قيس سعيّد: نحو منع المناولة في القطاع العام وحلّ شركة الاتصالية للخدمات    عاجل/ رئيس الدولة يفجرها: "لا أحد فوق المساءلة والقانون..ولا مجال للتردّد في إبعاد هؤلاء.."    عاجل/ 6 سنوات سجن في حق هذا النائب السابق بالبرلمان..    عاجل: الإفراج عن 7 موقوفين من قافلة الصمود وتحيين قائمة المفقودين    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي..    درة ميلاد تدعو إلى تنويع السياحة وإنقاذ قطاع الفنادق في تونس    تحويلات التونسيين والسياحة تغطي أكثر من 80٪ من الديون الخارجية    121 حريق تسبّبت في تضرّر أكثر من 200 هك منذ بداية جوان: إقرار لجان تحقيق مشتركة للبحث في ملابسات اندلاع الحرائق    ترامب يهاجم ماكرون بعنف: ''لا يعرف سبب عودتي... ويُطلق تكهنات لا أساس لها''    اشتعال النيران في 36 شاحنة في برلين...تفاصيل    كاس العالم للاندية 2025 (المجموعة4-الجولة1): الترجي الرياضي ينهزم امام فلامنغو البرازيلي صفر-2    كأس العالم للأندية : برنامج مباريات اليوم الثلاثاء    لاتسيو الإيطالي يجدد عقد مهاجمه الإسباني بيدرو رودريغيز حتى 2026    الطقس اليوم: حرارة مرتفعة..وأمطار مرتقبة بهذه الجهات..    موعد إعلان نتائج البكالوريا 2025 تونس: كل ما تحتاج معرفته بسهولة    عدد ساعات من النوم خطر على قلبك..دراسة تفجرها وتحذر..    إلى حدود 15 جوان: تجميع حوالي 3.51 مليون قنطار من الحبوب    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي ينهزم أمام نادي فلامينغو البرازيلي    رونالدو يهدي ترامب قميصا يحمل 'رسالة خاصة'عن الحرب    ولاية تونس: جلسة عمل للنظر في مشروع إنجاز المعهد الثانوي بالعوينة 2    انعقاد جلسة عمل اللجنة القطاعية للبيئة في إطار إعداد المخطط التنموي 2026-2030    طقس اليوم: خلايا رعية محلية مصحوبة ببعض الأمطار بهذه المناطق    كيف سيكون طقس اليوم الثلاثاء ؟    ‌الجيش الإسرائيلي: قتلنا رئيس أركان الحرب الجديد في إيران علي شادماني    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي    هجوم إيراني جديد على تل أبيب وأميركا تنفي المشاركة بالقتال    ملتقى تونس الدولي للبارا العاب القوى (اليوم الاول) : العناصر التونسية تحرز 9 ميداليات من بينها 5 ذهبيات    السفارة الأمريكية تعلن تعليق عملها وتعذر إجلاء مواطنيها من إسرائيل    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية لفريق فلامينغو في مواجهة الترجي    فوكس نيوز: ترامب طلب من مجلس الأمن القومي الاستعداد في غرفة العمليات    ماكرون.. ترامب أبلغ زعماء مجموعة السبع بوجود مناقشات للتوصل إلى وقف إطلاق نار بين إسرائيل وإيران    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    إسناد العلامة التونسيّة المميزة للجودة لإنتاج مصبر "الهريسة" لمنتجين إضافيين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في التّحالف التّقني بين سلطان رأس المال ومؤسسات الدعاية والإشهار
نشر في الشعب يوم 02 - 10 - 2010

حين تصبح الصورة طرفا علا في مضاعفة الغربة والاستلاب الوظيفة الاساسية للاشهار تكمن في إكساب الجماهير عادات كلب بافلوف مؤسسات الاشهار نموذج لصناعة تقنيات المغالطة والخداع والتزييف لم يعد هناك غير بعد واحد للانسان ماثل في كل مكان وتحت تبني الاشكال الصيغ الاشهرية الأكثر براعة تخفي رؤية للعالم علي زروقيبدو أنّهُ بقدر ما تتضخّم هياكل وبنى مجتمعات رأس المال وتزداد نجاعة في تبرير »القانون الطبيعي« للتنافس من أجل الملكيّة، الثروة والربح، بقدر ما يقف البشر حائرين في مواجهة تعدد أشكال المعاناة لشتى تلاوين الاغتراب الفكري والوجودي تخصيصا في ظلّ تنامي سطوة التحالف التقني بين رأس المال وحضارة الصورة والمشهد.
