عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    تعزيز جديد في صفوف الأهلي المصري خلال مواجهة الترجي    طبرقة: المؤتمر الدولي لعلوم الرياضة في دورته التاسعة    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    أقسام ومعدّات حديثة بمستشفى القصرين    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    اليوم.. انقطاع الكهرباء بمناطق في هذه الولايات    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    يتضمن "تنازلات".. تفاصيل مقترح الإحتلال لوقف الحرب    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    معرض تونس الدولي للكتاب : أمسية لتكريم ارواح شهداء غزة من الصحفيين    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    عمار يطّلع على أنشطة شركتين تونسيتين في الكاميرون    توزر.. مطالبة بحماية المدينة العتيقة وتنقيح مجلة حماية التراث    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    رئيس الفيفا يهنئ الترجي ع بمناسبة تاهله لمونديال الاندية 2025    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    أخبار الملعب التونسي ..لا بديل عن الانتصار وتحذير للجمهور    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع الصحفي عبد الله الزواري القيادي الإسلامي المنفي في وطنه
نشر في الفجر نيوز يوم 02 - 01 - 2008

حوار مع الصحفي عبد الله الزواري القيادي الإسلامي المنفي في وطنه
حوار مع الصحفي عبد الله الزواري- الجزء الأول
حوار مع الصحفي عبد الله الزواري القيادي الإسلامي المنفي في وطنه
الجزء الأول
حاوره فوزي الصدقاوي
[email protected]
الأستاذ عبد الله الزواري نشكركم على حسن إستقبالكم لنا ، ونفتتح محاورتنا لكم بالسؤال عن تجربتم داخل الحركة الإسلامية، كيف كانت منذ البدايات ؟ وكيف عشتم عقودها الثلاث ؟
بسم الله الرحمان الرحيم ،
لايدّعي المرء أنه كان من أوائل من بعث هذه الحركة لكني كنت من المجموعات الأولى في السبعينات التي قدمتْ إسهاماتها في هذا المجال ، بعد الإخوة الأكبر سناً والأغزر علماً والأخصب تجربة ،الإخوة راشد الغنوشي وصالح كركر وعبد الفتاح مورو و..البوغانمي ، فكان لي شرف الإنخراط في الهيئة التأسيسية لحركة الإتجاه الإسلامي سنة 1981 ، وفي تلك الفترة كنتُ مسؤول الحركة في جهة الكاف وسليانة ، ونحن الآن [1] في شهر نوفمبر2006 نتذكر أنه منذ خمس وعشرين سنة كانت الحركة تستعد لعقد مؤتمرها الثالث في ديسمبر الذي حمل وقتها عنوان مشروع الأولويات ومن المعلوم أن المؤتمر التأسيسي للحركة كان في صائفة سنة1979 ثم كان مؤتمرها الإستثنائي في أفريل1981 الذي كان الداعي لعقده إنكشاف تنظيم الحركة لدى السلطات الأمنية في ديسمبر1980. ثم كان في سنة 1984 المؤتمر الإنتخابي الذي جاء عقب سراح قيادة حركة الإتجاه الإسلامي التي جرى إعتقالها في جويلية-أوت 1981 للبت والحسم في المسألة التنظيمية بعد خروج القيادات من السجن وعودة بعضها الأخر من الخارج . ثم ستعقد الحركة كما قلنا مؤتمرها الثالث في نوفمبر سنة1986 تحت شعار : مشروع الأولويات .
