تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نفي المناضل النقابي حسن النوري وشهداء مظاهرة 8 جانفي 38 ببنزرت ومظاهرة حمام الأنف يوم 7 أفريل
من أسباب حوادث 9 أفريل 1938 للكاتب الصحفي والمؤرخ محمد علي بلحولة
نشر في الشعب يوم 26 - 06 - 2010

كان لحوادث بنزرت التي دبّرها المستعمر، واستبسل فيها العمّال، الصدى البالغ في نفوس الأحرار في كل الجهات والمناطق المنجمية والفلاحية، ممّا جعل الكفاح أكثر شمولا لجميع فئات الشعب المهضوم الجانب. فعلى اثر قرار المقيم العام في 4 جانفي 1938 بنفي المناضل النقابي (حسن النوري) إلى الجزائر تضامنت الجامعة الدستورية مع العمّال والمسؤول عن مكتب اتحاد النقابات المحلّية ببنزرت... وقرّرت القيام بمظاهرة للتعبير عن رفضها لهذه المظالم المستمرّة، التي يرمي بها المستعمر إلى تحقيق مقاصده السيئة..
وكان 8 جانفي 1938 في بنزرت، يوم التضحية والإيمان.. كان فيه العمّال يتساقطون صرعى.. ضحيّة البغي والقوّة الغاشمة في حين كان المتظاهرون يعبّرون عن احتجاجهم ضدّ الظلم والعسف.. فنازلهم المستعمر بالرصاص الغادر.. وذهبت أرواح بريئة، لم يكن في نيّتها أبدا النزال مع العدو. وقد أسفرت الأحداث عن استشهاد: إدريس قاسم (منزل عبد الرحمان) علي العلوي محمد الذوادي صالح بن علي محمد رجيبة جلول المتالي (بنزرت) وايقاف العديد من الوطنيين في بنزرت، يتقدّمهم المناضل الدستوري (الحبيب بوقطفة) الذي كان أوّل سجناء المعركة الثانية التي خاضها الحزب... حيث تمّ إلحاقه بجماعة 9 أفريل ...1938
وكان ما جرى في بنزرت اثر إبعاد حسن النوري من تصلّب استعماري وعدوان غادر سلّطه المستعمر على المتظاهرين المطالبين بحقوقهم في وطنهم، مؤكّدا قرب الإنفجار الشعبي، في كلّ الأرجاء ضدّ المكابرين المعاندين، الذين تجاهلوا الواقع، وهضموا حقوق السكان الأصليين للبلاد من «الأهالي» الذين رفضوا الاستسلام والخضوع للغاشمين الظالمين.
عظم البلاء على الناس بكيفيّة، أيقن معها الشعب، أنّ نيّة نظام الحماية تهدف إلى تقطيع أوصال الحزب، بالقضاء على قادته ورجاله، تباعا بتلفيق التهم ضدّهم، تلفيقا، ورميهم في غياهب السجون والمنافي، ظنّا منها أنّ بذلك ستحقّق أهدافها الخبيثة، المتمثّلة في سحق كلمة «الحرية والكف عن المطالبة بالحق... إلى الأبد..».
من أجل هذه المرامي الدنيئة، عمدت إلى اتهام رجال الحزب وفي مقدّمتهم (الحبيب بورڤيبة) بالتواطئ مع الفاشية.. كما تشبه المقالات الصادرة في الصحف الفرنسية، المتحاملة في معظمها على أبناء تونس.. الذين لم يطلبوا سوى منحهم فرصة التطور والإلتحاق بركب المدنية... للخروج من حياة العبودية.. حيث الشعب بكل طبقاته وفئاته يساق كالأغنام.. مرّة إلى المرعى، ومرّة أخرى إلى المسلخ دون أن تكون له إرادة أو مشيئة.
وأمام هذا الوضع الحزين لم يتردّد شعبنا بعد هذا الظلم المقصود أن يرد الفعل بحكمة ونظام ويثبت في موقفه الشرعي المتمثّل في المطالبة بحقّه مهما كانت التكاليف إلى النصر النهائي الذي سيكون حليف العاملين على تحقيقه والباذلين من أجله كلّ ثمن.