إنّ ما يشدّ الانتباه حقّآ في هذا السياق هو تعدّد المفارقات والازمات التي تخترق حضارة الصورة وتعاظم نفوذ رأس المال، ومن الملاحظ أن رأس المال التّجاري والصناعيّ والماليّ يؤمّن سلاسة مصالحه الحيوية من خلال التنظيم النسقي والعقلاني لصناعة تقنيات المغالطة والخداع والتزييف التي تحكم دينامية تداول تقنيات الإعلام الجماهيري عموما، ومؤسسة الاشهارخصوصا.وهكذا يصبح التحالف بين رأس المال وإنتشار تقنيات الصورة اعلانا عن عصر جديد لظهور الانساق الايديولوجية التي تماثل في طريقة تسييرها للوظائف الاجتماعية الأساسية ظهور الاساطير والمعتقدات الخرافية الخيالية في النظم الاجتماعية والاقتصادية القديمة وعليها فإن ذلك يرتبط في المؤسسة الاجتماعية الراهنة بتأويج الاستفادة من التراكم التاريخي للمنجز العلمي والتقني (La maximisation des acquis scientifiques et technologiques).لقد مثّل تعاقب الثورات الكبرى في صورة الحداثة سندا للنظم الاجتماعية والاقتصادية لتشهد تغييرات نوعية في رؤيتها للعالم وتحديدا في أساليب وتقنيات التحكّم والقيادة والسيطرة على الاشياء والهيمنة على البشر، فمن ثورة الطباعة ونشر الكتاب إلى ثورة الصناعة والطاقة وصولا الى الثورة الاعلامية والإلكترونية وحينئذ يصبح بإمكان رأس المال أن يتبجح في خيلاء بأنّه تمكن من بناء ترسانة مؤسساتية وقانونية تشرّع له تداول شعارات »الانتفاع الجماعي بنعيم الرّفاهية المادية« و»تعميم الحلم بفرحة الحياة« و»التنافس الخلاق من أجل حياة أفضل« لكن في مقابل ذلك من ذا الذي يكلف نفسه عناء فضح استراتجيات وتقنيات الخطابة الجديدة التي أضحت مسيطرة على المؤسسة الاقتصادية والاجماعية الحديثة.وعندئذ، كيف يمكن للمرء أن يمسك على نفسه التخفّي وراء اسوار الصمت لتبكيت كلّ محاولة نقدية جريئة تلزم تشخيص الأكاذيب والتمثلات الزائفة المساوقة للشعارات اليافعة والبراقة التي اضحت تسيطر اليوم على آليات اشتغال الخطاب الرّمزي والمرئي في مؤسسات الدّعاية والإشهار.بأي ذريعة يمكن للمرء أن يتذرّع لكي يلوذ بالصمت تبريرا لانتشار »آيديولوجيا لغة الصورة« وما قد تخلفه في الحياة اليومية للجماهير العريضة من معاناة واقعية لشتى مظاهر الاغتراب كما يتجلى ذلك في تشخيص »هاربارت ماركوز« لواقع الانسان في المجتمعات المتقدمة تقنيا وصناعيا وفي هذا الصدد يقول: »باتت الذات المستلبة مستوعبة في وجودها المستلب. ولم يعد هناك غير بعد واحد ماثل في كلّ مكان وتحت شتى الأشكال... إن وسائل النقل والاتصال الجماهيري وتسهيلات السكن والطعام والملبس والانتاج المتعاظم لصناعة اوقات الفراغ والاعلام تفضي كلها الى مواقف وعادات مفروضة وردود فعل فكرية وانفعالية معينة تربط المستهلكين بالمنتجين ربطا مستحبا. إنّ الملاحظ يقف ها هنا على ما تتصف به استعمالات تقنيات الاشهار والاعلام المرئي والمشهديّ من قدرة ناجعة على إحكام آليات التسيير النسقي والعقلاني لاستراتيجيات التحكّم والتنميط والتدجين لكلّ جوانب الحياة البشريّة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية ولتشخيص أوجه التلازم بين ظهور مؤسسة الاشهار وإنتشار الأساطير الجديدة، يشخص »هنري لفاڤر« ذلك في كتابه »الحياة اليومية في العالم الحديث« »ينتج الاشهار أساطير أو بالاحرى لا ينتج شيئا وإنما يستحوذ على أساطير سابقة... فالصيغ الاشهارية الأكثر براعة تخفي اليوم رؤية للعالم«.