في مثل هذا الشهر إذاً ، منذ عشرين سنة كانت هياكل الحركة تتمدد على طول البلاد وعرضها مدنها وقراها وكان مطروح على كثير من أعضاء الحركة البت في هذا المشروع ، وكان المؤتمر قد إنعقد برئاسة الأخ راشد الغنوشي الذي كان تحت ما يشبه الإقامة الجبرية حيث كان يخضع للمراقبة المستمرة و اللاصيقة دون حكم قضائي وكان المؤتمر قد إنعقد في ظروف أمنية صعبة وكللت أعماله بنجاح نسبي ، واليوم بعد عشرين عاماً تجد الحركة نفسها في وضعية جديدة تلتقط فيها أنفاسها وتعيد النظر في مشاريعها ورؤاها ، والواقع أن بين 1986و2006 يمكن أن نلاحظ الإختلاف ففي 1986 كانت الحركة ترتبط فيها مع أحزاب تلك الحقبة في علاقة تتميز بمستوى من النضج والتفاعل الإيجابي لكنها شهدت فتوراً كبيراً في المرحلة اللاحقة وضعفاً عاماً ، لكن نحمد الله أن المعارضة في الوقت الحاضر بدأت تبحث عن نفسها وعن نقاط التلاقي فيما بينها إذ أن ما يجمعها من نقاط أكثر مما يفرقها ونأمل أن يتواصل هذا التلاقي إلى مزيد من الإيجابية ، إذ على المعارضة أن لاتنسى أن هدفها هو النظام الذي ما إنفرد بطرف سياسي إلا وضيّق عليه وحاول تدمير بناه التنظيمية وهياكله . فليس على الأحزاب الجادة أن يكون خصمها الأول غير هذا النظام الذي سعى إلى القضاء على الجميع وظل يعتبر نفسه صاحب المنة والفضل كلما سمح لأي حزب بالوجود، فليس للمعارضة الجادة من خصم غير من إعتدى على الجميع وكمم أفواه الجميع ، ولايمكن للتباينات الفكرية والإيديولوجية والسياسية بين المعارضات أن تكون مانعاً للتلاقي والتوحد وللنضال المشترك من أجل تحقيق أهداف مشتركة: حرية التعبير ، حرية التنظم ، حرية التنقل ، الحق في الإعلام وجميع ما تتضمنه القوانين واللوائح الدولية .
بعد عشرين سنة يبدو أن الحركة مُقْدمة على عقد مؤتمر جديد نتمنى أن يكلل أعمالها بنتائج إيجابية تعيد للحركة صيتها ومكانتها داخل البلاد [2]
توقيت ولادة حركة الإتجاه الإسلامي سنة 1981 يثير لدينا سؤالاً فيما إذا كان إنبعاثها خياراً بلغت فيه الحركة لحظة نضجها واكتملت فيها دورة نموها، أم أن الظروف الأمنية التي وجدت فيها الحركة نفسها قد دعت إلى الإعلان عن تأسيسها.
لعل المستقرأ للواقع الإسلامي يلاحظ أن الإسلام كدين وكدعوة وكفكر و كثقافة ينتشر ويشهد زخم كبير في ظل الحريات والعمل العلني حيث لا تشهد الساحة غير صراع للأفكار، ففي مثل هذه الظروف لا خشية على الإسلام. وسيكون المرء مكابراً لو قال أن الحركة أعلنت عن نفسها سنة1981 بعد إكتمال دورة نموها الداخلي ولم يكن للظروف الأمنية أي دخل . فقد عجّل الوضع الأمني بعض الشيىء في الإعلان عن الحركة ، لكن في ذلك الوقت أيضاً كانت هناك قناعة عامة داخل الحركة أن في أجواء الحريات لاخشية على الفكر الإسلامي في أي موضوع يطرح للنقاش ولعل هذا ما كان قد ذهب إليه إبن حزم في معنى قوله تعالى( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )[ سورة النساء آية 141 ] فيقول أن السبيل لايعني أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً مادياً ، ففي التاريخ الإسلامي وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما في عهد الصحابة، إنتصر المسلمون وإنهزموا ، لكن في إطار الجدل الفكري والحضاري لن يكون للفكر غير الإسلامي أي سبيل على الإسلام فينتصر عليه . بينما في الجانب المادي أصابت المسلمين الهزائم كما غنموا الإنتصار. ف«السبيل» هنا هو النقاش الذي يدور حول الدين والسياسة والإجتماع والثقافة ، فالفكر الإسلامي لايمكنه أن ينهزم في مواجهة الفكر الماركسي أو الفكر القومي أو غيرهما .. لكن هذا يتحقق في ظل مناخ من الحريات العامة التي تفسح المجال للجميع وليعرض حينها كل صاحب رأي قناعاته وأفكاره بحيث يقوم النقاش بين الطرفين على أساس الحُجة و الحُجة المضادة ، فلاخشية على الإسلام من صراع من هذا القبيل .