وكان يمثّل هذه السياسة الجديدة.. في تونس المقيم الفرنسي العام «أرمون قيون» (A. Guillon) الذي رضح لأصحاب الامتيازات من جماعة المعمرين الاستغلاليين، الراغبين في زيادة اذلال «العربي» واحتقاره حتى تنهار قواه، ويخنع ويستكين إلى الأبد.
ومن أجل تطبيق هذه النزعة التعسفية ليتم لهم ما أرادوا، أصدر المقيم العام أوامره القاضية بتحجير حرية الاجتماعات وتعطيل حركة الحزب الذي بدأ ينتشر في صفوف الشعب ويتسع نطاقه في كل أرجاء البلاد.
وبعد أن منعت السلطة الفرنسية الاجتماعات العامة.. أوقفت منظميها من الدستوريين.. وحجرت على التونسيين وحتى الصبية منهم حمل «علم بلادهم» رمز شخصيتهم.
ولكن التونسيين، رفضوا مسبقا هذه القرارات الجائرة الظالمة، وقرّروا عدم الرضوخ لهذه الاجراءات مهما كانت التضحيات والتكاليف.
وقام الحزب الحر الدستوري بمظاهرة صاخبة بحمام الأنف أمام القصر الملكي.. وتبعتها أخرى أمام السفارة الفرنسية بالعاصمة.. لما علم بايقاف الوطنيين من الدستوريين (1) الذين أخذت الحكومة الاستعمارية الفرنسية في إيقافهم الواحد تلو الآخر واختلاق التهم ضدّهم.
وكانت مظاهرة «حمام الأنف» تمّت يوم 7 أفريل 1938 بحضور جمع غفير من أبناء الشعب الذين عبّروا عن غضبهم للأعمال الاستفزازية التي يقوم بها المستعمر.
وفي اليوم الموالي 8 أفريل انتظمت المظاهرة الثانية، أمام مقر الاقامة الفرنسية العامة.
ذلك أنّه بعد أن تجمع الشعب في ساحة القصبة صباحا.. خرجت الجماهير من الحلفاوين وساحة الغنم بعد الزوال.. لتلتقي في الحي الأوروبي معبرة أمام مركز الادارة الاستعمارية الفرنسية، عن مطالبها الشرعية وحقوق بلادها في الحياة الحرّة الكريمة.
وتفرق الناس في هدوء وانتظام، ممّا يدلّ علي تعقل ووعي ونضج سياسي.. جعل المستعمر العنيد يحقد على التونسيين ويحاول استفزازهم حتى يتمكّن من تنفيذ أغراضه الدنيئة ونواياه الخبيثة.
وعمد إلى زجّ أحد الوطنيين، الذي كان تزعم تلك المظاهرة السياسية السلمية، التي تمّت في نطاق الهدوء والحق الشرعي لكل بشر أو مجموعة بشرية تطالب بحريتها وشخصيتها.
وكان ذلك العمل العدواني المتمثّل في سجن الزعيم الشاب علي البلهوان (2) يوم 9 أفريل 1938 نذيرا بالهياج والصراخ في وجه المستعمر الحقود (3).
وتزايد الهيجان الشعبي واندلعت المعركة في ذلك اليوم المشهود. وقام الشعب بثورة عارمة أخذته فيها نشوة قدسية، واندفعت الجماهير معبرة عن أمانيها في الحياة ومطالبة بنظام دستوري يضمن لها تلك الحياة في حرية وعيش كريم.
ونادى الشعب المتظاهر في الشوارع والساحات العامة بوضع حدّ للحكم الاستبدادي وانتخاب برلمان تونسي ومنح الحريات لكل المواطنين. إلاّ أنّ القوى الباغية أجابت على هذه النداءات باطلاق الرصاص على الأبرياء العزل.
وانقلبت المظاهرة السلمية إلى معارك رهيبة، أظهرت صمود شعبنا وإيمانه بقضيته العادلة، تعلّقا بوطنه الغالي العزيز مضحيا من أجله بالدم.. حتى يتحقّق له النصر والخلود.