إنّ ما تعيشه مجتمعات الصّورة والفرجة والمشهد أي مجتمعات التوظيف التقني لآليات التحكم في الحشود والجماهير حسب تصور عالم الاجتماع الفرنسي »ڤابريال تاردي« يعدّ من وجهة نظر التراكم التاريخي تحوّلا هيكليا لا سيما بالمقارنة مع الانساق الاجتماعية التقليدية التي استمدّت ديمومة سلاسة وظائفها على المثل الاخلاقية والدينية الفلسفية والفنية الجماليّة.لا مفرّ إذن من الاعتراف بحقيقة موضوعية مساوقة للواقع التاريخي لمجتمعات انتاج واعادة انتاج رأس المال والمتمثلة في قيام حضارة الدعاية والاعلام المشهدي والفرجوي على التحالف التقني والنسقي المؤسساتي والتشريعي بين سلطان المؤسسة الاقتصادية الرأسمالية والتقنيات المتعدّدة الوسائط للاتصال الجماهيري ومن ثمة فإن هذا التحالف المعقد والمركّب يستدعي أكثر من سؤال ويثير أكثر من إحراج واشكال تخصيصا إذا ما تعلق الامر بفهم ديناميات التداول الاجماعي الاقتصادي والسياسي لتقنيات لغة الصورة ودوال الاشهار في الفضاءات العمومية.إنّ ما تختص به كل الانساق الاجتماعية رغم التفاوت في التطوّر من جهة العلاقة بنموّ رأس المال التجاري، الصناعي، المالي هو تعاظم سلطان التحالف بين المؤسسة الانتاجية ومؤسسات الدعاية والاشهار لا سيما من خلال التأكيد على الدور المتنامي في تسيير الوظائف الأساسية للمصالح المشتركة والمنافع العامة وبالتالي، فكيفما كانت صناعة الشعارات والرّموز والتمثلات الذهنية والأذواق وردود الأفعال والإنفعالات لدى الجماهير العريضة في الجهات الأربع من العالم فإنّ الواقعة التي تترسخ يوما بعد يوم هي تزايد الطلب على تقنيات الإتصال في حضارة الفرجة والمشهد.وعليه، فقد يكون التشخيص النقدي لواقع المفارقات التي تسكن حضارة التحالف الوظيفي والآدائي بين امبراطورية رأس المال وتقنيات الاعلام الفرجوي والمشهدي منطلق لادراك الاسباب المعلنة والخفية التي تحكم المستندات الظاهرة والسريّة لشتى الاستعمالات البراغماتية لتقنية الاشهار في المجتمعات الاستهلاكية المعاصرة.ومن ثمّة لا مفرّ من الاقرار بأنّ واقع انتشار حضارة الصورة هو واقع ملغزٌ وموحشٌ وإذ كان يبدو شفافا وناعما، إن ما يخترقها من مفارقات وتناقضات وأزمات تعكس التصدع في رؤية البشر لمعنى وجودهم وحقوقهم الاجماعية والاقتصادية والسياسية.فإذا كان معنى الوجود والحياة محاصر بالايديولوجيا الليبرالية المستندة فكرا وممارسة الى نفوذ رأس المال وسيطرته فإنّه ليس من الغرابة في شيء ان نجد المؤسسة الاجتماعية تشكو من إستنزاف أشياء الطبيعية واستغلال النفوس والهيمنة عليها برفق وبرويّة.