غادرنا الطاهر وطّار يوم 21 أوت وكأنه يتحدى الزمن إذ أنه من مواليد شهر أوت عام ,,6391. أي عام قيام «الجبهة الشعبية» في فرنسا التي كادت أن تفضي الى تحرير الجزائر. هم الطاهر وطّار الأوحد كان الحرية مع لما من شخصيته من تناقض وقدرة على الجدال وفتح المعارك والمبادرات الطوبوية فإن كان أنموذجا للمثقف الملتزم، فهو معروف ب «دون كيشوت» الادب والثقافة والسياسة في الجزائر. طوبي وطيب المعشر، حالم رومنسي متشنج ومتميز في المشهد الثقافي والسياسي اذ رغم خلافه مع المؤسسة السياسية الحالية بالجزائر فقد قرر رئيس الدولة أن يدفنه في مقبرة الشهداء وحضر موكب تأبينه كل من كان على خلاف معه. استفزازي حتى النخاع، صاحب مشروع فكري بحث من خلاله على تموقع سياسي فهو الشيوعي الذي أخفى شيوعيته عن جبهة التحرير ليختتم حياته مدافعا عن الدين بعد ان ترأس اذاعة القرآن الكريم. والطاهر وطّار تربطه بتونس علاقة عضوية... وبجريدة الشعب علاقة الصنو للصنو. فهو الذي تعلّم بتونس، وتمرّس في الصحافة في بلدنا ونشر فيها أول نصوصه. وعلاقته بالشعب انه من بين الصحف المشاريع الطوبوية، أسس في الجزائر جريدة الشعب. زيارة المزار: موقعه الرسمي على الانترنات الذي سماه مزارا في حياته: «هذا موقعي وهذا مزاري أعددته بنفسي كي أقترب منكم أكثر فأكثر أنتم الطلبة والباحثين والمهتمين بالأدب ورجالاته أشعر وأنا أنهمك في اعداد هذا المزار أنني أعد قبرا شبيها بقبور الفراعنة الغاية منه ان نتواصل مع الأخرين عبر الزمن انني عندما أكتب أفعل ذلك لأتوحّد مع الكون بكل ما فيه، ستتعرفون علي شيئا فشيئا فليس من السهل ملء هذه الفراغات...». هذا هو الطاهر وطّار الذي يشبه أبطال قصصه ورواياته يقول الطاهر وطّار على نفسه «همّي الاساسي هو الوصول الى الحدّ الاقصى الذي يمكن ان تبلغه البورجوازية في التضحية بصفتها قائدة التغييرات الكبرى في العالم ويؤكد أنه هو» في حد ذاته التراث وبقدر ما يحضره «بابلونيرودا» يحضره المتنبي وأن معتقدات المؤمنين ينبغي ان تحترم أدبه. الطاهر وطّار التونسي: كانت الصدفة وحدها عرفتني على «عمّ الطاهر». بيروت 9791 كنت أعمل بمكتب الجامعة العربية ببيروت كمساعد للمرحوم حمادي الصيد... كان اللقاء بنزل «فينرهاوس» أين كنت أقطن وتفطنت ان الطاهر وطّار وواسيني الأعرج يقطنان غرفتين مجاورتين لغرفتي وذلك عن طريق الصافي سعيد الذي كان يعمل بجريدة الدستور الذي كان قد أفرد له دراسة شاملة في مجلة «الكاتب الفلسطيني» بعنوان الطاهر وطّار روائيا كشوفات تشريحية في التاريخ والمرحلة في 32 صفحة حلل فيها المرحلة الاولى من اعمال الطاهر وطّار. مكث الطاهر وطّار ثلاثة اسابيع كنا نلتقي يوميا مع الرسام مصطفى الحلاج والشاعر شوقي بغدادي وغيرهم كان يراجع روايته «عرس بغل» ويؤكد دوما انها «عرس بْغَلْ» وليس «عرس بَغْلٍ»... والطريف وأنا أقرؤها أعيش تونس حيث تدور أحداثها في المدينة العتيقة... ربما متذكرا حياته في