وسجّل الشعر الشعبي هذه المثاليّة. في التضحية لما رفض شعبنا الاستسلام للتحدّي، وصمّم على مواصلة السير في طريقه الشريف بارادة قوية، وعزيمة ثابتة تأبى الخضوع أمام الطغيان.
ووصف الشاعر ذلك اليوم الحزين.. باعتباره يوما مشهودا في تونس العاصمة وشوارعها وأنهجها التي غصّت بآلاف الخلائق، تلك الخلائق الغفيرة من المواطنين التي واجهت رصاص الاستعمار ووقفت صامدة صابرة مؤمنة بنصر الله بعد أن صممت على تغيير ما علق بها من أدران الماضي، ومافيه من تخاذل واستسلام وراحت تنشد العزّة والكرامة لإعلاء كلمة الدين والوطن.
وأقدمت النفوس الأبية على التضحية والاستشهاد في سبيل الله ونصرة الأوطان.. حتى عد ذلك اليوم (يوم الشهداء) في تونس المجاهدة.. باعتباره حلقة الوصل في سلسلة كفاح مرير، بذل فيه أبناء الشعب، ما استطاعوا حسب الظروف السياسية، والاجتهادات الشخصية، لتذليل العقبات الكأداء في طريق الحرية المحفوف بالمخاطر، حيث يتساقط العديدون في ساحة الشرف، يوما بعد يوم، وسنة بعد أخرى.. ومات الكثيرون في ديار الغربة من قبل ومن بعد كما ستبيّنه حوادث الأيّام مشردين بعيدين عن الوطن، بعد أن أملوا رؤيته سالما ينعم بالحرية والكرامة في يوم من الأيّام.
ومازال الشعب التونسي، اليوم وغدا، كما كان من قبل يبدي أروع البطولات في التضحية والاستشهاد لتقريب ساعة النصر.
لقد اندفع الجيش الفرنسي يقتل بدون تمييز، جماهير شعبنا الأعزل من كل سلاح.
واصطدمت قواته الباغية الظالمة بجبهات الشعب الواقفة الصامدة والمطالبة في إباء واعتزاز بالحرية والديمقراطية والبرلمان.
وكانت نتيجة ذلك اشتباكات عنيفة دامية امتدّت إلى «القصبة» وشارع باب المنارة، وباب البنات، إلى باب سويقة.. وغيرها من بقاع «الحي العربي» من المدينة الشهيدة.
لقد خضبت دماء مناضلينا الشهداء أماكن عديدة في العاصمة التونسية، وغيرها من جهات البلاد طولا وعرضا وهي تشهد على إيمان قوي وحماس فيّاض وبطولة نادرة لا تنسى، جديرة بالتقدير والاكبار، ومازال أبناء البلاد، وأجيالها الحاضرة والقادمة يستمدون منها درس التاريخ لاقتلاع جذور التخلّف والقضاء على رواسب الاستعمار، وجذور العهد الماضي البغيض.
سال الدم المهراق، مهرا للحرية والكرامة.. وقربانا للوطن المفدى فباركه الشعراء وأبناء الشعب كلّهم.. الذين أثبتوا بتضحياتهم، صمودا سجله التاريخ الذي لا يمحى من سفر الخلود.. إيمانا منهم بضرورة القيام بالواجب مهما كانت التكاليف، للوقوف في وجه السياسة الممقوتة، التي ظهرت منذ 9 أفريل في أبشع صورها.. وتواصلت فيما بعد.. لتؤكد على أنّ الإستعمار.. كشف عن طرائقه الأصلية ليحافظ على سطوته ونفوذه في هذه الديار، التي عزم أهلها على طرده منها والقضاء على دابره نهائيا... بعد أن اقتحم شعبنا الدواهي والمخاطر، من أجل التحرير الذي يلوح يومه القريب في سماء تونس الحزبية الملبدة بالغيوم.
خرج شعبنا في اليوم المشهود، ليعبّر عن وجوده في وطنه، ويحمي كيانه ويطرد الدخيل الذي أراد إذلاله وإفنائه، بعد أن استفاق من سباته العميق، ونزع عنه ثوب الخمول والتواكل والضعف والاستكانة.
