المسألة لم تراوح موقعا واحدا في النظر ينظر للقضية اللغوية بمعزل عن سائر مكونات النص الأدبي.
ونوس وإعادة طرح القضايا
لما كان المسرح عند سعد الله ونوس »حدثا اجتماعيا« وجب تنزيل قضاياه ضمن هذا الأفق .وذلك يعني من ضمن ما يعنيه أن ينظر إلى ّمسألة لغة المسرحية في إطارها التاريخي .لقد طرحت هذه المشكلة مع ظهور الطبقات الشعبية :كيف نتجاوز الازدواجية اللغوية الحادة بين لغة الحياة و الواقع و بين لغة الأدب والفكر والإعلام؟ انه الانفصال بين انشداد ما هو في دائرة الثقافة العالمة وما يحسب على دوائر الحياة المباشرة.
يقرّر ونوس أن الواقعية "ليست الانعكاس المباشر و الميكانيكي للحياة العامة "لذلك فان الحديث بالعامية لا يسلم ضرورة إلى وسم العمل بالواقعية كما أن استخدام الفصحى على لسان شخصيات من قاع المجتمع لا يقف حائلا دون أن تكون النماذج المصورة واقعية .يحتج ونوس لهذا الرأي بالتراث المسرحي العالمي :لقد كانت شخصيات شكسبيرمثلا تتحدث شعرا و منها البهلوان و نصف المعتوه .بل إن ونوس ذاته قد خاض تجربة طريفة :فبعد عرض مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" لم يتفطن الجمهور الخارج من العرض إلى لغة المسرحية عامية أو فصحى.انه من العقم بمكان أن تطرح المشكلة خارج العملية الإبداعية .عديدة هي الأعمال المستخدمة العامية ضمن أفق واقعية رثة تعيد إنتاج الوعي الزائف و تسطّح السمات النموذجية للشخصيات المصوّرة .
بهذا المعنى نتجاوز الثنائية الحادة بين الفصحى و العامية ليبحث عنها ضمن »اللغة الحية و الديناميكية القادرة على تطوير الحوار و الموقف« .و هذه بدورها تطرح ضمن "العلاقة المسرحية "أي مجمل الوسائل الواجب استخدامها حتّى يتحقق تفاعل أكيد مع الجمهور.فعندما تطرح مشاكل الجمهورالحقيقية طرحا حيا و له امتداداته في الواقع »يجتاز المتفرج حاجز اللغة بسهولة و يركز انتباهه و يستوعب كل ما يقال« .
وهكذا ينزّل ونوس المسألة تنزيلا طريفا يأخذ بعين الاعتبار مجمل مكونات العملية المسرحية وأولها طبعا طبيعة الجمهور المستهدف بحثا عن خلق" مساحة للحوار "مع من غيّبهم التاريخ الرسمي طويلا: حوار تتّسع دوائره من داخل" العرض المسرحي إلى المضمر بين العرض والمتفرج إلى آخر بين المتفرجين أنفسهم ....إلى الحوار بين الاحتفال المسرحي عرضا و جمهورا و المدينة ".
انّ طرح المسألة لينفتح حينئذ على الهاجس الرئيس و هو قضيّة التسييس ضمن رؤية حضاريّة أوسع تنزّل المسرح وسيلة ثقافيّة تنويريّة من ضمن وسائل أخرى "ستؤدّي ذات يوم إلى امّحاء الفروق بين الفصحى و العامّية " .انّه الطرح الّذي يتجاوز النّظر إلى القضيّة من زاوية إيديولوجية تبسيطية إلى أخرى تنظر للمسألة في علاقاتها المتشابكة مع سائر الأدوات المسرحيّة المتواشجة بدورها مع شرط تاريخيّ لا بدّ من دراسته عميقا.
في خصائص لغة المسرحية
لا تسير لغة مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" على وتيرة واحدة.ولا يعود الأمر إلى تعدّد شخصيات المسرحية و تنوّعها فحسب وانما أيضا إلى تغيّر مواضع تدخّلاتهم و سياق محادثاتهم وفق منزلته من تطور أحداث الحكاية و ما يرافقه من وظائف مناطة به.
