ولدت بمدينة الملتوي... المدينة الفقيرة كفقر مدن وقرى الحوض المنجمي وكانت عائلتي وفيرة العدد مثل كل العائلات في تلك الربوع، وعائلنا الوحيد هو والدي رحمه الله الذي كان يشتغل بأحد الدواميس التابعة لشركة صفاقسقفصة والذي علمت فيما بعد انه ترك مسقط رأسه نفطة، على غرار عشرات الالاف من »الجريدية« الذين هجروا غابات نفطة وتوزر ودقاش والحامة بسبب الاحتياج ولأن عملهم هناك »خمّاسةً« لم يكن المقابل المادي أو الغابي يسد رمق افراد العائلة، وذلك رغبة في تحسين ظروف العيش، وكان مولدي وكافة إخوتي »بحومة الطرابلسية« المعروفة لدى الخاص والعام حيث نشأت وترعرعت، وحيث تقطن عائلتي وبعض أقاربي حتى يوم الناس هذا. وأدخلني والدي صحبة شقيقي التوأم الكُتّابَ وهو ما دأب عليه كل الاولياء نسجا على منوالهم، حيث كانت عادة اهل الجريد أبا عن جد، الى ان بلغت سن الدراسة وهي السادسة من عمري حيث قام والدي بترسيمي في احدى المدارس الابتدائية المعروفة... ولكن... وفي الاسبوع الاول من السنة الدراسية وكنت عائدا من المدرسة الى المنزل سمعت عويلا وبكاء من بعيد ولم أعر ذلك أهمية لأنني كنت منشغلا باللعب صحبة اصدقائي صغار الى ان جاءني الخبر الذي نزل عليّ كالصاعقة »بوك مات بوك طاح عليه الجبل...« هي جملة سمعتها عديد المرات وكلما تعلق الامر بوفاة هذا أو ذاك ولكنني لا أعي معناها، اعرف معنى الموت لكنني كنت أتساءل دوما كيف يموت الانسان تحت الجبل وأين هي تلك الجبال التي تتساقط كل اسبوع تقريبا لتقتل الناس؟! ومع مرور السنين عرفت كل شيء... عرفت ان كل عمال شركة فسفاط قفصة يشتغلون تحت الدواميس التي هي أخطر من البحر داخلها مفقود وخارجها مولود، حيث حضرت وانا شاب مآت الجنازات توفي اصحابها تحت الجبل... جبل ال C.P.G وأتذكر كذلك بعض الكلمات التي كان ينطقها حتى الامّيون مثل والدتي وهي: Première... deuxième... Troisième وهي فترات عمال الشركة فعندما اسأل والدتي ليلا: اين أبي يا أمي؟ فتجيب: يخدم »تروازييم« وكذلك كلمة »الجنيور« les ingenieurs و »الكلاب« فإذا بها (النوادي) les clubs des gadres . لم تيأس والدتي وواصلت العناية بنا وضحّت بالغالي والنفيس كي نواصل دراستنا الابتدائية والثانوية والعالية فتزوجت شقيقتي، وتخرجت من الجامعة حاملا شهادة عليا، وكذلك شقيقي التوأم الذي اتفقت معه بعد سنوات البطالة التي طالت على ان أهاجر، ويبقى هو الى جانب بقية افراد العائلة لعلّنا نتمكن من تحسين ظروفها ورد الجميل الى والدتنا ويواصل اخوتنا الصغار دراستهم و »حرقت«... حرقت الى ايطاليا مغامرا بحياتي، »فالحرقان« حياة أو موت، وحتى الحياة ليس معناها النجاح وايجاد شغل ولكنه كان الخيار الوحيد بعد أن ضاقت الدنيا في وجهي. ان شركة فسفاط قفصة تأسست سنة 1897 وقد كان الاستعمار الفرنسي الذي بقدر ما كان يستحوذ على ثرواتها كان ايضا يوظف بعض النسب لخدمة