يضعنا النظر في شعر الحماسة عند جوهر الابداع الأدبي وما يتعلق به من اشكاليات، أي مكامن الفضل وأسباب تقدم هذا الشعر وأصحابه عند النقاد والمتقبلين على السواء، ونحن لا نعتقد ان تناول شعر الحماسة يخرج عن الاحراج الكامن في تحديد سير هذه الرفعة وهذا الاهتمام. ما هي مكامن الطرافة والابداع؟ هل يعود الامر الى مجرد التغني بالبطولات والاشادة بها؟ ام الى ذلك الزخم التخييلي الذي تنتجه الخصائص الفنية؟ يلح النقاد القدامى على أهمية كيفيات القول في الرفع من شأن الكلام، فإذا الشعر عند ابن سينا وهو الكلام المخيل، وعند ابن رشد »ضرب من النحت« والفضل عند الجاحظ في حسن اخراج المعنى في أحسن صورة من اللفظ، لأن المعاني مألوفة. I أهم المعاني في شعر الحماسة شعر الحماسة ببساطة منهجية ومدرسية هو شعر الحرب، فالجذر اللغوي يحيل على التهيؤ للحرب أو حالة الهياج والانفعال النفسي عند خوضها، كما ان فعل »حمس« ينفتح على دلالات أخرى أبعد كمعنى النار ولذلك تنشد معاني الحماسة الى القتل والبطش وما يدور حولهما من مستلزمات كالشجاعة والاقدام، اضافة الى عالم الحرب وما فيه من رعب وأثر المعارك وما فيه من بهجة الانتصار وخيبة انكسار وذلّ الأسر. يتغنى شعراء الحماسة بالبطولات الحربية، ويجعلون الشجاعة والبطش سير تقدم الأبطال على غيرهم، وليس غريبا أن يكون السيف رمز البطولة هو المتقدم على غيره من وسائل الحياة فهو (السيف): »أصدق انباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب« والمجد تبعا لذلك كامن في ما يتركه المرء في حياته من صيت، وسيلته في ذلك سيفه، فالحماسة هي اعادة انتاج لمفهوم الفتى والفتوة عند العرب القدامى وما فيها من معاني القوة والاقدام والأنفة والقدرة على الطعان ف »بذايلي ومهندي نلت العلا« تصبح عند المتنبي: »ولا تحسبن المجد زقّا وقنية فما المجد الا السيف والفتكة البكر«. لقد منح الجوّ العام الذي عاشه شعراء الحماسة الثلاث أي أبي تمام وأبي الطيب وابن هانئ، منح لهم فرصا كبيرة لعيش أيام حرب ووقائع، تقدم فيها الفعل القول، وبرهن فيها الممدوحون على خصال حربية وأنجزوا أفعالا وحبكوا بطولات فريدة. وسرعان ما تلقّف هؤلاء الشعراء هذه البطولات وعبروا عنها في قصائدهم. يقول أبو تمام مادحا خالد بن يزيد الشيباني، قائد جيش المأمون: »ولمّا رأى توكيل رايتك التي اذا ما اتلأبّت لا يقاومها الصّلب تولّى ولم يأل الردى في اتباعه كأن الردى في قصده هائم صبّ« ويشيد أبو الطيب ببطولات سيف الدولة »تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضّاح وثغرك باسم« ويصبح البطل فردا في صيغة الجمع، يفوق الآخرين قوة وحكمة وهو في الاصل أرفع منهم جنسا ودينا، اذ ان المعارك لم تكن بين أميرين أو جيشين، بل هي بين العرب والعجم وبين الشرك والايمان، ولذلك جعل المتنبي سيف الدولة رمز التوحيد: »ولست مليكا هازما لنظيره وللنك التوحيد للشرك هازم« ويشد أبو تمّام فتح عمورية الى لحظة أثيرة في الخيال الاسلامي وهي فتح مكّة وانتصار المسلمين النهائي على قريش: »فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر او نثر من الخطب« ان معاني البطولة الحربية هي مدار شعر الحماسة لذلك تتواتر معاني المدح بها: يقول أبو تمام مادحا أبي سعيد الثغري: »لولا جلاد أبي سعيد لم يزل للثغر صدر ما عليه صدار قدت الجياد كأنهن أجادل بقرى دروبته لها أوكار« أما سيف الدولة فهو عند المتنبي البطل الفريد »أنت الغريبة في زمان أهله ولدت فضائلهم بغير كمال وقد كثرت في شعر الحماسة المعاني التي امتزجت بذكر الوقائع والايام وأسماء القواد والجيوش والأعداء يقول ابن هانئ: »يوم عريض في الفخار طويل ما تنقضي غرر له وحجول الا ان غاية شعراء الحماسة لم تكن مجرد التأريخ لهذه البطولات وتسجيل الوقائع التاريخية، بل الرغبة في الاعلاء من قيمته بالمبالغة في ذكره والحرص على ترسيخه في الأذهان بتكرار ايراده