ولم يعد في تونس، مارق أو خادر (4) بعد أن عرف الشعب طريقه، وانطلق في مسيرة شعبية عارمة، للذود عن حمى الأوطان والدفاع عن حقّه المغتصب وكرامته المداسة، وبناء صرح جديد، في بلاده المتطلعة إلى العلياء. وكان تمّ قبل ذلك بيوم واحد، خروج الجماهير إلى الساحات... تتقدّمها طلائع الشباب، بقيادة «علي البلهوان» لتظهر عزيمتها الصلبة، وإرادتها القوية، في تهديم هياكل الاستعمار الغاشم، وأعوانه وعملائه، الذين لا يزالون يكيدون كيدا للتونسيين، ويسعون لسحقهم وإبادتهم...
ومن أجل الحق العزيز بذل الدم الغالي في ذلك اليوم التاريخي العظيم الذي خلد كفاح تونس المجاهدة وشعبها الصامد أمام «الرشاش» في بطحاء «القصبة» و«شارع باب البنات» وغيرها من الأنهج والشوارع بايمان قوي ثابت.
وبذلك كان يوم 9 أفريل شاهدا على انطلاقة رائعة شارك فيها أبناء تونس وحتى النسوة إيمانا منهم بأنّهم يقومون بواجب مقدس نحو الوطن. والذي دعا إلى الاعجاب بهذا اليوم الأغر هو صمود شعب أعزل من السلاح أمام طغاة متجبرين قاسية قلوبهم «فهي كالحجارة أو أشد قسوة».
ورغم بطش العدوان والرد الاستعماري العنيف فإنّ المتظاهرين لم يستسلموا لضربات العدو بل راحوا يردون بالمثل ويقاومون دفاعا عن الشرف. وكان الجنود الفرنسيون يمتطون الجياد ويعيثون فسادا وتقتيلا في شوارع المدينة. وسقط المئات من أبناء تونس ضحية التعسف والبطش والمصالح الاستعمارية الخاصة بكتلة متفوقة تريد لها وحدها الحياة.
إلاّ أنّ الشعب عارضها في مطامعها وصادمها بقوّة مصرا على المطالبة بحقوقه المشروعة وباذلا الروح العزيزة الغالية فداء للوطن.
وتبيّن في هذه المعركة أنّ شعبنا المطالب بحقّه، اجتاز مرحلة كبيرة جدّا من النضج والوعي بمصيره والقدرة على تحمّل المسؤوليات في المستقبل. ذلك أنّ الشعب قد وصل إلى درجة أصبح فيها مضحيا بدمائه، واقفا عاري الصدر أمام قوّات العدو المرعبة.
ويحق لشعبنا اليوم، أن يفتخر بمواقفه البطولية المشهورة أيّام أفريل الخالدة، التي بذل فيها دماء زكية للتحصيل على الحرية.. تلك الحرية «الحمراء» والتي قدم من أجلها شعبنا مهرا عزيزا غاليا.
وأي مهر أعز وأبلغ من بذل الدماء؟
لقد سالت الدماء حتى أصبحت رائحتها تشمّ في «القصبة» وفي غيرها من مناطق العاصمة التونسية، والناس ينقلون المصابين إلى المستشفيات وغيرها من مراكز الاسعاف ونوادي الحزب.
والذين ماتوا في المستشفيات هم الذين دفنوا، أمّا من ماتوا خارجها فقد دفنوا خلسة وتحت جنح الظلام.
ولم يتمّ إحصاء ضحايا ذلك اليوم المشهود، ولم يضبط عددهم نظرا لسرعة سير الأحداث من جهة، ورد المستعمر العنيف من جهة أخرى.
غير أنّ شعبنا الصامد، كان أعنف وأقوى، حيث أحرق حافلات «الترامواي» وهجم على الجند المدجج بالسلاح وهو أعزل مواجها بطش الطغاة بعزم وإيمان.
وحصلت معارك عنيفة ومواقع مشهورة، أحدثت زلزالا كبيرا ودويا هائلا وجوّا غير معهود حتى في واقعة «الجلاّز» عام ,1911 التي لم تكن بهذه الشدّة وبهذا العنف، خاصة في ظرف قصير من الزمن.