تونس... ولا أنسى الفصل الذي يقوم فيه الشيخ الزيتوني بخطاب في بهو الماخور يؤطر فيه المومسات للدخول في دين الله. كنا نتحدث عن تونس وعن تاريخه في مدينتنا فقلت له يربطك بصالح القرمادي أمران : الاثنان كنتما مؤذنان والاثنان شيوعيان وقلت له... صالح القرمادي الشيوعي يدرس القرآن في كلية الآداب مطبقا نظريات «مرتيني» في الألسنية بعدها بأسبوع لما صدرت «عرس بْغَلْ» أهداها له كما أهداني واسيني الأعرج أحد رواياته لكن لم تصل الروايات لصاحبها لأنني كنت دوما أنساها حتى وصلني خبر وفاته. يقول الطاهر وطّار أنا تونسيّ ومدين الى تونس بحسي الأدبي وصقل لغتي، ففي مطلع الخمسينات التحق الطاهر وطّار بتونس في مغامرة شخصية وفي عام 4591 درس في جامع الزيتونة وانظم الى جبهة التحرير عام 6591 حيث كان مكتب قيادتها في نهج الدباغين غير بعيد عن جريدة الصباح التي كانت مقرها في البناية التي يحتلها اليوم نزل الهناء وتطبع في جريدة لابراس. التحق بجريدة الصباح حيث اصبح محررا بها مع «أحمد الميلي» الامين العام السابق للالسكو وانغمس في الشارع الثقافي التونسي حيث نشر نصوصه الاولى في جريدة الصباح وجريدة العمل وفي أسبوعية لواء البرلمان التونسي وأسبوعية النداء التي شارك في تأسيسها ومجلة الفكر التونسية وكان على اتصال بالشيوعيين التونسيين (وقد أتى ذلك في فصل من مذكراته لم تصلنا لحد اليوم نشر في جريدة اخبار الادب). واستهواه التيار الشيوعي الماركسي فاعتنقه وظلّ يخفيه عن جبهة التحرير الوطني رغم انه يكتب في اطاره. حبه لتونس واعترافه لها أسوقه في هذه الواقعة: «في أواخر الثمانينات رنّ الهاتف واذا به عمّ الطاهر على الخط طلب مني الالتحاق به في أحد النزل ولما حضرت لم ينزل وقال لي: قدمت منذ 42 ساعة ولم أغادر الغرفة حتى أتحصل على رقمك، لن أخرج للشارع الا بعد ان أذهب الى «الجلاز» وأقرأ فاتحة على قبر «سي الهادي العبيدي» المعلم الأول وهكذا فعلنا ثم رحنا الى المدينة العتيقة ومررنا بماخور «عرس بْغَلْ» الذي تحول الى نزل يؤمه الجزائريون الذين تقبع سياراتهم في الساحة غير البعيدة... ساحة «مدق الحلفاء». هذا الطاهر وطّار التونسي أعماله: أدب الكشف والتنبؤ كنت أتحسب عندما أشرع في قراءة الروايات الجزائرية المكتوبة بالعربية خوفا من الصدمة أنا المعجب بالادب الجزائري المكتوب بالفرنسية بعد ان اكتشفت «كاتب ياسين»، «مولود فرعون» وبما علمني صالح القرمادي وهو يترجم «سأهبك غزالة» «لمالك حداد» الى مدى عمق وبساطة الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية وكنت في سذاجة مفرطة أعتقد مع الاصدقاء الجزائريين الفرنكفونيين بأن الذين يكتبون باللغة العربية في الجزائر هم رجعيون وبذرة للأصولية ولما قرأت «اللاّز» وكان ذلك في أماكن أحداثها بقسنطينة اصبحت مدمنا على أدب الطاهر وطّار ذلك الرجل الذي درس في معهد الامام عبد الحميد بن باديس وهو البربري لغة الام المدافع بشدة عن اللغة