ضمن هذا المنظور تستمد الايديولوجيا الليبرالية شرعية تداول رموز خطابها ونجاعة سلطان مؤسساتها من صناعة منظومة من العلامات والشعارات العقائدية التي تختزل معنى حياة البشر في حيازة الاشياء واستهلاك السلع وملكية الخيرات والثروات والتنافس من أجل إصابة حظ أوفر من الانتاجية والربح والرفاهية ولكي تكتسب هذه الرموز قيمة تداولية و»معقولية استعمالية« تتجه المؤسسة الاقتصادية الرأسمالية الى الاستفادة من التطوّر التقني للثورة الاتصالية التي تجد في مؤسسة الاشهار آلية ناجعة و»سحرية« لتعميم نفوذها وتأويج مردوديتها في السيطرة على الاشياء والبضائع والسلع والهيمنة على الاشخاص بقطع النظر عن هويتهم الجنسية، الفئوية، الطبيعية والدينية، ها هنا يبرز التحليل »السوسيولوجي« لواقع تداول الخطاب الدعائي والاشهاري في الواقع الاقتصادي أن الوظيفة الأساسية له تكمن في اكساب الجماهير عادات »كلب بافلوف« أي لكل مثير استجابة، ونوعية الاستجابة تدل على نوعية المثير.إن اكساب الجماهير عادات سلوكية تتلاءم وإستراتيجيات مؤسسة الاشهار ترتبط بالتحفيز على إستهلاك السّلع والصّور، التسوق، التنافس من أجل الحيازة والتملك والفوز بحظّ أوفر من الترف والبذخ والرّفاهية المادّية.ولكن لسائل ان يتساءل عن الاليات التي تنتهجها المؤسسة الاعلامية في الدّعاية والاشهار لتسويق البضائع والسلع الإستهلاكية. وهكذا نصطدم بمفارقة غاية في الغرابة والاستهانة بقدرات وملكات الانسان النوعية فإذا كانت أخص خصائص الكائن البشري هي التفكير والحريّة فهل أن مؤسسة الاشهار تنمي لدى الأنا الفردي والضمير الجمعي القدرة على الفهم والتمييز والاعتراض والمقاومة. ليس من المبالغة في شيء إذا اكد التحليل السوسيولوجي بأنّ آليات مؤسسة الاشهار تعمل جاهدة على تعطيل ملكة التفكير وسلب الذات حريتها واستقلالها..ضمن هذا السياق يقول »ستيفان لوكوك«: »الاشهار هو علم تعطيل ذكاء الانسان قدرا كافيا من الزمن لابتزاز النقود منه« لا مندوحة من الاقرار بأنّ تقنيي وخبراء وصناع القرار في مؤسسة الاشهار سيستثمرون كل طاقات ذكائهم العلمي والتقني لاستنباط الحيل والمؤثرات الاصطناعية لتنويم الافراد والجماهير سعيا الى تغييب حرية القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لدى عموم المتفاعلين مع اغراءات الحضارة الاستهلاكية بكل هالتها ونفوذ مباهجها المادية. إنّ التأثير الساحق لمؤسسة الاشهار في السلوك الاستهلاكي تبتدئ من خلال القدرة على احكام السيطرة والتحكم في المتقبل والاجهاز عليه وقولبته وتنميطه من أجل غرس قناعة التحوّل إلى آلة إستهلاكية وارغامه بطريقة لا مرئية على الانصياع والامتثال لمخططاتها واستراتيجياتها.ومن ثمة قد يكون دمج الذّات في البنى الاجتماعية الاستهلاكية اعلانا على استلابها وموتها، ولهذا السبب بالذات تشتغل توليفة صناعة الرّموز الحسية الواقعية والافتراضية الخيالية في الومضات الاشهارية على آليات التأثير الحسيّ المباشر في الذات المدركة وذلك من خلال بث رسائل رمزية تتمحور أدواتها على الإغراء والابهار، الانتقاء والتصنيف، الاختزال والتكثيف، الحذق والاضافة، التحليل والتركيب، الاظهار والاخفاء، الاشارة والايحاء.