ويمكن القول بأنّها أكبر معركة عرفها الاستعمار منذ دخوله إلى أرض المغرب العربي إذ مهدت للأحداث التي تلتها من بعد عام 1944 في الرباط بالمغرب الأقصى وعام 1945 في سطيف بالجزائر.
ذلك أنّ حوادث 9 أفريل بالعاصمة التونسية لم تكن فقط نقطة انطلاق حول تاريخ تونس، بل بداية عملية كبيرة لتصفية الاستعمار في ربوع المغرب العربي وبلاد افريقيا كلّها، بعد أن أقدمت النفوس الأبيّة، على البذل والعطاء فداء للأوطان.
ولقد جسمت حوادث 9 أفريل ,1938 محنة شديدة أخرى، ابتلى بها الشعب وحزبه ورجاله.. فكانت برهانا آخر على الصمود والصبر والعزم على رد سياسة العنف والقمع، التي عاد النظام الاستعماري إلى سلوكها بعد فشل تجربة الحوار التي بدأت منذ شهور قليلة مع حكومة الجبهة الشعبية ومبعوثها إلى تونس في ربيع العام الماضي.
وكان هذا اللجوء الاستعماري إلى العنف والإرهاب يعني سعيا حقودا لتحقيق المطمع الاستعماري، المتمثّل في إسكات صوت الجماهير الشعبية التي دخلت في حلبة الصراع وتسديد الضربة القاضية لها لاخمادها إلى الأبد...
على أنّ ذلك لم يمنع شعبنا الباسل من المقاومة، ممّا زاد في توسيع الحركة الدستورية وتلبية نداءها ممّا قوى اللحمة بين أفراد الشعب كلّه الذي لم يعد مقتنعا بتقديم مطالب معتدلة... بل أفصح عن رغبته وغايته في الحرية والاستقلال مبديا أروع البطولات التي سجلها التاريخ في صفحاته المطوية (1938 1942).
بدأت حملة الاعتقال.. ووقع القبض منذ الرابع من أفريل 1938 على رجال الحزب.. وتمّ إيقاف رئيس شعبة (سوق الاربعاء) وهيئة شعبة الفحص وتواصل زج الوطنيين في السجون بعد أن ألصقوا بهم التهم الباطلة، للقضاء عليهم نهائيا حتى لا يعودوا إلى ما هم مطالبون به.
ولم يكن مطلبهم سوى مطلب صدق وحق، لا يستحق هذا القمع والتنكيل المسلّط على شعب أراد الحريّة والحياة، فأجهزوا عليه بالارهاب، ممّا يثبت العدوان الواضح والأنانية المفرطة التي لا حدّ لها.
ولم تكتف السلطة الفرنسية الاستعمارية بعمليات التقتيل الجماعي بل عمدت إلى إلقاء القبض على قادة الحركة الوطنية وجميع عناصرها. وساقت الكثيرين منهم إلاّ من أفلت بكيفية عجيبة إلى غياهب السجون.
وكان رائد الكفاح (الحبيب بورقيبة) حينئذ ملازما للفراش وقد داهمته حمى المرض فأجهد نفسه للتغلّب عليها بحمى أخرى.. هي أشد وأقدس وأعظم. إنّها حمى الدفاع عن شرف الوطن ومصيره المهدّد بالفناء.
وكان استشهد عدد غير قليل من قبلهم، وتواصل الفداء والعطاء من بعدهم، على مراحل الكفاح الوطني.
وسقط العشرات بل المئات والآلاف، كما سيأتي تفصيل ذلك... وكان كلّ فرد يسقط في ساحة الشرف، حتى يقوم آخر من بعده متصدّيا لضربات الاستعمار القاتل الذي ما استطاع أن يقتل الشعور بالكرامة في نفوس المؤمنين الصابرين عن الأذى والمكاره، طوال السنوات الأليمة من عهد الحماية.
على أنّ يوم 9 أفريل 1938 كان أطول الأيّام وأعسرها. إذ كان بحق يوما عسيرا، لأنّ الشعب التونسي، لم يكن على استعداد لمجابهة العدوان الغادر لصد القوّات العسكرية الغاشمة، فكانت الخسارة جسيمة، حيث ذهبت أرواح طاهرة شهيدة، ضحيّة الغدر والجبروت.
