رغم النداءات السياسية والنقابية للتمسك بالقطاع العام والتراجع عن خيار الخوصصة الذي تنتهجه الدولة منذ سنوات... فإن هذه النداءات مازالت لم تلق صداها ومازالت الدولة تفوّت في المؤسسات العمومية لفائدة القطاع الخاص (المحلي والأجنبي). الأكيد أن للدولة مبرراتها في انتهاج هذا الخيار والتمسك به... والأكيد أيضا أن للأحزاب السياسية والهياكل النقابية الرّافضة للخوصصة مبرراتها التي تجعلها تتمسك بالقطاع العام وتدعو للحفاظ عليه وتدعيمه.. وبين مبررات الدولة ومبررات الرافضين للخوصصة هناك مساحة واسعة من النقاش كان من المفروض أن تتم في مستويات معينة وتشارك فيها كافة الأطراف... ويقدم كل طرف برهانه وحجّته... هذا النقاش لم يتم وما حصل هو مواقف وآراء تنتشر هنا وهناك... نعتقد أنه حان الوقت لتنظيمها وتأطيرها خاصة في ظل ما يوصف بالتحديات التي تواجه بلادنا (ارتفاع أسعار الطاقة وأسعار المواد الأساسية والتشغيل... الخ). هذه التحديات لا يمكن عزلها عن خيار الخوصصة الذي تنتهجه الحكومة منذ نحو عشرين سنة. ونعتقد أن هذا النقاش يجب أن يتم على قاعدة جملة من الأسئلة منها: - هل ساهمت خوصصة المؤسسات العمومية في توفير مواطن الشغل؟ - من المستفيد من الخوصصة؟ وعدّة أسئلة أخرى نعتقد أن البحث عن إجابات لها، أصبح اليوم أكثر من ضرورة. ما الخوصصة... وماهي مبرّراتها؟ ثمّة عدّة تعريفات للخوصصة أهمها أن "الخوصصة هي زيادة الدور الذي يقوم به القطاع الخاص في ملكية وتشغيل وإدارة الوحدات الإنتاجية في المجتمع، بغرض تحسين الكفاءة الإنتاجية لهذه الوحدات، بما يخدم أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية". ويتضمن هذا المفهوم مبررات اللجوء إلى الخوصصة وهو "خدمة أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية". وحسب خبراء البنك الدولي وصندوق التقد الدولي فإن الدول لكي "تتجنب مصاعب خدمة ديونها ومشكلات ميزان مدفوعاتها فإنها تحتاج لإعادة هيكلة اقتصادياتها، حتى تتمكن من رفع تشغيل وتخصيص مواردها ويلزم ذلك مجموعة من السياسيات النقدية والمالية، مع برنامج للتكيّف الهيكلي تأتي الخوصصة من أهم مكوناتها." وبالنسبة لتونس فقد حدد القانون رقم 9 لعام 1989 الذي صادق عليه مجلس النواب الخوصصة كالتالي: "التخلي أو تبادل الأسهم أو السندات التي تملكها الدولة وإدماج أو ضم أو انفصال المنشئات التي تملك الدولة فيها مساهمة مباشرة في رأسمالها والتخلي عن كل عنصر من مكونات الأصول من شأنه أن يستعمل كوحدة استغلال مستقلة في منشأة تمتلك الدولة فيها مساهمة مباشرة في رأس المال". ومثلت التحولات العالمية وضرورة الانخراط فيها مبررات أساسية لانخراط تونس في عملية خوصصة المؤسسات العمومية. هذه المبررات (دفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير مواطن الشغل والانخراط في منظومة التحولات العالمية) تحتاج في حقيقة الأمر إلى عملية تمحيص وتدقيق حتى لا تبقى مجرد شعارات دعائية. فدفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال الخوصصة يفهم منه أن مؤسسات القطاع العام أصبحت تمثل عبئا على عملية التنمية وبالتالي وجب خوصصتها.. وهذا يدفع للسؤال لماذا أصبحت هذه المؤسسات كذلك؟ لقد بني اقتصاد البلاد في جانب كبير منه على القطاع العام الذي مثل أكبر حاضن للتشغيل وساهم في تقدم الاقتصاد وإذا فشلت بعض مؤسسات القطاع العام فإن البحث يجب أن يكون في إدارتها وتسييرها والتصرف في مواردها وليس في فشل القطاع العام عموما. أما الانخراط في التحوّلات العالمية ومواكبتها فلا أحد يرفض ذلك.. لكن هذا الانخراط ستكون نتائجه سلبية إذ تم على قاعدة توصيات ووصفات البنوك العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) لأن هذه البنوك لا تبحث في نهاية الأمر إلا عن مصالح الذين يقفون وراءها ويسطرون سياستها العالمية. الخوصصة ومواطن الشغل هل ساهمت خوصصة المؤسسات العمومية في توفير مواطن الشغل؟ هذا سؤال مركزي نعتقد أن الإجابة عنه ضرورية، ومن المهم أن تقدم الدولة إجابة واضحة عنه. نقول هذا رغم أن الأرقام المتوفرة من مصادر رسمية وأخرى غير رسمية تشير تراجع إحداثات التشغيل في تونس منذ الدخول في خيار الخوصصة، خاصة في القطاعات التي تعرضت إلى الخوصصة: بل إن هذه القطاعات تراجعت نسبتها في الناتج الداخلي الخام: الناتج الداخلي الخام% التشغيل % القطاع 2004 1993 2003 1993 16 18 23 26 الفلاحة 29 34 22 34 الصناعة المصدر: تقرير البنك المركزي (تونس 1993-2003-2004) وإلى جانب ذلك فإن عديد الأرقام تشير إلى ظاهرة أخرى وهي تسريح العمال الذين يصل عددهم حسب بعض الأرقام إلى 10 آلاف سنويا بين 2002 و2004. من المستفيد من الخوصصة؟ الدولة مستفيدة من عملية الخوصصة لأنها تستغل جزء من عائدات الخوصصة لتسديد ديونها الخارجية... لكن وإلى جانب ذلك فإن أصحاب رأسمال هم أكثر المستفيدين والأجراء والعمال أكبر المتضررين. تقول بعض الأرقام أنه منذ تطبيق "الاختيارات الليبرالية للدولة التونسية منذ أواخر الثمانينات ارتفعت مداخيل أصحاب رؤوس الأعمال بنحو 5% (بين 1983 و1999) أما بالنسبة للأجراء فإن نصيبهم من الناتج الداخلي الخام تراجع بنحو 4%. القطاع العمومي مازال أكبر حاضن للتشغيل رغم توجه الدولة نحو خوصصة المؤسسات العمومية فإن القطاع العام في تونس مازال يمثل أكبر حاضن للتشغيل مقارنة بالقطاع الخاص فمثلا: - تشغل الشركة التونسية للكهرباء والغاز 9485 عون قار وألف عون في إطار المناولة. - يشغل الديوان الوطني للبريد 8677 قار و932 في إطار المناولة. - يشغل الديوان الوطني للتطهير 5200 عون. - تشغل شركة فسفاط قفصة 5219 عون قار و1873 في إطار المناولة. - تشغل الشركة الوطنية للسكك الحديدية 4825 عون قار و50 في إطار المناولة. حصة الرأسمال الأجنبي في عمليات الخوصصة حسب أرقام شبه رسمية تمثل حصة الرأسمال الأجنبي من مداخيل الخوصصة فيما بين 1987 إلى فيفري 2005 ما قيمته 1770 مليون دينار وهو ما يساوي 74% من مجموع المداخيل... أما إذا اقتصر الأمر على المؤسسات التي تجاوز سعرها 10 مليون دينار فإن حصة الرأسمال الأجنبي ترتفع إلى 95%. ويحتل الرأسمال الأوروبي مرتبة الصدارة بنحو 43% من مداخيل الخوصصة (...) وتميزت السنوات الأخيرة بتطور ملحوظ للرأسمال الأوروبي وخاصة البرتغالي والإسباني والفرنسي والإيطالي،حيث حصلت شركة secil البرتغالية على مصنع الإسمنت بقابس وشركة umpor البرتغالية على إسمنت جبل الوسط وشركة uniland الإسبانية على شركة إسمنت النفيضة وشركة colacem الإيطالية على مصنع الإسمنت الصناعي التونسي، وشركة eranax السويسرية على شركة المرافق في الصحراء دروس من الخوصصة - إن دور الخوصصة جزء لا يتجزأ من نموذج الانفتاح الليبرالي حيث الكل مرتبط. فقاعدة هذا النموذج هي تمكن البلدان التي اختارته من إنماء صادراتها لكنها بحاجة لأجل ذلك إلى استيراد أكثر مما يعمق عجزها الخارجي ولتغطية هذا العجز يجب جذب الرأسمايل وأحد أبسط الوسائل هو بيع عدد من المنشئات العمومية. - الخوصصة سيرورة سرعان ما تتأزم ففور انعدام ما يمكن عرضه للبيع يتوقف تدخل الرساميل ويدخل النموذج في أزمة. - الخوصصة تستهدف المنشآت التي تسير بشكل جيد في حين تترك للدولة تلك التي تسير بشكل سيء وتكلف كثيرا وذلك حسب الشعار "خوصصة الأرباح وتشريك الخسارة" - يشكل منطق الخوصصة عنصر لا استقرار اجتماعي... إنها فعالية قصيرة الأمد