«كلّ ما لديّ قلته في نصوصي فماذا تفعل بحوار مع شيخ مرهق مثلي؟ ثمّ إنّك تريد منّي أجوبة عن أسئلتك، فمن أين آتي بها وأنا لا أملك إلاّ المزيد من الأسئلة؟» هكذا قال لي باسمًا ذات يوم وأنا أحاول استضافته في أحد برامجي التلفزيونيّة.. ثمّ استجاب للفكرة، مثل كلّ مثقّف عضويّ يعرف أنّ الكلام على الكلام أصبح جزءًا من الكلام.. شَرْطَ أن يجد من يقدّره حقّ قدره.. وظللنا نبحث عن ظرف مناسب كي نحدّد موعدًا للتصوير.. ومرّ الزمن.. إلى أن وافته المنيّة قبل أيّام.. ليبقى الموعد مرجأً إلى الأبد. تلك آخر ذكرى لي مع الطاهر وطّار.. ذكرى هي في الوقت نفسه حلم لم يتحقّق.. أحتفظُ بها في شرخ من شروخي العميقة.. حيث تتحوّل الأحلام إلى ذكريات لفرط ما لم تتحقّق.. وحيث أُقاوم اليأسَ بالكتابة، للإبقاء على مسافة من الأمل تفصل بين الذكريات والأحلام.. هذه المسافة الفاصلة الواصلة بين أطراف تبدو متناقضة، كانت ملعب الطاهر وطّار المفضّل.. ولعلّ النجاح كان حليفه أغلب الوقت في الإمساك بخيوط المعادلة التي قد يجوز لي أن أنسبها إلى مفهوم المثقّف العضويّ التي ذكرتها قبل قليل، لولا أنّنا في ما يتعلّق بالطاهر وطّار أمام «عضويّة» غير مستوردة، أي أنّها عضويّة «وطّاريّة» نابعة من قناعة صاحبها مترسّخة في ثقافته: لم يترفّع عن النضال السياسيّ ولم يجعل أدبه بوقًا سياسيًّا.. لم يجعل من الأدب صومعة يعتزل فيها الكاتب الشأن العامّ باسم صفويّة مزعومة، لكنّه لم يصبح عبدًا للسياسة.. انفتح على العالم وعلى آدابه لكنّه رفض بشراسةٍ الانخراط في تيّار الفرنكوفونيّة.. شارك في الحركة الوطنيّة وعانق أحلامها، وحين انكسرت أحلام كثيرة بعد الاستقلال لم يركب الموجة ولم يركن إلى الاستقالة، بل فضّل أن يخوض «حرب مواقع» دائمة دفاعًا عن أحلامه.. وكان من الطبيعيّ لكاتب بهذه الصفات أن يثير بعض اللغط، وأن تصطدم قناعته بقناعات الآخرين، وأن تتوتّر علاقاته بجانب من الوسط الثقافيّ، خاصّة في بيئة تتجاذبها الثقافات البربرية والعربيّة والفرنسيّة، وأن تكون له في هذا السياق مواقف قابلة للنقاش من عدد من الكتّاب مثل رشيد بوجدرة والطاهر جاووت وحتى مالك حدّاد.. إلاّ أنّه سرعان ما كان يغادر المهاترات ليشير إلى همومه: الانحياز إلى الحريّة والتنوير ضدّ الطغيان والتطرّف، والانطلاق من وجدان الشعب مهما كانت اللغة المستعملة، والوقوف في وجه إغراءات التوظيف والاستلاب، والإخلاص للأدب دون ترفّع عن قرّائه. على هذه الأرضيّة قامت مدوّنته الروائيّة والقصصيّة.. ومنها انطلقت مغامرته الأدبيّة الرائدة المجدّدة المتجدّدة التي تجلّت كأبهى ما يكون في أعمال مثل «اللاز» و«الزلزال» و«الحوّات والقصر» و«عرس بغل» و«العشق والموت في الزمن الحراشيّ» و«الشمعة والدهاليز» و«الوليّ الطاهر يعود إلى مقامه الزكيّ» و«الوليّ الطاهر يرفع يديه بالدعاء» وصولاً إلى آخر أعماله «قصيد في التذلّل». في كلّ هذه الأعمال نلمس وعيًا شديدًا بشروط الأدب، يرفده وعي شديد بشروط المواطنة.. مع حرص على أن تظلّ المسافة بين الأديب والمواطن شبيهة بشعرة معاوية.. ولعلّه لم يذهب إلى غير ذلك حين قال في أحد حواراته الصحفيّة ما معناه: «انّ المثقّف كوكب صغير يدور في فلك كوكب كبير هو مجتمعه وشعبه.. ما إن يكتسب الإنسان معرفة زائدة على تلك التي اكتسبها مجتمعه وشعبه حتى تحدث بينه وبين شعبه مسافة.. هناك من يتفاعل مع هذه المسافة بمحاولة الارتباط بوجدان هذا الشعب والعودة إليه باستمرار، وهناك من ينسى نفسه حتى يفقد الجاذبيّة ويضيع..». «فقدان الجاذبيّة» و«الضياع» موضوعان من المواضيع الأساسيّة التي فضحها وواجهها وعالجها الطاهر وطّار في معظم أعماله.. بطرق وأساليب مختلفة، مرّة بشكل واضح ومرّات بشكل ضمنيّ. ولا أدري هل كان لهذين الموضوعين حضور في ذهنه وهو يغالب الموت، ثمّ وهو يرحل رحلته الأخيرة أعزل وحيدًا، إلى حيث لا فرق بين شدّ وجذب ولا فرق بين مهتدٍ وضائع.. لكنّي لا أشكّ لحظةً في أنّ رواياته سيبقى منها الكثير.. مشدودًا إلى جاذبيّة الحياة عصيًّا على الضياع.