ولم تكن حوادث 9 أفريل ,1938 إلاّ نتيجة «القمع» الواضح، الذي سلطته السلطة المحلية الفرنسية، على التونسيين... دون هوادة ولا شفقة... حتى لا يعود رجال الدستور، إلى الوقوف مرّة أخرى في وجه المهيمنين المتفوقين، الذين أصرّوا على التعجيل بضرب الحركة الوطنية وسحقها، بعد أن أدركوا حقيقتها وغايتها.
ولئن كانت غاية الحركة الدستورية، هي الاستقلال... فإنّ الحزب في تلك الظروف... اقتصر على تقديم مطالب عاجلة، ومعتدلة... تؤكد على ضرورة تمثيل التونسيين في مجلس نواب منتخب والقيام باصلاحات اقتصادية واجتماعية، تخرج بلادنا من حالة التدهور المستمر، والعيش النكيد... حسب ما جاء في مقرّرات مؤتمر نوفمبر .1937
وعلى الرغم من هذه الدعوة المشروعة، المؤدية بالبلاد المستعمرة الى تطوّر مرحلي، فإنّ (الجالية المستعمرة) (المحبّة للسطو والاستيلاء، والمتكالبة بنهم، على خيرات تونس)، قد ضاقت بها ذرعا لما تعلمه مسبقا، من أنّها ستسفر عن ردّ الاعتبار للشعب التونسي، الذي بدأ يسير في طريق الخلاص مرحلة بعد أخرى.
وهكذا، تعطّل السير السلمي للكفاح، بعد أن رضخت سلطة الحماية، لمطالب المعمرين ضاربة بمطالب التونسيين عرض الحائط.. وزادت في التنكيل بهم، أن بادرت بتعطيل الحريات العامّة ومنع الاجتماعات والتظاهرات وقمعها بنيران أسلحتها الفتاكة، ظنّا منها أنّها ستوقف الحركة الوطنية، بعد ضرب قادتها ورجالها.. في حين تناست اكتمال الوعي الوطني وما يسود الشعور العام من عزم وحزم، دفعهم بايمان وصبر، وثبات إلى الصمود في وجه القوّات الباغية، والوقوف باباء وكبرياء، مهما كانت جسام التضحيات لمواصلة مسيرة الكفاح الوطني لتحقيق الطموحات المشروعة للشعب التونسي.
وكانت دماء مواطنينا... التي روت أرض تونس وشوارعها وساحاتها في يوم 9 أفريل... شاهدا على قوّة شعبنا وشبابه خاصة وصموده والتحام صفوفه، وتجمعها وراء حزبها الوطني، الذي أصبح منذ ذلك اليوم، حزبا جماهيريا بلا منازع... استطاع أن يجند كلّ أبناء الشعب لتطالب بحقها، وتبذل من أجل التحصيل عليه أغلى التضحيات.
ويبدو للباحث، من أوّل وهلة، أنّ الحركة الوطنية الجديدة، وهي تخوض معركتها الثانية، منذ انطلاقها في ربيع عام ,1934 قد اعتمدت على فتوة الشباب وعناصره الصاعدة سنة بعد أخرى وجيلا بعد جيل.
وفي هذه الأيّام العصيبة، بالذات يدخل الشباب رمزا ووحدانا في صفوف الحركة المباركة لدعمها وتنميتها شعورا منه بضرورة أداء الواجب خالصا للوطن للتصدّي لأولئك الذين يكيدون له المكائد سرّا وعلانية، في شجاعة وإقدام دون انتظار الجزاء الاّ من ربّ كريم عليم، يرى العمل، ويجزي الصابرين العاملين، خير الجزاء.
ولقد أعطت الشبيبة من رجالات تونس، زادا لا يستهان به، لاذكاء الروح الوطنية، في النفوس العطشى في وقت عسير صعب، تحف به المخاطر والصعاب من كلّ جانب. وتحمل الشباب في ذلك الزمن العصيب، على كاهله، الجانب الأوفر من العمل الوطني، في رويّة، واتزان، وعزم وحزم، يعطي من روحه ودمه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إيمانا منه بوجوب التفاني في خدمة الوطن.