ضمن هذا المنظور يؤكد »لودفيغ فيورباخ« أنّ حضارة الصورة هي للمظهر على الجوهر وللمرئي على اللامرئي ويتجلى ذلك بوضوح من خلال قوله التالي: »إن عصرنا يفضل الصورة على الشيء، والنسخة على الأصل والتمثيل على الواقع والمظهر على الوجود«. مما تقدّم يخلص الى أن كل الرّموز التي تستخدم من أجل بناء خطاب دعائي تصبح أقل صفاتها هو البراعة والتزويق للاكاذيب والتزيين للواقع من أجل صناعة الاقناع والتأثير في المتقبل تأثيرا ساحقا يشمل كلية كيان الفرد.للبرهنة على ما لوسائل الاتصال الجماهيري من تسلط شموليّ على حرية الذات الفكرية والعملية يبين »إيكارت تول« أن الفرد وتحت تأثير القوّة الناعمة للرسائل الفرجوية التي تبثها مؤسسة الاشهار يتنازل عن إرادته الفكرية واستقلاليته الوجودية لفائدة المؤسسة الاعلامية التي تقوم بفعل تخديري شبيه بالتنويم المغناطيسي.ولتشخيص ما للتلفزيون من تأثير يقول »إيكارت تول« في هذا السياق: »لاحظو أنفسكم بإنتباه عندما تكونون أمام التلفزيون وستكتشفون أنكم طالما تركزون على الشاشة يكون نشاطكم الذهني معلقا... ذهنكم عاطل بمعنى أنّه لا ينتج أفكاره الخاصة ولكنه يلتهم بإستمرار الافكار والصور التي تأتيه من الشاشة«.يظهر بوضوح إذن أنّ استهلاك رموز الرسالة الفرجوية في أنظمة خطاب الدعاية والاشهار يرتبط سياقيا وأدبيا بصناعة واقع سلوكي.يدمج كل الافراد في حظيرة التنميط والتدجين القطيعي وبالتالي مسح الوجود الانساني والانحطاط به الى مركزية الوجود الحيواني.إنّ العمل على تعميم مشاركة الجميع في عالم الفرجة والتماهي في واقع افتراضي خيالي تغيب فيه كل المسافات والاختلافات والتفاوتات والتناقضات يمثل أساس الوظيفة الايديولوجية لمسار التحالف بين مؤسسة رأس المال ومؤسسة الاشهار.وتساوقا مع هذا الواقع، يضع »ريجيس دوبري« (Regis Debry) على عاتق مشروعه الفكري النقدي فضح الوظائف الايديولوجية الكامنة في تعريف الادوار وتوزيعها بين لغة رأس المال ودوالها ولغة الصورة وايحاءاتها.ومن الملاحظ أنّ تجشم النقد يقتضي فضح ما ينعكس على المرايا والشاشات ويظهر ذلك في سياق قوله التالي: »حين يغدو كلّ شيء مرئيا، فلا شيء يغدو ذا قيمة، فتجاهل الاختلافات يتقوّى مع اختزال الصالح في المرئي والمظهر باعتباره مثالا يحمل في طياته جرثومة فتاكة تتمثل في التشابه، كل المثل المتميّزة تحظى بعيانية إجتماعية قويّة، ينتج عن ذلك أنّ لغة الاغنى تصبح لغة كل النّاس« (حياة الصورة وموتها).في الحقيقة، يكشف التحالف التقني بين سلطان رأس المال ومؤسسة الاشهار عن انّ الحضارة الاستهلاكية تعرف جيّدا كيف تجد الوسائل الأدائية الكفيلة بتنويم الأفراد وتخدير عقولهم وسلب إرادتهم، سواء أعبّروا عن أنفسهم في جزيرات معزولة أو في انتماء فئوي أو طبقي.وعندئذ فإنّ تنميط الجميع وسلبهم عقولهم وحريتهم لصهرهم في