والثقافة العربيتين. ألف الطاهر وطّار ثلاث مجموعات قصصية : «دخان من قلبي» (تونس 1691) «الطعنات» (1791) «الشهداء يعودون هذا الاسبوع» (4791) ومسرحيتين : «على الضفة الاخرى» و «الهارب» المنشورتين في مجلة الفكر أواخر الخمسينات، كما صدرت له عشر روايات عناوينها تدل على محتواها : «اللاّز» (4791)، «الزلزال» (4791)، «الحوّات والقصر» (1891)، «العشق والموت في الزمن الحراشي» (2891)، «تجربة في العشق» (9891)، «رماته» (1791)، «الشمعة والدهاليز» (5891)، «الولي الطاهر يعود الى مقامه الزكي» (9991)، «الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء» (5002). وقد ترجمت أعماله الى عدة لغات، كما أن جمهور مهرجان قرطاج السينمائي يعرف فيلم «نوّة» الجميل الذي اقتبسه محمد الطلبي عن احدى رواياته. أترك للمختصين تحليل أعماله وآمل ان تبرمج جامعاتنا اعماله، غير ان أدب الطاهر وطّار يمتاز بالجرأة والتنبؤ وتحدي الموت، يقول أحد النقاد (إياد نصّار الدستور الأردنية) «ليس من الغريب أو من المصادقة أن الكثير من عناوين رواياته ومجموعاته القصصية تصلح لتأبينه في هذه المناسبة فالموت كان ومازال هاجسا كبيرا في أعمال وطّار فبعد ان «رفع الولي الطاهر يديه بالدعاء» انطفأت «شمعة الدهاليز» وانتقل الى «مقامه الزكي» ولكنه «سيعود مثل الشهداء هذا الأسبوع» الى الحياة بوصفه أحد المبدعين العرب الكبار. وقد تنبأ الطاهر وطّار بالحرب الاهلية وطلوع الأصوليين من خلال روايته الشمعة والدهاليز فيقول: «كنت أتحاور مع الكاتب الجزائري يوسف السبتي عن بعض خيوط الرواية التي هو نفسه بطلها الرمزي، وكان رفيقي اليومي... واختلف معه حول نهاية رحلة البطل وكنت أفضل أن يموت مذبوحا وهو كان يرى غير ذلك وأنهيت كتابة الرواية وفقا لما رأيت وبعد نهايتها هجم على الصديق القتلة ليلا في بيته وذبحوه بين كتبه ومؤلفاته وأوراق مشاريعه. الطاهر وطّار مؤسس الصحف وأهمها «الشعب»: لم تكن علاقة الطاهر وطّار مع السلطة علاقة احتواء فكان ناقدا مفصحا برأيه حيث عارض الانقلاب على «هواري بومدين» الزيتوني مثله وعارض بشدة اطلاق إرهابي على الاسلاميين ورفض وعارض نتائج انتخابات 2991 وكان يؤمن بالصحافة حيث تمرّس عليها في تونس اذ تعلّم فنون الطباعة وشارك في تأسيس جريدة النداء، فقد أسس عام 2691 أسبوعية «الاحرار» بمدينة قسنطينة وهي أول أسبوعية في الجزائر المستقلة وفي عام 3691 أسس اسبوعية الجماهير في العاصمة الجزائر أوقفتها السلطة وفي عام 3791 أسس جريدة الشعب وأسبوعية الشعب الثقافي أوقفتها السلطات عام 4791 لأنه حاول ان يجعلها منبرا للمثقفين اليساريين. ورغم انه شغل منصب مدير عام للاذاعة الجزائرية عامي 1991 و 2991 ومدير لإذاعة القرآن الكريم في آخر حياته وهمش في ما بعد ليكرس حياته للعمل النقابي التطوعي وهو يرأس ويسير الجمعية الثقافية الجاحظيّة منذ عام 9891 وقبلها حوّل بيته الى منتدى يلتقي فيه المثقفون كل شهر.