من برودة الحياد إلى وهج التواطؤ
فالحكواتي و هو يستهل القص تنضح لغته بضرب من المراسم تؤصل كلامه ضمن تقاليد في الحكي ضاربة الجذور .هكذا تفهم عبارة"كان في قديم الزمان و سالف العصر و الأوان" معلنة عن جنس القص :انه الخرافة تحكى ضمن فضاء مخصوص :مكان عام يجمع فئات شعبية متنوعة يجمعها بالراوي عقد صريح و زمن محدّد هو الليل وفق تقاليد تمحّض القص لمغالبة الزمن و ترغمه على الألفة و تنزع الوحشة عنه...و إلى الاستهلال ينضاف الإسناد:" قال الراوي وهو ألديناري رحمه الله تعالى ".و بقدر ما تستدعي هذه الّرّواسم تقاليد ألحكي العربية العريقة القريبة من وجدان المتفرج تنهض بتغريب الحكاية بالتأكيد على صبغتها التاريخية و التنصيص على كونها أثرا من الماضي على المتفرج العدول بدلالتها إلى مجالات راهنة ... و بما أنّ الحكواتي قد اختار الاختفاء وراء ألديناري فان ّمن شأن تلك المسافة الفاصلة بينهما أن تضمن الحياد الذي أكّد عليه المؤلّف إمعانا في التغريب. و ما إن يمضي المتفرّج في عوالم الحكاية حتّى يأخذه السجع و الازدواج :"هكذا كان حال الناس في بغداد في سالف العصر و الأوان حين كان الخليفة شعبان المنتصر بالله و وزيره محمد العبد لي على وفاق .و كذلك كان حاله حين بدا بينهما الخلاف و الشقاق ...".ولهذه الأساليب وظائف تنهض بها لعلّ أهمها استقطاب المتفرج إلى عوالم القصّ العجيبة.
إلا أنّ هذا الحياد الذي طبع ملفوظ الحكواتي في جلّ مراحل المسرحية سوف يتلاشى .و آية ذلك تحوّله في المشهد الأخير خطابا تحريضيا مباشرا يحمّل المتفرّج مسؤوليّة ما آل إليه الوضع من دمار وخراب .فكان أن حضرت بكثافة ضمائر المخاطبة."من ليل بغداد العميق نحدّثكم ...تقولون... وتقولون ...لا تنسوا ...تعضدها هيمنة الوظيفة التأثيرية بحثا عن تحريك المخاطب و توريطه في بناء الدّلالات...
إن التّحوّل في لغة الحكواتي من خطاب يسعى إلى الحياد ويحافظ على المسافة بين المتلفّظ و ملفوظه إلى آخر مشحون بالذّاتية مشبع بالايديوليجيا مستجيبا للمشروع الّتسييسي بل السّياسي ليؤكّد عدم سير اللغة في هذه المسرحية على نهج وحيد في الكتابة و إنما يتلوّن حسب موضعه من العمل الّذي بدوره يندرج ضمن »العملية المسرحي«.
الفصاحة فصاحات
"على الكاتب الدرامي أن يكتب بفصاحة أي أنّ عليه أن يحقّق مستوى من الكلام أعلى بكثير من كلامنا في الحياة " أريك بنتلي
سبق وأن أكّدنا المنظور الّذي ينزّل ضمنه ونوس مسألة العاميّة والفصحى . ولذلك يجدر الحديث عن مستويات متعدّدة للغة المسرحيّة :
لقد كانت مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر "نصّا ينهل من الأدب الشّعبي وهو أدب يقترن في خطابه بالشفاهيّة اقترانا لعلّ من آثاره في نصّنا هذا ما وسم تدخّل شخصيات المقهى وكذلك عامة بغداد بالارتجال و العفويّة و التقطّع .انّه خطاب يميل إلى الآنيّة و المباشرة محاكاة لما يمكن أن تكون عليه ردود أفعال الجمهور الحقيق خاصّّّة وأنّ الزّبائن هم صورة ما لذلك الجمهور .يقول ونوس في ذلك: والمهمّ بالنّسبة لي هو التّأكيد على عفويّته وعدم تسلسله... وتقطّعه بفجوات من الصّمت.
إنّ تلك الخصائص المذكورة سيعمّقها انفتاح كبير على العامية تأكيدا على انتماء المتدخّلين إلى قاع اجتماعيّ بائس و على كونهم من عامة الناس لا من نخبتهم. فكان التّلاؤم لا بين الخطاب والمتكلّم فحسب وإنما أيضا بينهما والفضائين المكاني والزّماني .فالمقهى تستدعي أن يكون الخطاب منفلتا من رقابة العقل الكتابي وصرامة الشّكل المسرحي التّقليدي ."شفت اليوم أبو إبراهيم..." ماشي الحال ..."هات واحد شاي كمان..."فنجان شاي ثقيل و نارة " .إن من شأن العامية في مثل هذه المواضع من المسرحية أن تؤكّد تواصل العمل مع الجمهور الذي يجد صورته منعكسة فيما يرى .
إن اللغة حينئذ محكومة بالانتماء الطبقي للشخصيات و هو أمر استدعاه الهدف ألتسييسي الذي ما انفك ونوس يلحّ عليه "إن كلام الزبائن رغم أني أضعه بالفصحى يجب أن يؤدّى بالعامية".بل انّه وفي مسعاه ذلك لا يعتبر تلك الخطابات إلا "اقتراحات أو ما سمّيته وسيلة اصطناعية لتشجيع المتفرّج على الكلام و الارتجال و الحوار..." و هكذا فانّ لغة الزّبائن تتلاءم مع مستواهم الثقافي الذي هو صورة لانتمائهم الاجتماعي و لتجانسه مع الفضاء المكاني .