قوالب الامتثال السلبي لايديولوجيا عبادة الصورة وتقديس سلطان رأس المال، إنّما يمثل في الحقيقة علامة مرضية دالة على بؤس الحياة في ظلّ الاحتفاء المشهدي بحضارة الوفرة والرفاهية والرخاء.لفهم دينامية النشاط الاجتماعي للتمفصل بين وظيفة الاعلام المشهدي وتداول رأس المال يبدو أنّه من الضروري الوقوف على نعومة تكيّف الأفراد والفئات والطبقات أي عموم الجماهير الكادحة مع شعارات وأساطير حضارة الوفرة في الانتاج والاستهلاك وها هنا بالذات نقف على خصيصة تميزت بها المجتمعات الاستهلاكية الاولى الا وهي تقهقر قدرتها على المعارضة والمقاومة والرفض، فماهي الأسباب الفاعلة التي تجعل الانسان يتنازل طوعا عن حقه في المقاومة والتمرّد على شعارات وأساطير حضارة الصورة والاستهلاك؟يبين »يورغن هابرماس« (Jurgen Habermas) ان فهم دينامية النشاط الاجتماعي للحضارة الراهنة يقتضي التمييز بين العقلانية التقنية والعقلانية التحررية في سياق تحليله لوظائف العقلانية العلمية والتقنية ضمن مؤسسات المجتمع الحديث، حيث يقول في هذا المضمار: »ترتبط العقلنة المتنامية في المجتمع لمؤسساتية التقدم العلمي والتقني بحيث يتداخل العلم والتقنية في فضاء مؤسسات المجتمع... ويمكن تأسيس التحليل الاجتماعي على هذه الظاهرة المتمثلة في التواطؤ بين التقنيّة والهيمنة بين العقلانية والاضطهاد«(التقنية والعلم كأيديولوجيا يورغن هابرماس). لتوضيح مستويات التواطؤ بين التقنية والهيمنة في مؤسسة الاشهار لا مفرّ من التدعيم لمثال حي وملموس. وعليه، فإذا كانت الرّسالة الدّعائية والاشهارية للبضائع والسلع الاستهلاكية تتوثب لتحفيز الكلّ على التكيف مع مغريات التسوّق، التبادل، الاقتناء والاستهلاك قد يكون ذلك متسقا مع منطق الحاجة وقوانين الطبيعة البشرية ولكن لسائل ان يتساءل عن الثمن الذي يجب أن تدفعه الجماهير العاطلة الفقيرة المهمشة، المحرومة حتى تجد لنفسها مقاما في حضارة الرخاء المادي والرّفاء المشهدي وبالتالي كيف لهذه الفئات والطبقات أن تكون نسقيا خارج دورة الانتاج والاستهلاك مع مواجهة مغريات حضارة الصورة والدعاية والاشهار؟ومن الملاحظ أنّ هؤلاء قادرون على قراءة رموز لغة الصوة وتفكيك شفراتها بعواطفهم ورغباتهم وغرائزهم وأحلامهم ولكنّهم في الواقع الموضوعي غير قادرين على تبرير لغة الاقصاء، والتهميش، الاذلال والحرمان وفي هذه الحالة، تصبح لغة الصورة طرفا فاعلا في مضاعفة الاحساس التقني لدى الجماهير بالغربة والاستلاب لا سيما في ظلّ حضارة الوفرة، ولعلّه يصدق عندئذ توصيف أحد الفلاسفة المعاصرين حضارة الصورة والرفاهية بوصفها: »حضارة الجحيم المكيف« (La civilisation de L'enfer Climatisé).مما تقدّم نخلص الى الاقرار بأنّه اذا كانت مجتمعات الحداثة حسب »كلود لفي ستراوس« قد قامت على مثل الأمّة، القانون الجمهورية فإنّ مجتمعات ما بعد الحداثة قد حطمت أسس هذه الاعمدة المجردة واستعاضت عنها بأساطير جديدة تنعكس في تقديس أقانيم جديدة هي البضاعة، الملكية، رأس المال الرّبح، هذه الأقانيم تزداد سطوة في ظلّ عولمة اقتصاد السوق على عموم الكرة الارضية وبذلك ينضاف حدث جديد من شأنه أن يعزّز النفوذ الرّمزي واللامرئي لحضارة الصورة ومؤسسة الاشهار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.