ها هم ينسربون من بين أناملنا الواحد تلو الآخر وكأنّ الموت لا يختار إلاّ الجميلين »تحسّنت ذائقة الموت« قال أحد الأصدقاء: محمود درويش، نصرحامد أبوزيد، محجوب العياري، محمد أركون و الطاهر وطار... نعم عمّي الطاهر صاحب »عرس بغل« وصاحب »قصيد في التذلل« ومؤسس الجاحظية ... عمي الطاهر صاحب الإرث الإبداعي المتميّز، رمزا من رموز الرّواية العربية، لم يعد عمي الطاهر ملكا للجزائر وحدها، ها أنّني ألمحه في العيون الدامعة و أسمع صداه في الأصوات المرتبكة المرتجفة القادمة من المغرب والجزائروتونس و ليبيا: »ألو فاطمة... عمّي الطاهر مات...« لهم حرقة واحدة ولي حرقتان: حرقة موته و حرقة عدم ملاقاته البتّة، وحده الموت جمعني بعمي الطاهر. السيارة تطوي المسافات وهذه الحدود المفتعلة تسلمنا من شواطئ طبرقة الى شواطئ القالة كأنّ الصّورة انقسمت الى نصفين فظلّت الأرواح المنشطرة تتنادى وتتهاتف وتتحاب نكاية في المسافظات. من تونس الى عنابة مسافة يوم... من قرطاج الى بونا مسافة عمر . مديرية الثقافة الجزائرية بولاية عنابة خصصت يومي 29 و 30من سبتمبر الفارط لتذكارية الطاهر وطار... هل يكفي يومان كي نودع عمي الطاهر ونجالسه ونحاكيه ونمرّغ وجوهنا بين حروفه؟؟؟ من الجزائر العاصمة، من بشار، من قسنطينة، من وادي سوف من هناك من أقصى نقطة في الصحراء من تيندوف جاؤوا ليقولوا كلّ شيء، شعراء جمعهم الطاهر وطار حوله في أروقة الجاحظيّة وآخرون كان لهم سندا وعونا ودافعا في عالم الكتابة والنشر. لأنّني أرى في الهامش ما لا أراه في المتن، ولأنّني أندسّ في كواليس الملتقيات أكثر من اندساسي في فعالياتها الرسمية رأيت كيف استطاع هذا الرجل أن يتحدى العلم ومقترفيه وأن يقلب كلّ معادلات الأبوّة البيولوجيّة فيكون أبا للجميع ويتوغّل عميقا في مسامّهم وأوردتهم. »« ألمح طيفه المتنقّل بين أروقة جامع الزيتونة حيث درس وبين أزقّة المدينة العربي حاملا هموم جيل بكامله، أرى بريق عينيه وهو يمسك بين أنامله أولى إصداراته: مازال الكتاب دافئا فقد غادر للتّوّ حضن احدى المطابع التونسية. تلك هي مجموعته القصصية الأولى وتلك مقالاته الصادرة في الصحف التونسية تشهد أنّ عمي الطاهر ليس ملكا للجزائر وحدها. »جمعنا في حياته وها هو يجمعنا في موته« هكذا تحدث أحد الشعراء الجزائريين. السيارة تطوي المسافات، تخرج من شطر الصورة لتغوص في شطرها الثاني... هل سننتظر موتا آخر كي نرمّم التظاريس ونعيد الصورة الى شكلها الأول...