إذا هذه القناعة هي التي كانت تدفع أعضاء الحركة إلى الخروج للعمل العلني القانوني ومن ثم الإعلان عن نفسها في جوان 1981 ، فلو أن العامل الأمني لم يعجّل بإعلان الحركة عن نفسها ، ربما لم تكن الحركة لتطيل أكثر من ستة أشهر أو سنة على أقصى تقدير لتعلن عن نفسها بصورة طبيعية ، وذلك لأن القناعة بضرورة العمل العلني كانت لدى أعضاء الحركة عامة وقوية . ولأننا نعيش في ظل نظام قمعي يرفض العمل الإسلامي المنظم، فالعمل السري مرحلة ضرورية لإعداد النفس قبل الظهور العلني الذي، كما أسلفتُ بالقول، كان قناعة راسخة لدي الجميع، لذلك جاءت حادثة 5 ديسمبر لتعجّل بالإعلان فقط ، ففي 05 ديسمبر 1980 إكتشفت السلطات الأمنية التونسية لأول مرة أن العمل الإسلامي الموجود في المساجد والمدن والقرى التونسية لم يكن عملاً عفوياً وإنما كان مترابطاً فيما بينه من شمال البلاد إلى جنوبها بتنظيم يُرتِبُ أشغاله . وإنكشف هذا على إثر إجتماع للمكتب التنفيذي للحركة المنعقد بمقر جريدة الحبيب، فهال السلطة ما إنكشف لها من أمر هذه الحركة وقامت بحملة إيقافات في صفوف العناصر البارزة منهم حبيب ريحان من بنزرت و محمد سلمان من قفصة وحبيب اللوز من صفاقس....وشملت هذه الإيقافات بضع عشرات من الأفراد تم لاحقاً الإفراج عنهم بعد التحقيق. كان لدى القائمين على العمل الإسلامي قناعة قوية أن النظام يُعِدّ عُدته للانقضاض علينا، وكانت علاقتنا مع المعارضة جيدة وجلسات الحوار مع الديمقراطيين الإشتراكيين والحزب الشيوعي والوحدة الشعبية (واحد) فقد كانت علاقات طيبة وجلسات أسبوعية مستمرة وعمل مشترك وبيانات مشتركة ، وكانت لدينا مجلتي المعرفة والمجتمع ثم لاحقاً جريدة الحبيب [3] ومع أن الصحف التونسية كانت تتحدث عن الإتجاه الإسلامي و التيار الإسلامي فقد كان الحرص أن يتم الإعلان عن الحركة فلا ينقضّ النظام علينا وقسم من شعبنا لاعلم له بوجود هذه الحركة.
ثم كانت محاكمات سنة 1981 التي شملت عددا من قياديي الحركة، فكانت الأحكام الثقيلة للإخوة راشد الغنوشي وصالح كركر وصالح بن عبد الله وعلي نوير رحمه الله وحبيب ريحان وبنعيسى الدمني و الفاضل البلدي (غيابياً) و أخرون جميعهم صدرت ضدهم أحكام بعشر سنوات سجن ، ثم تلي ذلك أحكام بثمانية سنوات لعبد لعزيز التميمي وضو السويد ومحمد الصالح الشنني وأنا ثم تليها أحكام بخمسة سنوات لوليد البناني... وبعد المحاكمة تم فصل أصحاب الأحكام الطويلة عن أصحاب الأحكام القصيرة، فكنتُ من ضمن سبعة عشر سجين إسلامي في سجن برج الرومي ببنزرت رفقة مجموعة بنزرت الذين أقاموا معنا بالرومي نظراً لكونهم من المدينة ، وهم علي الغالي ومحمد علي المغربي وصالح الصفاقسي والبقية أحكامهم طويلة . وبموجب عفو رئاسي تم إطلاق سراحنا في أوت 1984.
إذًا هذا التيار الإسلامي تحوّل إلى حركة سياسية ، لكن ما يمكن أن نلاحظه هو أن السياسي طغى على الروحية الحاكمة لمشروع الحركة ، وصارت وتيرة السياسي متصاعدة على نحو متسارع ، كما لو أن الحركة تنقاد وراء واقع سياسي جارف أفقدها القدرة على ضبط النفس لصالح توازن معقول بين السياسي المحكوم بلحظة الواقع ومشروعها الحضاري الذي يحتكم إلى رؤية إسلامية يمثل فيها الروحي والأخلاقي حزامها ومقصدها ،لم يكن ذلك فقط قبل سنة 1987 بل كان أيضاً بعدها.