ثمّ إن خطاب الزّبائن و العامة هذا كان ابعد عن الحوار بالمعنى الذي له في النص المسرحي.إذ خلا من خصائص التبادل و التواصل و التكامل تطويرا للحركة الدرامية و دفعا فيه يد المؤلّف توزيعا بين شخصيات أرقام لا غير. وليس تشظّي المقطوعة الواحدة من الحوار و توزّعها ذلك التوزّع إلا دلالة على أن تلك الشخصيات لم تتجاوز بعد مرحلة الوعي الجماعي الزائف .فبنيته الأسلوبية و خصائص التركيب فيه تجعله صوتا واحدا عملت أقرب إلى التّرديد و التّرجيع إذ حافظت لغتها على نفس المضامين المتصلة ب"سبل الأمان " أو تلك المصوّرة لتقلّب الأحوال و سوء الوضع .إن من شأن هذا التكرار أن توحي باغتراب الشخصيات و تحوّلها كائنات جوفاء تردّد ما استقرّ طويلا في أذهانها دون إعمال عقل أو وعي .ولقد كان من نتائج هذا الاختيار الفنّي أن اتّسمت هذه المحاورات بطابع حجاجي بيّن وضعها المأسوي و ما ترزح تحته من بؤس و معاناة . وهو وضع أصبح في حكم القدر تتقبّله الشخصيات بتسليم و بداهة لعلّهما من آثار تاريخ طويل من القمع و العسف .من هنا كان ذلك الانفتاح على سجلّ عميق الدّلالات من الأمثال الشعبية :إن تاريخ هذه الشعوب هو تاريخ العنف المسلّط على أجسادهم و أرواحهم يقدّها كما يشاء.
و لئن اتّسمت هذه المخاطبات بثبات المواقف و التصورات بل و بالمحافظة على البنى اللغوية و الأسلوبية ذاتها فقد كانت بعض المقاطع الحوارية تعيد استنساخ أجزاء كثيرة من حوارات سابقة .ذلك شأن الزبون الرابع أو الرجل الرابع أو بقيّة محاوريهما.و بقدر ما ينهض هذا الأسلوب بتأكيد خاصية ثبات الوعي و عدم تطوّره عند الزبائن وعامة بغداد فانّه يؤكّد هامشيّة المثقّف و محدوديّة تأثيره في الأوساط الشعبية بقدر ما يحفّز المتفرّج الحقيقي لالتقاط الرسالة التوعويّة و إعمال الوعي في الوضع الذي يحيا.إن عليه أن يتجاوز حوار الصم ذاك نحو لغة السّؤال
من نثرية الواقع إلى شعرية الذات؟
أمام عنف الواقع وخطاباته تنضخ بعض المقاطع شعرية عالية .ذلك شأن خطاب المملوك جابر وراء القضبان .ألا يعيش الحب في ممالك الرعب و العنف إلا وراء الجدران ؟ فكان خطاب العشق يضجّ لهفة إلى المحبوب في لغة غنائية تراسلت فيها الحواس و تجردت زمرد من جارية إلى صورة مؤمثلة .
ومثل الزنزانة تسمح بتحوّل اللغة من المباشرة المفجعة إلى الشعرية الأثيرة كانت البراري فسحة لانطلاق الخطاب نحو رحابة الشعر بأدواته المتنوعة:هيمنة الوظيفة الإنشائية حيث اللغة تشير إلى ذاتها أوّلا و انشداد الخطاب إلى ضمير أنا و استدعاء معاجم المشاعر والأحلام في لغة موقّعة توقيعا عبر التّرديد و التّرجيع يحاكي القصائد المنفلتة من عمود الشّعر .
و لئن أمكن اعتبار هذا الخطاب تخفيفا على المتفرّج من العنف المسلّط عليه: عنف الوعي فانّه كذلك ناهض بوظائف ييسر إرجاعها إلى هاجس التّسييس :أليس خطاب جابر هاجسا برؤية ترى الخلاص فرديّا و السعادة جاها و مالا و امرأة؟ ثمّ إن ذلك الخطاب لم يتسنّ له الظهور إلا في العزلة :ألا يمكن النظر إليه علامة على غربة جابر عن واقعه و على البصيرة تعمى باغترابها عمّا يحيط بها؟
❊ المصادر والمراجع:
مغامرة رأس المملوك جابر"سعد الله ونوس "دارالآداب 1996
في جمالية الخطاب المسرحي:مغامرة رأس المملوك جابر .أنموذجا"التيجاني الصلعاوي و رمضان العوري .ميسكلياني للنشر ط 1 فيفري2008 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.