هل يمكن أن نتحدّث عن عمل فنيّ جماعيّ حقّا ؟ .. قد يحدث الأمر استثنائيّا، لكنّ القاعدة و الأصل أن يكون الفنّ فرديّا في أجلّ معاني الفرديّة شخصيّا إلى أبعد مدى... النّقابة رهينة المهنة و الاحتراف : بعد المحاولة الفاشلة لمشروع نقابة المهن التمثيلية منذ سنوات وللتأريخ سنقول إنّ أوّل انضمام فعليا لقطاع من قطاعات الفنّ إلى الاتحاد العامّ التونسي للشغل كان منذ شهور قليلة حين تمّ تأسيس نقابة الفنّانين على يد مجموعة من الملحّنين و المطربين و العازفين و غيرهم من العاملين في قطاع الموسيقى ...و قد رافقت هذا التّأسيس موجات من الانتقاد و التّشكيك و الرّفض برزت على أعمدة الجرائد و المجلاّت من خلال تصريحات كثيرة منتصرة إلى هذا الموقف أم ذاك .. و بعيدا عن التّأريخ و البحث في خلفيّات كلّ تلك الحملة سنحاول أن نبحث في أسباب تأسيس هذه النقابة في هذا التّوقيت بالذّات مع وعينا العميق بأنّ الأشياء لا يمكن أن تأتي صدفة أو جزافا بقدر ما هي استجابات لظروف موضوعيّة توفّرت فكان من المنطقيّ أن تجرّ وراءها أشكالها و صيغ تنظيمها . في المطلق لا يمكننا الحديث عن نقابة في ظلّ الهواية ، فالنّقابة منذ المنطلق هي هيكل يجمع طائفة من المنتمين إلى قطاع مهنيّ أو وظيفيّ موحّد يعيشون و يقوتون عائلاتهم منه ينتظمون في هيكل يسعى إلى حماية مصالحهم و تحسين ظروفهم و رفع مطالبهم و تنظيم نضالاتهم إن تعسّر تحقيق تلك المطالب . هكذا يتّضح لنا منذ البدء أنّ النّقابة كهيكل غايتها الدّفاع عن حقوق المنتمين إليها و هي على هذا الأساس لا يمكن أن تتماشى مع الهواية التي تفترض شكلا آخر من الانتماء المدنيّ الجماعيّ إلى جمعيّات أو منظّمات أو غيرها من الهياكل الملائمة لطبيعتها و خصوصيّاتها تلك . هكذا نتبيّن أنّ تأسيس أوّل نقابة لأحد القطاعات الفنيّة جاء كتعبير عن التحوّلات التي مسّت ذلك القطاع في تطوّره التّاريخيّ حيث صار من الممكن أن يعيش ملحّن من ألحانه و مغنّ من صوته و عازف ممّا تحدثه أنامله على الأوتار .. لقد قاد التحوّل في طبيعة النّشاط من الهواية إلى الاحتراف إلى تغيّر في طبيعة الهيكل المعبّر عنه ، هذا طبعا مع ضرورة توفّر وعي بقيمة العمل النقابيّ لدى هؤلاء المعنيّين ، و من نفس المنطلق لم نتمكّن في المقابل من رؤية نقابة للكتّاب مثلا نظرا إلى أنّ هذا القطاع لم يتمكّن بعد، أو لم تتوفّر الظّروف فيه بعد، لتصبح الكتابة مهنة أو وظيفة قادرة على دفع كاتب ما إلى التفرّغ ليعيش ممّا يكتبه و ليس أدلّ على ذلك من عدم وجود كاتب تونسيّ يحمل في بطاقة تعريفه الوطنيّة صفته تلك باعتبارها مهنة و عملا ... لكن هل يكفي توفّر شرط المهنة في قطاعات الثقافة و الفنّ لتتكوّن النقابات ؟؟ الفنّ ، النقابة .. التهم المتبادلة : صحيح إنّ تأسيس النقابات يستوجب بالضّرورة توفّر تلك الظّروف المذكورة و على رأسها تحوّل القطاع إلى مهنة أو وظيفة ، لكن، مع ذلك فإنّ توفّر هذه الشّروط لا يقود بالضّرورة إلى نفس النتيجة أي إلى تكوين النقابات إذ هناك قطاعات ثقافيّة و فنيّة كثيرة تحوّلت إلى مهن حقيقيّة تنظّمها القوانين و تساهم في الاقتصاد الوطنيّ و حتّى في التصدير و التّوريد و مع ذلك لم تؤسس نقابات و لا انتمت إلى هياكل موجودة ذات نفس الخصوصيّة من ذلك مثلا المهن التمثيليّة و الدّراميّة التي تعجُّ المخرجين و الممثّلين و الكتّاب و الفنيّين ، و كذلك الفنون التشكيليّة التي توفّر