في الأشعار وبتمجيده. وترتفع البطولة تبعا لذلك في مجالها الانساني الى ضرب في البطولة المعجزة، فإذا الأبطال أشبه ما يكون بأبطال الأساطير، فهذا المعتصم يقهر عموريّة التي عجز عنها كسرى والاسكندر وغلبت الدهر »وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها كسرى وصدت صدودا عن أبي كرب من عهد اسكندر أو قبل ذلك شابت نواصي الليالي وهي لم تشب ويتركها خرابا ودمارا تلتهم النيران حيطانها. أما سيف الدولة، فهو عند مادحه أبي الطيب قاهر الجيوش والأقوام. »يكلف سيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم بل هو سيد الموت والدهر. يستعظمون الموت والموت دونه ويستكبرون الدهر والدهر خادمه« بل إنه يقف للموت »وقفت وما في الموت شبلا لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم« ولا نعتقد أننا نستطيع أن نقف عند كل معاني شعر الحماسة لأنها وان اشتركت في كونها التغني بالبطولة وتمجيد منجزات الابطال، فإنها وردت في لطائف المعاني ودقائق تفاصيلها، وهو ما ينفتح بنا على كيفيّات اخراج هذه المعاني، أي الأساليب الفتية التي ميزت شعر الحماسة. II الأبعاد الفنية في شعر الحماسة ان فضل شعراء الحماسة كامن في حسن الصياغة وجودة اخراج المعاني، لأن معاني الحماسة مألوفة تظهر في الايقاع والمعجم والصورة. 1 الايقاع يروم شعراء الحماسة في تغنّيهم بالبطولات والأبطال تخليدهم وتمجيدهم، والارتقاء بهم من عالم الفعل اليومي الفاني الى عالم التاريخ والخلود، لذلك تلعب الوظيفة التأثيرية دورا مهّما، اذ يعمل الشاعر على التأثير على السماع، فينفذ الى الأسماع فالاذهان وذلك عبر الايقاع، فيشدهم اليه، ويضمن بذلك ترسّخ المعاني المنشدة والمنشودة. واستعمل شعراء الحماسة، الاوزان التامة الجزلة الفخمة، للبحور المشهورة التي جرت عليها عيون الشعر القديم، وألفت الاسماع إنشادها. وحسن اختيار البحور الطوال يفسح المجال واسعا للانشاد ويفتح العالم الايقاعي للنص لأن »البحور الطوال للمواقف المشهورة« وهو ما تجلّى من خلال بحور الطويل والمتدارك والبسيط... غير ان جودة الايقاع تكمن في الحقيقة في مستوى الايقاع الداخلي صوتا وصرفا وتركيبا ودلالة: أ الايقاع الصوتي: جوّد شعراء الحماسة الايقاع الداخلي في المستوى الصوتي لحسن اختيار الاصوات في الالفاظ والمفردات، فكانت متجاوبة متعاودة، تكرارا وترديدا وتجنيسا. يقول أو تمام: »بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب« وقال أبو الطيب: »بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم« إن الترديد والجناس كانا من خصائص شعر الحماسة، فالتكرار اللفظي وتعاود الأصوات يحدث نغما وجرسا يصّاعد عند الانشاد فيحدث توقيعا داخليا محبّبا من جهة، ويحاكي الشاعر به صوت المعارك وضرب السيوف وقعقعة الرماح، صهيل الخيل وحمحمة الخيل، حتى كأن الكلام بإيقاعه تصوير صوتي للمعركة. ب الايقاع الصرفي حسن شعراء الحماسة الايقاع الداخلي فاعتنوا باختيار صيغ المفردات فجعلوها متعاودة في مساحات أشعارهم من ذلك قول أبي تمام: »فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت والشمس واجبة من ذا ولم تجب تدبير معتصم بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغب. وقول أبي الطيب البديع في مطلع قصيدته المشهورة. »على قدر أهل العزم تأتي العزائم. وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم« انظر الى تكرار الصيغ الصرفية (تفعل / تفعل فعيل / فعيل فعائل فعائل) من نفس الكلمات، فيستحيل فضاء البيت ضاجّا بالايقاع نابضا بالحياة. ج الايقاع التركيبي: اهتم شعراء الحماسة بالتوازي التركيبي في مواضع كثيرة من اشعارهم فبدا الكلام متناظرا مهندسا بطريقة تحدث في الكلام ايقاعا يذهل السامع ويشده. يقول أبو تمام: »فالمشى همس والنداء اشارة خوف انتقامك والحديث سرار« أما أبو الطيب فيقول: »الدهر معتذر والسيف منتظر وأرضهم لك مصطاف ومرتبع« د الايقاع الدلالي: يتم ذلك بالمقابلة بين صدر البيت والعجز أو ما كان القدامى يسمونه برد الاعجاز على الصدور، ويجعل المقابلة بينهما محدثة لايقاع في مستوى المعنى كقول المتنبي: »فقد يظن شجاعا من به خرق وقد يظنّ جبانا من به زُمعُ« إن الايقاع الداخلي يلعب غاية تأثيرية في الأسماع اذ اضافة الى انفاذه المعاني بسهولة لدى المتقبلين، فإنه يحاكي أجواء الحرب والقتال فيعمق عظمة الممدوح ويرفعها. 