تحيي تونس هذه الأيام الذكرى السبعين لعيد الشهداء في محيط إقليمي وعربي ودولي مضطرب ومتقلب يهدد بتطورات خطيرة قد تعصف بحرية عدة شعوب واستقلال عدة أوطان إضافة إلى تخييم الذكرى الخامسة لسقوط العراق ودخول الماغول الجدد إلى بغداد غازين مدمرين مخربين... وفي مثل هذا المناخ الملبد بغيوم التوترات والنذر والعواصف لا يملك المرء إلا أن يذكّر الأجيال بأهمية هذه الذكرى اليوم وما تستدعيه من واجبات وتفرضه من استحقاقات. لم يكن استعمار فرنسالتونس نزهة رائقة للمستعمر على عكس ما ادعاه المؤرخون والاستعماريون ولقد أثبت الباحثون والمؤرخون والمثقفون التونسيون هبة الشعب التونسي من بنزرت ونابل مرورا بالساحل إلى أقصى الجنوب مدافعين عن وطنهم بما أوتوا من سلاح متواضع محدود وبعزائم شديدة لا محدودة. ولم يقدم الشعب التونسي ونخبه الورود للغازي الفرنسي ولم يبسطوا له البسط الحمراء ليمشوا عليها كما يمشي الديك الاستعماري متبخترا مزهوا وإنما قابله الشعب بالرفض والحقد والدماء فتشكلت منذ أن وطأت أقدام الجيوش الغازية أرض الوطن خلايا المقاومة بكل مدن البلاد وقراها وجبالها وصحاريها واشتبكت معه فأوقعت فيه الخسائر وقدمت الشهداء. إلا أن التفاوت الكبير في موازين القوى بين جيش فرنسي عصري منظم ومجهز بأحدث الأسلحة من جهة وشعب مفقر ومجهّل ومهمش وأعزل من جهة أخرى سرعان ما حسم الأمور مؤقتا لصالح القوات الاستعمارية ودفع الشعب بقيادة الوطنيين إلى العمل السياسي ومحاولة فرض مشاركة المستعمر في الحكم بالمعارضة السلمية استعدادا للمواجهة وطرد المستعمر حينما تنضج الظروف الذاتية. ولقد عرفت تونس أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية عديدة نتيجة الأزمة العالمية لسنة 1929 وتداعياتها وصعود الفاشية 1938 وتشدد الواجهة الشعبية الفرنسية الحاكمة وتهميش الشعب وقياداته. ولئن جاهر عبد العزيز الثعالبي برفضه للمحتل مناديا بالاستقلال فإن الديوان السياسي بقيادة الحبيب بورقيبة واصل المطالبة بسياسة التشريك والسيادة المزدوجة مع المعمر.. وبالرغم من اختلاف المواقف بين زعيمي الحركة الوطنية فإنهما التقيا في التصعيد ضد السياسة الاستعمارية وسلطاتها فرفع الديوان السياسي مطلب برلمان ممثل للشعب التونسي كخطوة نحو التشريك الفعلي للشعب وقيادته بالإضافة إلى دعوة الجماهير إلى عدم دفع الضرائب ورفض الخدمة العسكرية وهي مطالب محرجة للمستعمر ومضعفة له. وأمام هذه الضغوط زجت السلطات الفرنسية بالسجن فيما بين 4 و6 أفريل كلا من الهادي نويرة وسليمان بن سليمان وصالح بن يوسف ومحمود بورقيبة وتصاعدت الاحتجاجات الشعبية فكانت مظاهرات 7 و8 أفريل احتجاجا على الباي والمقيم العام. أما 9 أفريل 1938 فكان يوم المظاهرات الشعبية الكبرى بشوارع العاصمة بلغت أوجها حينما تجمهرت الحشود أمام قصر العدالة. وحينما أراد المتظاهرون اقتحام الباب الأمامي لقصر العدالة أطلقت الشرطة والجيش النار عليهم وتفرق المتظاهرون في اتجاهي باب سويقة وباب منارة واستشهد 14 مناضلا وجرح عدد كبير من