بالتزامن مع صدور هذا المقال يعقد قسما التكوين النقابي والتثقيف العمالي والدراسات والتشريع بالاتحاد العام التونسي للشغل ملتقى فكريا بنفس العنوان، وذلك بغاية تحسّس آفاق الحياة السياسية في تونس بعد الثورة ومقتضيات ذلك من مراجعة للدستور والتمهيد لمنظومة تشريعية جديدة قوامها ارساء الديمقراطية من خلال قوانين تحقق الضمانات الضرورية للنهوض بالحريات الاساسية واصلاح إداري يرتقي الى تحقيق التنمية الجهوية والمحلية، الوجه الآخر للاصلاح الاجتماعي الشامل. إن هذه الخطوات أساسية لشعب يستدعى لأول مرة في حياته السياسية الى انتخابات حرة وحقيقية، وهو لا يعلم الى حد الآن من سينتخب وكيف سينتخب؟ ويوم الاقتراع الذي لا يزال تاريخه مجهولا سيكون عدد الاحزاب التي تخوض غمارها على الأرجح عشرين حزبا، فضلا عن القوائم المستقلة، فبعد سنوات من القحط الديمقراطي وانعدام حق الاختيار السياسي سنواجه مشكل كثرة المترشحين رغم اننا لا يمكن ان نخفي خشيتنا من انتخاب مجلس تأسيسي أو برلمان عاجز عن أن يضم أغلبية واضحة ومتماسكة، حيث اننا في هذه الحالة ومهما كانت الحكومة، فإن حظوظها من النجاعة ستكون ضئيلة جدا في مواجهة عديد المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. أما المشكل الثاني فيتعلق بغياب خيار سياسي واضح نسبيا في الظرف الراهن، كما يتعلق ايضا بعدم توفر برنامج اقتصادي واجتماعي واضح حول منوال التنمية يستجيب لمتطلبات الشعب راهنا ولمقتضيات المحيط السياسي والاقتصادي والاقليمي والدولي، خاصة ان النخب السياسية التي نشطت في السرية أو بصفة قانونية كانت قد ركزت على الحدود والتباينات الايديولوجية، وهي أطروحات لا يهتم بها الرأي العام لأنها أبعد ما تكون عن مصالحه المادية وخبزه اليومي. وبحكم الفراغ السياسي الذي مثلته المرحلة السابقة يتعين حاليا تهيئة الرأي العام تمهيدا للمحطات الانتخابية المقبلة إيلاء أهمية قصوى لتدارس مسألة اي نظام سياسي نريد؟! ولإدراك ذلك يتعين على وسائل الاعلام المسموعة والمرئية خاصة أن تجعل هذه المسألة في صدارة اهتمامها، حيث اننا نخشى في ضوء عدم توفر وضوح الرؤية للناخب ان تصبح مرجعياته بعيدة كل البعد عن الخيارات الديمقراطية وتسقط في العشائرية أو الجهوية أو الولاءات القديمة... ولتلافي ذلك تدعى وسائل الاعلام الى توجيه الرأي العام والناخبين أساسا الى تحديد اختياراتهم بناء على برامج وتوجهات واضحة حول منوال التنمية، المنوال الاجتماعي، دور الدولة، دور القطاع العام، دور القطاع الخاص، القضايا المتعلقة بالتشغيل والعلاقات الشغلية، قضايا الاصلاح الجبائي، وتلك المتعلقة بالتربية والتكوين والبيئة والعدالة الاجتماعية بين الفئات والجهات والأجيال وحيث أنه خلافا لاتحاد الشغل الذي لا مبادرات مهمة في الغرض من خلال مشاريع برامج اقتصادية واجتماعية تم اعدادها بمناسبة انعقاد مؤتمري جربة والمنستير، أو من خلال منشورات قسمي التكوين والدراسات فإن بقية العائلات السياسية لا يتوفر لها ما ينير سبيل الرأي العام في الغرض، وحتى ما توفر لبعضها لم يجد سبيله الى جماهير شعبنا بحكم القمع والتعتيم الاعلامي اللّذيْن كانا مسلطين على أنشطتها، لذلك يتعين على الاحزاب السياسية من الآن وحتى الموعد الانتخابي المرتقب ان تعد برامجها وتعلن عنها ترشيدا لاختيارات الناخب. اضافة الى ما تقدم فإننا لا نعلم بعد هل سيُجرى التصويت وفقا للمجلة الانتخابية الحالية اي يكون تصويتا على القوائم وخلال دورة واحدة مع اعتماد جرعة النسبية، علما أن الرأي العام ليس على بيّنة من ايجابيات هذا الاجراء وسلبياته، كما أننا لا نعلم هل ستجرى الانتخابات التشريعية بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية أو قبلها أو بعدها والحال ان الاجابة عن هذه المسائل ذات أهمية قصوى، وهي ليست مسائل ذات بعد تشريعي او دستوري فحسب كما تريد تصورها حاليا اللجنة العليا للاصلاح السياسي لأننا من هذا المنظور نظل دائما في نظام رئاسي يستبد بأهم صلوحيات السلطة التنفيذية وجوانب الحياة السياسية، خاصة ان اجراء الانتخابات الرئاسية قبل التشريعية يؤدي حتما كما هو الشأن حاليا الى استبداد حزب الرئيس الفائز بالحياة السياسية لمدة خمس سنوات. أما عن المشهد السياسي الحالي الذي بدأ يتسم بتعدد حزبي بصفة متنامية الى حد التضخم بصفة أصبحنا معها امام ظاهرة لم يعرفها التونسيون من قبل، الا ان بعض الملاحظين وفي مقدمتهم الدكتور الحبيب التوهامي (❊) الذي استلهم منه كثيرا من الافكار الواردة في هذا المقال يعتبر ان تعددا حزبيا مفرطا أفضل من حزب واحد شمولي بأتم معنى الكلمة يلتهم كل الحياة السياسية ولا يترك منها الا فتاتا لأحزاب اصبحت شيئا أشبه بالنوادي تحت حكم بن علي، وان تعدد الاحزاب في نظر هذا الباحث يمثل خطرا، الا انه متفائل بأن الزمن وما يشهده الفكر السياسي من حركية وطريقة الاقتراع هي عوامل ستدفع الاتجاهات السياسية الى التوحّد. وطبيعي ان يثير تعددها انشغالها، الا ان الديمقراطية لن تكون أصلا لمحتواها دون ان يكون ركيزتها ومحورها الاحزاب السياسية التي لن يكون دونها اقتراع، الأمر الذي يؤدي الى البيعة والتزكية كما كان الشأن في عهدي بورقيبة وبن علي، فضلا عن ان الاحزاب السياسية لها وظائف اساسية في الديمقراطيات، فهي الواسطة بين نظام الحكم والشعب، فحينما تكون الاحزاب في السلطة تدير شؤون البلاد وحينما تكون في المعارضة تنقد وتقيم وتقترح بدائل للنظام القائم، وليس هناك نظام ديمقراطي فعليا ان لم تكن الى جانبه مشاريع اخرى للتغيير، وهذه الاحزاب في حد ذاتها هي منبت للاحتراف السياسي، فهي من خلال تنافسها تنبت الزعماء الأقدر على حمل الحقيبة السياسية وليس هناك آلية اخرى لذلك دون الاحزاب السياسية ودون مجتمع مدني ونقابات ونسيج جمعياتي. وفي انتظار تبلور التصورات الاساسية حول طريقة الاقتراع وجملة عمليات التصويت وطرق احتساب الاصوات بين المترشحين سواء تعلق الامر بتنظيم انتخابات الرئيس او النائب او عضو المجلس البلدي يتعين توضيح وتبسيط كل هذه الآليات والاجراءات التي ستعتمد في الغرض، والآمال تبقى معلقة على وسائل الاعلام التي أبدت كفاءة عالية في تنوير الرأي العام وكذا الشأن بالنسبة الى الأحزاب والمنظمات، فهي جميعا معنية بتنظيم ملتقيات توعوية وتكوينية في مجال لم يعتده شعبنا، مجال اصبح واقعا بعد ان كان حلما. ❊ جامعي وباحث، تقلّد مسؤوليات مهمة في الادارة التونسية