المنجميّين حيث كانت الفضائيات التجارية على غرار L'ECONOMAT توفر كل احتياجاتهم، الى جانب الاهتمام الكبير بالجوانب الاجتماعية كتوفير مجانية الكهرباء والصحة والتعليم، وتوفير المنح والرحلات للتلاميذ النجباء وللجمعيات والمنظمات... الى غير ذلك من الامتيازات التي كان يتمتع بها المنجميون حسبما كان يؤكده لنا جيل ما قبل الاستقلال والذين لم يجنوا بعد ذلك سوى البؤس والحرمان والبطالة لأبنائهم وأشقائهم وأقاربهم من اصحاب الشهائد العليا وغيرهم... ليقع غلق les Economats ولنقتني بعد ذلك احتياجاتنا من الحوانيب »بالكريدي« وبواسطة »الكرني« وحتى رؤوسنا كنا نحلقها عند الحلاق »بالكرني«. وتمر السنون... وهات يا وعود... وهات يا موت تحت الدواميس... وهات يا فقر يا »حرقان«... يا حرمان.... شكاوي للوالي المعتمد ورئيس الشعبة وكذلك العمدة ولكن كانت مرابيح الشركة كلها تذهب تذهب الى جيوب اللصوص والعصابات وجاءت ثورة 14 جانفي 2011 المجيدة التي زرع بذورها وأشعل نيران فتيلها انتفاضة ابناء الحوض المنجمي سنة 2008 فاستبشرت خيرا وقررت ان اضع حدا لهجرتي الطويلة وأعود الى مسقط رأسي الى وطني العزيز لأنعم بخيراته حيث علمت ان المطالبة كانت بتوفير الشغل بنسبة فرد واحد من كل عائلة واذا بي أستيقظ اليوم على خبر ان الشركة لا يمكن لها ان تنتدب سوى ألفين فقط ولكن هذا العدد كان مبرمجا من قبل، فأين نصيب ابناء الحوض المنجمي من الثورة اذن؟ وفي صورة عودتي من بلاد المهجر فسيكون رقم انتدابي 3000 أو 4000 اي بعد عشرين أو ثلاثين سنة اخرى، فلم العودة اذن؟ أقول لإخواني المعتصمين في مدن وقرى الحوض المنجمي وأمام الادارة بنهج العربية السعودية بالعاصمة. واصلوا اعتصامكم الى ان تقع الاستجابة الى مطالبكم التي لا تتمثل سوى في التشغيل حتى يتم رد الاعتبار لأبناء ام العرايس وقفصة والمظيلة والمتلوي والرديف وغيرها... كانت مدينة المتلوي فيما مضى يطلق عليها PETIT PARIS وكان احد فقرائها في الخمسينات وما أكثرهم يتردد مساء كل يوم على منزل احدى العائلات الفرنسية التي تنتظره في ساعة محددة ليمدّوهُ بكل ما لذ وطاب من الطعام والغلال واللحم... ونصيبه ايضا من النبيذ المعتّق وفي احد ايام شهر مارس من سنة 1956 توجه كعادته الى منزل الفرنسيين فوجد الباب مغلقا، وأخذ ينادي بأعلى صوته Monsieur ... Madame ... Monsieur Jean Paul ... واذا بصوت يأتيه من الداخل: »آش تحب... الله ينوب« فعاد أدراجه متأسفا حزينا قائلا: »آه... لقد وصل الاستقلال الى المتلوي رحل الاصدقاء... وجاء الاعداء...«. تذكرت هذه الحادثة الواقعية التي يعرفها اهل المتلوي... وقلت في نفسي: »سوف لن أعود الى المتلوي الا لزيارة العائلة... ولا عودة نهائية الا عندما يعود زمن الاستعمار ويعود إليها ازدهارها وتعود مثلما كان يُطلق عليها Petit Paris حتى لو انتدبت ال C.P.G عشرين الف عامل لا ألفين.