المتظاهرين. لقد سقط عشرات الشهداء على أرض الوطن ورووا ترابه الطاهر بدمائهم الزكية يوم 9 أفريل 1938 وكان يوما مفصليا بين الخضوع والاستسلام للمستعمر ومقاومته وطرده. لذلك لم يطل الزمن حتى انطلق الكفاح المسلح منذ 1952 في كافة أرجاء الوطن العزيز من بنزرت (معركة إشكل والكاف(واقعة كهف الراعي) مرورا بنابل (واقعة قليبية 24 جانفي 1952) والمنستير (31 أوت 1954) وصولا إلى قفصة (شهداء جبل سيدي عيش وجبل الروانة المظيلة وعرباط والبارد) وسيدي بوزيد (معركة جبل قولاب ولغريس وجبل قطرانة ومعركة أولاد محمد ومشي بالمكناسي والمالوسي...) الخ وصفاقس وسوسة وقابس (خنقة عيشة بالحامة) ومدنين وتطاوين وقبلي الخ... وسقط في هذه المعارك آلاف الشهداء بلغت حوالي 3 آلاف شهيد عمدوا بدمائهم أرض تونس وخلدوا تاريخا مجيدا نفخر به أمام أنفسنا حاضرا ومستقبلا. لقد استشهدوا من أجل أن نحيا أعزاء كراما في وطننا أحرار أسيادا. ولكن السؤال المطروح اليوم كيف نفهم تضحيات الشهداء واستقلال تونس؟ لابد من التذكير بأنّ الوطن ملك للجميع وليس من حق أي فئة أو جهة أو حزب أن يحتكر تاريخ تونس ونضالات شعبها واستشهاد أبطالها ليصبح الاستقلال مكسبا للجميع ينعم بثماره كافة التونسيين والتونسيات ما عدا الخونة أعداء الوطن والعملاء. وإننا نفهم الاستقلال اليوم أمانة ضحّت من أجلها قوافل الشهداء والمقاومين وبذلك أصحبت هذه الأمانة غير قابلة للتوريث أو التفويت أو المناولة تحت أي مبرر أو ذريعة... أما معنى هذا الاستقلال وثمرته فتتمثل في بناء ديمقراطي للوطن تشارك فيه جميع القوى الوطنية الحريصة على البناء الذاتي للوطن والرافضة لأي تدخل أجنبي أو تبعية أو إرهاب. إننا نفهم الاستقلال اليوم على أنه بناء للمؤسسات الوطنية من خلال تشريك كافة الخبرات الوطنية وتثمين دورها دون تهميش أو إقصاء... والاستقلال تفجير لقوى الشباب الكامنة ورعايتها من خلال محاورتها وإعدادها الإعداد الحر للمستقبل حتى تقدر على رفع التحديات وكسب رهانات التقدم والإبداع... والاستقلال لا يتم دون سحب البساط من تحت أقدام الطابور الخامس المندسّين في كل مكان ومنعطف والمتربصين بالوطن الدوائر والعاملين على إلحاقه بالأجنبي ورهنه له تحت يافطات براقة كالديمقراطية والعلم والتكنولوجيا الخ... وإننا إذ نقدر تضحية شهداء الوطن ومناضليه حق قدرها ماضيا فإانه يسعى إلى المشاركة في احتضان هذه الأمانة الجليلة من خلال السعي إلى تعميق مرتكزات المواطنة وتجذيرها في الواقع ومن خلال ترسيخ قيم المشاركة والحوار من أجل البناء العقلاني والحداثي المطرد للوطن بعيدا عن الانتصارية الجوفاء والرجعية العمياء والانتهازية المقيتة على أرضية وطنية عناوينها الوفاء للوطن والشهداء وصيانة المنجز وتحصين الأجيال من الانبتات والتبعية. فلا خيار اليوم غير المحافظة على الوطن ومناعته من خلال حمل أمانة الشهداء وتضحيات الأوائل عبر التقدم بها وترجمتها إلى فعل يومي يراكم المنتجات والمنجزات أسلوبه الديمقراطية وأداته الوحدة الوطنية وغايته مناعة الوطن وعزته.