تستطيع الفنانة والكاتبة التونسية الكبيرة جليلة بكار، ان تعلن اليوم انها وجدت في تونس عايدة التي بحثت عنها طويلا. جاءت جليلة الى بيروت، كي تقدم عرضها الرائع »البحث عن عايدة«'، في اطار الذكرى الخمسين للنكبة الفلسطينية. كانت جليلة مصحوبة بهالة المجد التي صنعها دورها في مسرحية »فاميليا«، حيث تفوقت الممثلة على التمثيل، وبدت وكأنها قادرة على مزج سحر الخشبة بتراجيديا الحياة اليومية . جاءت جليلة مع نصها الفلسطيني الذي كتبته، لكنه كان ايضاً نصاً تونسياً بامتياز، ووسط الاخراج المدهش في تقشفه الذي وقعه الفاضل الجعايبي، اخذتنا الممثلة والكاتبة في رحلة البحث عن فلسطين الأعماق التي تستوطن كل واحد فينا، مقدمة صورة مضيئة عن المسرح والثقافة في تونس. تونس الخضراء، كانت تشع القاً بمثقفيها الطليعيين وفنانيها وكتابها ومسرحييها، بينما كانت تونس السياسية تتصحّر تحت ثقل الديكتاتورية، ووطأة النظام الذي انتقل من الأبوة البورقيبية، الى واقع هجين، لا يحمل من المرحلة السابقة سوى سوطها القمعي. منذ اسابيع وتونس تحتل قلوبنا وعيوننا، فجأة عادت البلاد الى اصحابها، وارتفعت صيحة الخبز والحرية، في مواجهة الديكتاتور وآلته القمعية وبطانة الفاسدين. ورأيتها، رأيت عايدة التونسية تقف بين المتظاهرين، تنحني على دماء الشهداء والجرحى، ترفع قبضتها وتعلن ان لا عودة الى الوراء، وان على الحرية ان تبدأ من مكان ما في هذا العالم العربي الغارق في ليل القمع. لم تنتفض عايدة التونسية ومعها كل الشعب بمثقفيه وعماله، الا لأنها تعرف ان لا خبز بلا حرية، وان كرامة المواطن والمواطنة في تونس وكل ارض العرب لا تؤخذ الا في الشارع، وان الديكتاتورية التي ملأت الأرض فساداً وجوعاً وقهرا، لا خيار امامها سوى الرحيل. روت عايدة التونسية ان انتفاضة الخبز والحرية في تونس بدأت في سيدي بوزيد، حين انتحر محمد البو عزيزي الجامعي العاطل عن العمل والبائع المتجوّل يوم 18 كانون الأول- ديسمبر الماضي، بعدما تعرّض للصفع والاهانات من شرطية منعته من بيع الخضراوات من دون الحصول على اذن مسبق من البلدية. فجأة صارت الحياة لا تطاق، قالت انها شعرت ان القمع صار حائطاً اسمنتياً يمنعها من التنفس، قالت انها احست بالاختناق، فصرخت بأعلى صوتها، وكانت صرخة واحدة كافية كي تستفيق كل الحناجر وترتفع الايدي بحجر الانتفاضة الذي جلبته معها من رحلتها الى فلسطين، وتشتعل الانتفاضة. قالت عايدة ان الطريق الى حرية تونس ارتسمت بالدم، »كانوا يردّون على صيحات الحرية التي نطلقها بالرصاص، وبانتشار القناصة الجبناء الذين اصطادوا ضحاياهم. لكن الغزال استطاع ان ينتصر هذه المرة على الصيّاد، لم يعد امامنا ما نخسره سوى قيودنا، لذا فوجىء الطاغية بنا كما فوجئنا نحن بأنفسنا، فوجئنا بقوة الحرية في ارواحنا، التي ما ان انطلقت، حتى بدأت الأغلال تنكسر«. هكذا تخيلت عايدة، تخيلتها تقف وسط مسرح فارغ، وفجأة بدأت الخشبة تمتلىء بعايدات كثيرات، كانت واحدة فصارت الوفا، وكانت صوتا منفردا، فصارت جوقة كاملة. تعلم عايدة ان ما يجري في تونس الآن هو حدث غير مسبوق في عالمنا العربي اليوم. منذ ان نجح الديكتاتور في كمّ الأفواه، وتحوّل الها يعبد نفسه ويطلب من شعبه عبادته، والناس تعيش في الخوف والرعب. كان يكفي ان تُفتح كوة، كي ينهار جدار الخوف على رؤوس من بناه، وعندما انكسر حاجز الخوف، بدأ الطاغية يتلعثم، قبل ان يرحل هارباً. ولأن ما يجري جديد وكبير ويعيد لنا الثقة بالحياة، فإن عايدة ورفاقها ورفيقاتها يعلمون ان لا مجال للتراجع، لا وجود لنصف ثورة، حين تقف الثورة في منتصف الطريق فانها تتهاوى. الخبز والحرية، حرية الصحافة وحرية الثقافة وحرية النقابات وحرية العمل السياسي. لا يوجد نصف حرية، الحرية اما ان تكون او لا تكون. لذا فبعد رحيل الديكتاتور يجب ان يرحل النظام الفاسد برمته، ومعه ترحل منظومة السلطة البوليسية. ينظر العرب في جميع بلدانهم من دون استثناء الى تونس بإعجاب وحب. تونس قرعت جدران خزّان القمع العربي، وكانت طليعة التغيير الذي سيضع العالم العربي على طريق استعادة وجوده. لقد انفلقنا من هذه الكوما التي فرضها الديكتاتور على كل شيء، انفلقنا من ثقافة القمع المجبولة بنفط صار يشبه دمنا، انفلقنا من افقار الناس وتجويعهم واذلالهم، انفلقنا من امتهان الكرامة والثقافة والقيم. انفلقنا من السجون والجلادين وفقهاء القمع والظلام. وجاءت شرارة الأمل من تونس، وارتفعت صيحة شاعرنا »أبو القاسم الشابي« لتعلن ارادة الحياة وسط التصحّر الأخلاقي والسياسي الذي فرضه الطغاة، من مماليك هذا الزمن العربي الأسود، على الشعوب العربية كلها. كل العرب في الأغلال، لا خبز ولا كرامة، لا حرية ولا قدرة على الدفاع عن الأرض. وحين استمعنا الى صيحة تونس وهي تشق العتمة بضوء الحرية، احسسنا ان ما يجري هناك هو مقدمة لما سيجري هنا، وان الانتفاضة التي نجحت في اطاحة احد الطغاة سوف تكون بشارة لانتفاضات سوف تطيح بكل الطغاة. آن للعالم العربي ان يخرج من وضعية مريض عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث تتقاسمه الدبابير، ويلتهمه الفساد، ويعبث به اللصوص. ارى عايدة التونسية الآن، مكللة بجلال دم الضحايا، تنزع عنها الخوف، وتمشي في الطليعة، وتصرخ بصوتها الذي يختزن الم العرب، من تونس الى فلسطين ومن الجزائر والمغرب الى مصر وسورية وجزيرة العرب. اراها تمسح دمعها، وتصرخ بالحرية التي صارت اليوم حكايتها الكبرى. ❊ الياس خوري