وقد ضمن ذلك، نجاحا كبيرا، للحركة الوطنية، الوثابة الثابتة، والنامية المتجدّدة مع الأيّام، والحريصة على لم شمل شتات الشعب، بفئاته المختلفة وأجياله المتعاقبة، ممّا دلّ على أنّ الخطّة الدستورية ترفض التناحر بين الفئات الاجتماعية والأجيال المتوالية، لتفتح أبوابها، في وجه كل مواطن يبغي خدمة المصلحة الوطنية العليا، إرضاء للضمير وسعيا لتخليص البلاد من الاستغلال الاستعماري، وكلّ مظاهر الفساد، أوّلا وآخرا.
وفي تلك الأيّام لم تعر السلطة السياسية والإدارية، المتمثّلة في السيادة الاستعمارية الفرنسية، التي أخضعت حكومة (باي البلاد) إلي الانقياد والإذعان.. وراحت الحكومة التونسية في ظلّ «الدولة الحامية» تقدّم شواهد الولاء والاخلاص، راضية بما قام به قائد جيش الاستعمار (الجنرال هانوت) (5) من هجوم عنيف على شعبنا الأعزل البريء.
هوامش
(1) من بينهم: سليمان بن سليمان ويوسف الرويسي وصالح بن يوسف ومحمود بورڤيبة والهادي نويرة وغيرهم كثير.
(2) أنظر خطابه يوم 8 (في احتفالات الذكرى) بجريدة L'Action (64/4/9) كان المقيم العام، ينظر إلى الجماهير المحتشدة في ساحة الاقامة العامة (ساحة الاستقلال اليوم) من النافذة.. بمقرّه (دار فرنسا بتونس).
(3) منذ أوائل أفريل ,1938 أصبحت البلاد تغلي غليانا شديدا، بسبب قسوة المستعمر في حوادث بنزرت، والأنباء الواردة عن الثورة الفلسطينية المندلعة منذ ,1936 ممّا دعا الشباب التونسي خاصة.. من شباب الزيتونة، ومعهد الصادقية، إلى التكتّل، وتوحيد الصفوف، وشن إضراب عام، إثر فصل الأستاذ، وزعيمهم «علي البلهوان».. وظهرت جهودهم ونشاطاتهم المنسقة في لجنة الاتحاد الزيتوني المدرسي... لمواصلة الكفاح.. الذي أن أوانه.. حيث تقدّم المئات من الطلبة الزيتونيين في مظاهرة يوم 7 إلى حمام الأنف.. وكانوا يوم ,9 بعد الظهر، وراء (علي البلهوان) الذي دعاه حاكم التحقيق من أجل مظاهرة يوم ...8 حتى كان ما كان... ووقف الشباب التونسي مناضلا يصبو إلى الحياة... فأعلى بذلك منار جامع الزيتونة المعمور.. ومعهده الشهير الصادقية، وخط في تاريخ بلاده صفحة الشباب بالدم والنار، ليفتح باب الحرية ويساهم في فتح الطريق المسدود... نحو الكرامة، والتطور.
(4) إشارة إلى ما نظمه (الطاهر الحدّاد) في قضيّة التجنيس عام ,1923 محذرا في قصيده الرائع، شعبه الماجد من الانخداع بالقرار الفاجر.
(5) صرح الجنرال (هانوت Hanote) بنفسه عن إيقاف أكثر من 900 شخص... من رجال الحركة الوطنية.. على أنّ هذا العدد، قليل جدّا، إذا عرفنا مدى ظلم السلطة الفرنسية، وعساكرها المتوحشة، التي كانت تضرب بعنف في كل مكان.. وتلقي القبض على كلّ من اعترض سبيلها.. وترمي به في السجن أو المحتشد.. بدون محاكمة.
من كتابه زمن العسر 1930 1940 صفحات مطوية من تاريخ تونس
طبع شركة فنون الرسم والصحافة
أفريل 1981


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.