2 المعجم يمنح المعجم شعر الحماسة أسس ابداع فريدة، اذ ينوّع شعراء الحرب من الحقول المعجمية في نصوصهم وتتداخل لتنصهر خالقة جوّا شعريا طريق (معجم الحرب والعتاد والعدة / معجم القتال وخطط المعارك وسيرها / معجم القيم). وينفتح هذا التعدد على حقول معجمية بعيدة في الأصل على عالم الحرب، تستدعى من أغراض أخرى كالغزل الذي اندس في مقام الحماسة وهو ما يجعل الكلام لطيفا ومحبّبا كقول أبي الطيب. »نثرتهم فوق الأحيدب نثرة كما تنثر فوق العروس الدراهم« بل ان المتنبي أدخل لغة الحب في عالم القتال من قبيل العشق والزيارة والهوى والشوق... وهذا التنويع في الحقول المعجمية والعدول ببعضها عن مقامه الاصلي، يثري العبارة ويحسّنها، فيقرّب المعاني ويجعل تمثلها هيّنا. 3 الصورة كثّف شعراء الحماسة من استخدام الاستعارات والمجازات، فضخموا المعاني وهوّلوا في الاحداث والوقائع، وهو ما يرفع من مستوى الكلام الى درجات شعرية عالية. يقول أبو تمام: »أوقدت من دون الخليج لأهلها نارا لها خلف الخليج شرار الاّ تكن حصرت فقد أضحى لها من خوف قارعة الطريق حصار« أما المتنبي فيصف الجيش وقد سدّ الآفاق أرضا وجوّا، واختلطت أجناسه وعلا غباره: »خميس بشرق الأرض والغرب زحفه. وفي أذن الجوزاء منه زمازم« وغطت المجازات كل مكونات المشهد الحربي قائدا وجندا وجيادا وأسلحة، فجعلت الصور الممدوحين أبطالا أسطوريين، فهذا سيف الدولة يقاتل. »في جحفل ستر العيون غباره فكأنما يبصرن بالآذان فكأن أرجلها بتربة منبج يطرحن أيديها بحص الران« فهي خيل تبصر بأذانها لأن الغبار الذي تحدثه حوافرها من سرعة ركضها بعطى الفضاء، وهي في سرعتها كالطير قوائمها ببلاد الشام ورؤوسها ببلاد الروم. اضافة الى ذلك فإن الصور ثرية المراجع، فهي تاريخية لأنها تنقل أحداثا ووقائع وأزمنة وأمكنة، غير أنها تتخذ أبعادا أسطورية في مواقع اخرى فإذا الأبطال في محل يفوق درجات الانسان. يقول المتنبي مخاطبا سيف الدولة: »من كان فوق محل الشمس موضعه فليس يرفعه شيء ولا يضع ويتجاوز به الى الألوهية اذا كان ما تنويه فعلا مضارعا مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم ويأتي بأفعال الطبيعة بل ويفوقها ما ضرّها خلق بغير مخالب وقد خلقت أسيافه لها والقوادم أو سقتها الغمام الغرّ قبل نزوله فلما دنا منها سقتها الجماجم« إن الصورة الشعرية في نص الحماسة موغلة في الايهام بتصوير وقائع الحرب عبر محاكاة التفاصيل والجزئيات في قالب سردي تتقاطع فيه الافعال والاقوال والأحوال فاذا النص حكاية شعرية ذات خصائص سردية قصصية تروي بطولات خارقة عجيبة. وهو ما يجعل شعر الحماسة قريبا من فن الملحمة داخلا فيه وان جزئيا. ان كل ما تقدّم، أي الابعاد المعنوية والفنية، يجعل نص الحماسة فضاء تتقاطع فيه الوظائف المرجعية والتعبيرية والانشائية والتأثيرية، وهو ما خلق قوته وكان سرّ الشاعرية فيه. ان حسن اختيار الألفاظ وتوزيعها والعناية بالخصائص النحوية والعرفية فضلا عن الاهتمام بتجويد الصور استعارة ومجازا، تعالقت جميعا لتجعل من نص الحماسة نصا فريدا. وحقق الكلام ما رامه شعراؤه، خلّد الأفعال والبطولات، ولكنه ايضا قهر الموت والفناء، فإذا الكتابة فعل مثل الأفعال المادية للمدوحين، إنّ الحماسة بذلك فعل في اللغة يحاكي فعل البطولة في الواقع، وهو ما تفطّن إليه شعراء الحماسة، ألم يقل أبو الطيب لسيف الدولة: »لك الحمد في الدرّ الذي لي لفظه