فيها عدد كبير نسبيّا من أولئك المتفرّغين الذين يعيشون من فنّهم و من لوحاتهم و منحوتاتهم و غيرها .. و الأسباب في اعتبارنا عديدة لعلّ أوّلها حداثة عهد هذه القطاعات الإنتاجيّة من زاوية تحوّل الإنتاج الفنيّ إلى قيمة سوق التي لم تعش أزمات حقيقيّة بعد تفرض على العاملين فيها إلى التوحّد داخل هياكل دفاعا عن مصالحها المشتركة ، و ثانيها هذه النّظرة السلبيّة المتبادلة بين الفنانين الذين يرون في أعمالهم ما يسمح لهم بالاستعلاء على النّقابة نظرا إلى أنّ التقويم الماديّ للفنّ غير قابل لتوحيد التّسعيرة أو القيمة باعتبار أنّ العمل الفنّي يعيّر و يقوّم وفق تقويمات خاصّة لا علاقة لها بحجم العمل أو ساعاته و لا بالرتب و الأصناف من جهة و بين النقابيّين الكلاسيكيين و من حسن الحظّ أنّهم قلّة الذين مازالوا يقوّمون الانتماء إلى النقابة بالظّروف الماديّة للعمل و لم يتمكّنوا من استيعاب التحوّلات الحادثة في أسواق الشّغل و تنظيمات العمل التي تتغيّر كلّ يوم وفق وتيرة تطوّر الأبنية الاجتماعيّة الحديثة ، و يرون وفق هذا المنظور أنّ الفنّانين غير قادرين على التنظّم في النقابات و ليس هناك ما يبرّر نضالهم بالنّظر إلى «يسر» ظروف عملهم .. لا وجود لفنّ أصيل دون توفّر الظّروف : كثيرا ما كان البعض يكرّرون إنّ الفنّ الحقيقيّ لا يمكن أن يخرج إلاّ من الفقر و الحرمان و السجون .. و هذا الرّأي له ما يبرّره في إطار ما يعبّر عنه بحرارة التّجربة و ثرائه و هي لا محالة تقوّي الفنّان و تضفي على فنّه مسحة من العمق .. لكن ماذا لو نظرنا حولنا في عوالم الفنّانين .. لقد كان محمّد عبد الوهاب صاحب الروائع التي ما زلنا و ستظلّ الأجيال تردّدها يعيش تقريبا في بلاط الملك فاروق و معه أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كتب له عديد الأغاني ..و في نفس الإطار يعترف غابريال غارسيا ماركيز أنّه لم يكن ليكتب أجمل رواياته لو لم تتوفّر له الظّروف الملائمة للحياة .. مرّة ما و كان وقتها يعيش في إسبانيا ، كان يكتب روايته العظيمة « الجنرال في متاهته « التي استمدّها من تاريخ الجنرال سيمون بوليفار الذي أراد أن يوحّد أمريكا اللاّتينيّة و انتهى وحيدا تائها في غاباتها و أدغالها .. كان ماركيز يريد أن يصف رائحة إحدى الورود التي تنبت في كولومبيا من خياله و ذاكرته لكنّه لم يتمكّن من ذلك، فما كان منه إلاّ أن استدعى مهندسا فلاحيّا زرع له تلك الوردة الاستوائيّة في شقّته ثمّ أدخل تعديلات مناخيّة على المنزل و وفّر رطوبة قريبة من مناخها الطبيعيّ حتّى نبتت و أينعت و ماركيز يلاحقها و يرسمها في كتابه ... الأمثلة في هذا المجال طويلة جدّا ، بل على العكس منها فإنّ الكاتب أو الفنّان الفقير قد يحوّل معظم جهده و طاقته الإبداعيّة إلى توفير لقمة العيش لأنّ الخبز قبل الفنّ دائما و ليس أحيانا ... هكذا قد تكون نقابات المهن الفنيّة و الإبداعيّة خاصّة أو ذات مطالب استثنائيّة كتوفير ظروف الإبداع عوض الدّفاع عن ظروف المبدعين ، و قد تطالب بتوفير مناخ رمزيّ عوض المطالب الماديّة النقابيّة الكلاسيكيّة لكنّها في كلّ الأحوال صارت ضرورة ملحّة فلا فنّ دون تفرّغ و احتراف و لا احتراف دون مشاكل الحرفة و مشاغلها . و في النّهاية فإنّ القطاعات الفنيّة و الثقافيّة تطوّرت في بلادنا بما فيه الكفاية لكي تقوم بهيكلة ذاتها بما يحمي مصالحها و يحسّن ظروفها و يطوّر أداءها.