مثلما تمنحنا الأفلام الثلاثية الأبعاد فسحة لا متناهية من طقوس العبور إلى الحلم والدخول الى عوالم الخيال أو التخييل، فإنّ عرض »درويش... درويش« بأبعاده الثلاثية، لا التقنية وإنما المضمونيّة، أخذ بأيدي مريديه وعشاقه، فردًا فردًا، ليدخلهم الى عوالم أكثرُ إدهاشًا، عوالم باتت تنأى عنا وتبتعد في أقانيم قصيّة... الشعر والموسيقى والطرب... والادهاشُ لا يتأتّى إلاّ من منبعه... الموسيقار رضا الشمك عازف العود والملحن، درصاف الحمداني التي يفيض صوتها طربًا وجمال المداني المسرحي المتأنق في ذاته... ثلاثتهم اجتمعوا في عرض موسيقى شعري طربي ارتفعت أوتاده بألف باء الشعر من منبعه الحداثي محمود درويش وألف باء الموسيقى من منبعها الحداثي أيضا، سيد درويش، فتعانقت مجازات شعر درويش بجمُل درويش الموسيقية عل ركح المسرح الاثري بقرطاج في عرض ضمن البرمجة العامة للدورة 46 لمهرجان قرطاج الدولي لصائفة 2010. ومن خلال الاداء المسرحي والاداء الموسيقي باعتماد تقنيات ومؤثرات صوتية وضوئيّة ومن قلب المسرح الاغريقي بملابسه وقيافته تقاطرت القصائد والاغاني على جمهور لم تبْق منه إلا الجثث الهامدة فوق المدرجات الباردة للمسرح، حيث انسلّت الخيالات وتحلّلت في الفضاء اللامتناهي لعوالم الشعر والموسيقى. على هذه الارض، فكر بغيرك، البحر بيضحك، مديح الظل العالي، شد الحزام، يا ورد يا فل يا ياسمين، أنا هويت وانتهيت، درس من كاماسوترا، هناك عرسٌ، زوروني، جدارية، طلعت يا محلا نورها، جازة قصيرة، الحلوة دي، قصيدة الخبز، أهو دا اللي صار، الزنبقات السود في قلبي، سالمة يا سلامة، يطير الحمام... أغانٍ وقصائد تدحرجت من صوت جمال المداني (إلقاء) ودرصاف الحمداني (غناء) ومن بين أصابع رضا الشمك (موسيقى) تدحرجت مثل حب الكهرمان لتشعّ بنورها على مسرح ركح قرطاج وترتفع به من الدرك الأسفل »للتطبيل والتزمير« وتُعليه في درك أعلى من النقاوة الموسيقية والكلمة الشفافة.. عرض درويش درويش، هو لا محالة مغامرةٌ فنيّة ومجازفة ابداعية أقدم عليها الثلاثي... مغامرة لم تنجو من السقوط في بعض الهنات التي كان من السهل تفاديها كاختيار النصوص الشعرية، إذا كان من المستحسن أن تُلقى بعض القصائد غير المستهلكة لمحمود درويش، وكذلك كان من المفترض برضا الشمك أنّ يلحن قصائد أخرى غير تلك التي لحنها مرسال خليفة لئلا يجد نفسه في وضع المقارنة، ومن المفترض أيضا أن يلحن قصائد خاصة بالعرض لا أن تُعيد درصاف الحمداني الأغاني التي لُحنت لصوت الفنانة لبنى نعمان واشتغلت عليها مع رضا الشمك طيلة سنتين... وكانت لهما عروض منذ سنة 2008 .. أمّا جمال المداني، مُدلّل خشبة المسرح وعاجن طين اللغة فكان بإمكانه أن يطوّع لسانه بشكل جيّد ليقيه عثرات الشكل ويمنحه دفقات الإلقاء الشعري... اما درصاف الحمداني فإنّ قدراتها الصوتيّة لا تغفر لها »برودها« الركحي خاصة أنّ العرض صنّفه منتجه على أنه مسرح غنائيّ. لا أتذكر من قال أن صوت فيروز يجبُ أن يُباع في الصيدليات مثل الدواء، لا أتذكر من هو صاحب هذا الدواء ولكن أضمّ صوتي له وأقول بأن عرض »درويش درويش« عرضٌ يستحق أن يأخذ صفة الدواء لكل أذن أُثخنت بالأدران، دواء يجب أن لا تغفل عنه وزارة الثقافة ليكون حاضرا في التظاهرات الثقافية والفنية... دواء يجبُ أن يُعدّل المدّاني والشمك والحمداني في تركيبته الفنيّة لتكتمل نجاعته ويبلغ ابداعه ذروته.