طالما رفضتها ورفضت الملتحفين بها، انها فكرة الماضوية وتقديس ما كان والحسرة على ما سبق وتمجيد ما انقضى... ولكن المستجدات التي تحاصر وجودنا الاجتماعي في كل لحظة لم تترك للأفكار النيّرة مكانا تستقل فيه بإيماناتها... لم أكن اتخيّل قط أني سأتحسّر على يوم مضى لأني اؤمن بالمستقبل وبالخير القادم فيه كما اؤمن بسعادة اخرى تقطع الطريق إلينا... فما فات مات والقادم أحسن... ولكن... ما اتلقاه كل يوم من اخبار هي بمثابة الصفعات على وجنة اليوم وخدّ الغد... يجعلني أطيل التشبّث بيومي قبل ان يهرب مني الى الماضي بأفعاله الناقصة وغير المكتملة... فهل فعلا كانت أيامنا المنقضية اكثر سعادة؟ هل كانت سنوات السينما المكتظة في شارعنا الرئيسي من اجل متابعة فيلم تونسي جديد يحفل ببعض الافكار السياسية والفنية هي مشاهد من الماضي؟ هل كانت جلسات الحديث لمناقشة حجم التوظيف الفني للقطة العري الواردة في مشهد سينمائي ما، جلسة من الماضي؟ هل تركت القاعات لفراغها وتحولت الجلسات الى محاكمات لأشياء لم تكن مثارا للنقاش أصلا؟ اذ لم أستمع من قبل لمحاكمات جماعية لمخرج تونسي من اجل مبدأ العري وحده وكأنه الجرم... وذلك منذ أولى أفلامي التي شاهدتها »صفائح من ذهب« و »ليلة السنوات العشر« و »يا سلطان المدينة« و »ريح السدّ« و »عصفور السطح« وصولا الى »بنت فاميليا« و »بزناس« و »اخر فيلم«... فلماذا كل هذا الضجيج حول مشهد العري في فيلم »الدوّاحة« لرجاء العماري، اذ لم أستمع لنقاش جدّي من قبل الرافضين للفيلم حول مسائل تقنية أو فنية فيه، فقط وقفوا بل تسمّروا عند مشهد ظهرت فيه البطلة »ريم البنّا« عارية، ليس هناك سؤال واحد في خضم الجدل البيزنطي الذي استمعت اليه ناقش اللقطة بجدّ..؟ لماذا؟ لا أريد ان استجيب لنسوية مبالغ فيها لأقول لأن المخرجة امرأة وكذلك البطلات ولبّ الحكاية... ولا أريد ان أسأل لماذا لم يحاسب »النوري بوزيد« بنفس القسوة على مشاهد عديدة مرت في معظم أفلامه ولماذا لم يحاسب مخرجون آخرون... إن تزامن الحملة ضد الفيلم مع لحظة زمنية خطيرة، تعيشها بلادنا في اطار سؤال الهوّية الملغوم يجعل من الأمر اكثر من انطباع عابر ليتحول الى نهج فكري يترسخ يوما عن يوم خصوصا والمروّجون له (وراء مصدح احدى الاذاعات التي طالما هدمت قيما ومبادئ مترسخة باسم التجديد) يتوسلون بتبريرات لا تقنع حتى القطط في علاقة بالاخلاق، فهل الأخلاق ان نخنق الحريات، وهل الاخلاق ان نتراجع الى الخلف لنتمترس خلف الظلام، وهل الاخلاق ان نحاسب الفن قبل أن نحاسب أنفسنا، الفن بما هو رؤى واستشراف وحداثة، وهل الاخلاق أخيرا ان ننخرط في حملات هجوم منظمة دون الارتقاء نحو الجدل الفكري الحقيقي لقضايانا اليوم؟ هل من المعقول ان نختتم العشرية الاولى من القرن الواحد والعشرين بقضية مرفوعة ضد كتاب »ألف ليلة وليلة« بإعتباره نصًا يشجع على الفحش؟ هل يحاكم ذكاء شهرزاد وفصاحتها أم تحاكم الأنوثة منها امام عجز الذكورة في الحكاية؟ هل ننهي القرن ونحن نصفّق لجماهير تخرج في غوغائية مطالبة بإلغاء حفل موسيقي لفنان عالمي من حجم الانڤليزي »إلتون دجون« فقط لأنه صرّح أنه مثلّي او أنه قال ذات يوم انه يريد ان يحيا خارج دائرة الأديان؟ الى أي فجّ عميق تجذب الحرية، وفي اي اتجاه تُدار أشرعتها، والى أي مستوى يمكن ان تغوص حفرة معاداة الاستقلالية وحق الاختلاف، والى أي مدى يمكن أن تنحسر مساحة الضوء؟ وهل يكون ذاك الماضي البعيد الذي كنّا نتمتع فيه بالفن بعيدا عن أسئلة مغلوطة وجاهلة تتمسك بعنوان الأخلاق تارة وتتوسل بالدين طورا من متعلقات الأمس، فهل نسي الجَمْعُ أن رجلا كالجرجاني عبد القاهر قد سلم منذ القرن الخامس الهجري أن »الديانة لم تكن قط عِيَارًا على الشعر« وهو أحد الفنون.