كنت قد اعتدت رؤيته دائما يختزن في جسده الصغير الصبر والارادة. تمر عليه أيام الحر والبرد متشابهة وهو يحمل بين يديه العلكة والمناديل يحاول بيعها للمارة، ويحدث أن اتغيب لبضعة أيام فأعود لأجد أنه مازال واقفا الوقفة الصامدة ذاتهايرتدي الملابس القاتمة نفسها. واليوم حين بحثت عن وجهه البريء الخالي من زيف المدينة وخذلانها، لم أعثر عليه، لم ألمحه بين الوجوه التي تملأ المكان، والتي خمد بريق أعينها بعد غيابه، أدقق فيها النظر فأجد أنها لم تتغير. الزنجيُّ عازف الساكسوفون مازال هنا مع آلته اللامعة، كأنه كان يتحد مع الشارع الطويل بعزفه الحزين، عند هطول المطر يضع على رأسه قبعة رمادية. لم يكن يترك مكانه أبدا.. حتى المرأة التي كسر لها زوجها أنفها حديثا مازلت تتطلع إلى النافذة المقابلة بحنين وتطلب من الزنجي ان يعزف لها المقطوعة الحزينة نفسها رغم حزنها كانت امرأة أنيقة ورقيقة فكلما شرع الزنجي بالنفخ تنساب دموعها. قريبا منهما كان يقف صاحب الكلب متكئا على الشجرة في انتظار ان يقضي الحيوان حاجته، لا أعلم عنهما شيئا الا أن المشهد لم يكتمل دونهما. في الركن البعيد كان الشيخ المقعد يتابع الموقف في هدوء وأمام كرسيه المتحرك يضع صحنا نحاسيا ولا أحد يمر ليلقي فيه بعض النقود وبين الفينة والاخرى يطلق العنان لزفرة حرى مليئة بالكآبة. ولما لكت السؤال لاستفسرهم عن غياب صاحب قاطعتني أمي وهي تحمل سطلا لم أتبين ما فيه، قالت: ما رأيك في اللون الوردي لطلاء غرفتك، يجب أن نغطي الشقوق التي سببتها الرطوبة في السقف. إذا ستختفي هذه الوجوه المتلازمة بعدما كانت تطل من الشقوق، وأنا أطلي السقف تبين لي انها كل الوجوه كانت سعيدة بمايحدث ربما كانت تنتظر هذا، أن تغتسل من بؤسها وسواد الخلفية التي تنبعث منها. حتما ستعود الشقوق في الشتاء القادم وتعود معها هذه الوجوه أو تحل محلها وجوه أخرى تكون وردية.