وسط رائحة البن والأغاني العتيقة المنبعثة من النوافذ الأليفة في ذاك الحي الهادئ في منطقة غار الدماء من ولاية جندوبة، كانت تسير كوكبة من النقابيين في هدوء يتقدمها الاخ المولدي الجندوبي الامين العام المساعد مسؤول قسم الدواوين والمنشآت العمومية في اتجاه موقع عمل يملؤه أعوان مركزي جندوبةوغار الدماء للديوان الوطني للتطهير مصحوبين بآلاتهم. كانوا بزيهم الازرق يتوزعون على اكثر من شارع للقيام بأعمال جهر قنوات الصرف وشبكات الربط في هذا الحي. دون جلبة أو ضجيج، كان الجميع منهمكا في العمل ينجزون أعمالا عادية في الجهر والشفط ولكنها ايضا اعمال استثنائية. انهم عمال يقومون بأعمال تعوّدوا على انجازها في اكثر من مكان كما تعودت عليها المنطقة، ولكنها استثنائية من جهة انجازها في اطار نبيل هو اطار التصدي لخوصصة بعض انشطة الديوان الوطني للتطهير وسعيا من العمال للحفاظ على عمومية مؤسستهم. نعم ... نستطيع لقد كانت استجابة العمال تلقائية، يقول الاخ سالم العبيدي الكاتب العام للفرع الجامعي للأشغال العمومية والاسكان بجندوبة الذي كان يحدثنا بحماس في مقر الاتحاد الجهوي للشغل... «إن تحركاتنا في التصدي للخوصصة انطلقت على مراحل وتدرجت من العرائض والوقفات الاحتجاجية والشارات الحمراء نحو الوقوف بحسم في وجه تقدم غول الخوصصة والمناولة والافراق. هذا الغول الذي بات يعلن عن نفسه باعتباره التمشي العام داخل مؤسستنا وهو يجرّع على مراحل». وهنا تدخل الاخ سليم التيساوي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل محيّيا جهود النقابة الاساسية في تجميع عمال المؤسسة والاحاطة بهم من خلال شرح كل المستجدات ومن خلال الانصات لوجهات نظرهم حول مراحل خوصصة مؤسستهم... «لقد كانوا محطّ إعجاب، يضيف الاخ التيساوي لإيجابيتهم وامساكهم بناصية أمرهم من خلال التصدي الفاعل لكل العمليات التي تستهدف مواطن عملهم القارّة». وها قد تمكنوا من ايقاف اكثر من فكرة ومشروع في هذا الصدد، وقد كان تحرّك العمال راقيا وايجابيا، وهم يعلمون ان عمليات الخوصصة ستطال عمليات الجهر التي تعوّد الديوان الوطني للتطهير القيام بها، وهي مبادرة تستهدف مباشرة العنصر البشري للمؤسسة والتفويت فيها هو تفويت في أهم عنصر استقطاب لليد العاملة، لذلك اقترح العمال على الادارة ان تتراجع عن طلب العروض الذي كان سيكلف خزينتها اكثر من 40 الف دينار سينالها احد المقاولين مقابل ان يقوم هؤلاء العمال بهذه الاشغال دون المطالبة حتى بأجرة ساعات عمل اضافية على ان ترصد الاموال لإصلاح إحدى آلات العمل الرئيسية المعطبة منذ أشهر، لقد نجح العمال في هذا الخيار النضالي الراقي وهم يعملون ليل نهار من اجل احترام الآجال والجودة. تمرين تطبيقي «إنه تمرين تطبيقي لما يمكن للعمال ان ينجزوه في حال توفّر الارادة، إنهم يتصدون بشكل عملي للخوصصة ويحافظون على مراكز عملهم»، هكذا تحدث الاخ المولدي الجندوبي وهو يطمئن على العمال ويسألهم عن مدى راحتهم وكيف تسير أشغالهم ومدى رضاهم عنها. «إن هؤلاء العمال إنما يلفتون نظرنا ان لا شيء مستحيل وأنه علينا ان نتحرك بشكل فاعل لضبط استراتيجية وطنية للتصدي للخوصصة، انهم يفنّدون تلك المقولات البالية التي ما انفكت بعض الادارات تلوكها لتبرير الخوصصة ومنها ضعف وعي العمال القارين وسوء تعاطيهم مع مؤسساتهم، هاهم هؤلاء العمال يثبتون ان خوفهم على مؤسستهم يتجاوز كل تقدير وهاهم يحمونها بعرقهم، انهم يقدمون نموذجا صارخا لتطور الحسّ الوطني المسؤول لدى عمال القطاع العام». جهود مجتمعة لم تتوقف آلة واحدة ولم يترك عامل موقعه أمام منشأة او رفش فقط تجمعوا للوقوف خلف لافتة ترسم حرصهم على حماية القطاع العام والتصدي لخوصصته، كانوا يستمعون للأخ جلول بلاّلي الكاتب العام للنقابة الاساسية وهو يؤكد ان جهر 70 كلمتر بمنشآتها ليست الغاية إنما الغاية الأساسية هي الحفاظ على عمومية المؤسسة وعلى مواطن العمل والالتزام بلوائح مؤتمراتنا الداعية للتصدي للخوصصة... «إن الخوصصة بدأت منذ مدة عندما امتنعت الادارة عن الانتدابات لتغطية حاجيات الاحداثات الجديدة (محطات تطهير وضخ) «لفتح الباب امام المناولة ولكننا لن ندع هذا الامر يمرّ، إن إصرار العمال على المقاومة كبير، هاهم يأتون من مركز جندوبة لمعاضدة جهود زملائهم في مركز غار الدماء، هذا المركز الذي كان من المفروض ان يشغّل 25 عاملا على الاقل ولكنهم اليوم خمسة فقط يشتغلون به ويجتمعون للدفاع والتصدي» المقاومة قدر «لقد قاوم جدودنا الاستعمار وأخرجوه من هذا الوطن وسنقاوم نحن من أجل الحفاظ على مستقبل ابنائه ومصادر رزقهم. إننا سنتصدى لكل أشكال المساس بعمومية مؤسستنا» هكذا تكلم العامل مهدي عفيات بكل ثقة في المستقبل وفي جهود زملائه ورغم انه في مداخلته أشار الى وسائل العمل التي باتت قليلة وغير مُصانة الا انه لا يحمل أي بذرة يأس أو قنوط في المستقبل بالرغم من أنه كان يتحدث عن (العجلة) الاطار الذي انفلق الاسبوع الفارط وهو وزملاؤه عائدون بعد العمل على متن إحدى الآلات من مدينة غار الدماء الى مدينة جندوبة، فهم لا يتمتعون بوسائل نقل توفرها الادارة، كما ان أيّا من المسؤولين الجهويين للديوان لم يحرّك ساكنا للاطمئنان على صحتهم بعد الحادث وقد كانوا ثمانية انقذتهم الصدفة وحدها مع العناية الالاهية من كارثة مؤكدة، فعجلات هذه الآلات من المفروض ان تتغير كل خمس سنوات وها قد مضى عليها سبع سنوات ولا نيّة في تعهدها فالمركز الجهوي للصيانة يكاد يفتقر لكل شيء. ضرورة الانتداب والصيانة «هذا المكسب العمومي يجب ان يتعزز بالانتدابات الموظفة والمؤهلة»، قال العامل نجيب العيادي، هناك مواطن شغل قارة لا يتم تعويضها ومواطن شغل تعاني من فائض يتم إغراقها بالمناولين من اجل التشويش على السير العادي للعمل «ان محطات الضخّ تتعرض للسرقة لأنها غير محروسة». واصل الحديث متحمسا دون ان ينتبه لزميله الكبلوطي البوزازي وهو يشير لرداءة زي الشغل وعدم توفر شروط الصحّة والسلامة المهنية، كانوا يريدون ان يقولوا كل شيء، كانوا يريدون الحديث عن الخصوصية الجغرافية بمنطقتهم المنخفضة التي كثيرا ما تعاني من الانجرافات والفيضانات والتي تقتضي تعزيز جهود الديوان بها عوضا عن التقليص منها. «لقد كانت هناك نيّة لتوجيه إحدى آلاتنا الضرورية في العمل الى جهة القصرين ولكننا تصدينا لهم» يقول عامل آخر، ويضيف «لدينا آلة واحدة متعددة الاختصاصات لكامل الولاية وآلة الجهر الآلي لم تغيّر قطع غيارها منذ سنة 2000»، كما يقول عامل جاء لتوّه ليدلي بدلوه صارخا «إنهم لا يقدّرون جهودنا في حماية مؤسستنا ولكننا سنواصل في الذود عنها رغم كل شيء». وهنا يتدخل الاخ البلالي ليضيف انه «لا يوجد عمال صيانة في محطة تكلّف انجازها ما يفوق الثلاثة ملايين دينار مما يجعل معداتها عرضة للتلف والنهب وهو ما سيؤثر على المشروع الأكبر في حماية وادي مجردة من التلوث». كانت أحلامهم كبيرة وهم يتسابقون الى الحديث، وكان اصرارهم ثابتا وهم يعاودون التوجه لأعمالهم وآلاتهم مرددين ان أشغالهم التي بدأت منذ أواخر الشهر الماضي ستستمر حتى النهاية، وبالشكل الذي يضمن حسن الآداء والضغط على الوقت ومراعاة الجانب الاجتماعي في علاقة بالمواطنين. كانوا عمّالا استثنائيين آمنوا أن لا شيء يقف أمام إصرارهم ونُبل مقاصدهم في التصدي للخوصصة وما تبقى من مؤسسات القطاع العام، وكان شعارهم «المستحيل ليس قدرنا وايقاف غول الخوصصة ممكن»، لو توحّدت الارادات وضبطت استراتيجيات التدخل والتنسيق.