في واقع الأمر السياسة تشمل كل حياتنا، وما يقوم من تمايز بين الروحي في معناه التعبدي وبين الإسلام في معناه العام وما يشتمل عليه من سياسة بما هي أهم أركانه، فليس في الإسلام رهبانية،فجزء هام من الترقي الروحي يعود إلى الفرد بحد ذاته ، وليس مطلوب من الحركة ، في رأييّ ، أن ترعى الفرد في كل صغيرة وكبيرة ، فهي تحضن الفرد وتحضّه على تنمية روحه لكن ليس عليها الاعتناء به في هذا الجانب بصورة كلية وتفصيلية .فالأمر موكول للإستعداد الذاتي من أجل تنمية هذا الجانب في شخصيته .فالحركة لا تُلزم أبناءها صيام النوافل أو قيام الليل وإنما توجههم إليها وتحرص أن تجعل ذلك في صلب أنشطتها العامة منها والخاصة . قد يكون التفاوت بين الجانب الروحي والجانب السياسي ناتج بدوره عن الواقع السياسي ، فإضطرارنا في السابق إلى العمل السري لم يساعد على تحقيق مثل هذا التوازن ، فلو كان عملنا علنياً ، وإجتماعاتنا علنية وإتصالاتنا ونشاطاتنا كذلك فإن تأطيرنا سيكون أفضل والتوازن بين الروحي والسياسي سيكون أفضل ، لكن نتيجة لواقع القمع والمنع من العمل القانوني و التضيّق على الحركة وأبنائها في حرية العمل ، كانت الحركة في حدود ضرورات تلك المرحلة الأمنية تجتهد في توفير توازن معقول بين السياسي والروحي . فنحن ننظر نظرة واقعية للإسلام ، و ننطلق في تصورنا للمسألة من إعتبار أن ما هومطلوب من المسلم أساساً هو أن يكون إنساناً صالحاً وليس إنسان حافظ للقرآن مثلاً ، فالصحابي الجليل خالد بن الوليد خاض حروباً كثيرة وإنتصر فيها جميعاً لكنه لم يكن من حفظة القرآن ولم يكن ذلك نقيصة فيه، وكان يقول: شغلني الجهاد في سبيل الله عن حفظ القرآن ، ففي الحركة ذاتها نجد من كان متميزاً في الجانب الروحي ، من غير ذكر للأسماء إذ لا نزكي على الله أحد . كما في الحركة أيضاً من أبنائها من يغلب عليه نمو المقدرة السياسية والنضج السياسي ويتضاءل فيه تناسباً الجانب الروحي ، ولم يكن مع ذلك هذا التمايز نقيصة في هذا ولا كان خصلة في ذاك ،فهو إختلاف في الميولات بين الناس جُبل عليه الخلق جميعهم ليحقق تكاملا تقتضيه حياة الناس.
وإجابة لما يمكن لسؤالك أن يستبطنه من إيحاءات من أن التوازن بين الروحي والسياسي كان يمكن أن يضبط فعل الحركة الإسلامية ويجنبها المزالق المحتملة أستطيع أن أقول جازماً ، أن النظام كان يستعد للإجهاز على الحركة بقطع النظر عن أعمال الحركة ورؤاها في التسعين من القرن الماضي . كان النظام يستعد للإجهاز على الحركة وهويبحث فقط عن الفرصة المناسبة ،وإن لم توجد الفرصة كان لامحالة سيجدها . تذكروا جيداً أنه قد تم نشر وثيقة في أخر صائفة سنة 1990 في جريدة الفجر هي عبارة عن رسالة موجهة من رأس السلطة إلى الجهات الأمنية تدعوها إلى البحث عن العناصر الفاعلة في الحركة وإطاراتها وهياكلها ...وكان بها ملاحظة تطلب أعضاء الديوان السياسي للحزب الحاكم أن يبدي رأيه في المسألة. فقد كان النظام مصِممٌ على ضرب الحركة مهما كان تصرفها وموقفها وكان سيعمل على إيجاد حادثة شبيهة بال(منشية) [4] على نحو( منشية /باب سويقة) [5] ولمن كانت له الفرصة لمعايشة أبناء قضية باب سويقة والإستماع إليهم سيعلم أن ما حدث بباب سويقة لم يكن بفعلهم بالصورة التي أدينوا بها ، فلأول مرة في تاريخ القضاء التونسي تصدر أحكام ويقع تعقيب الحكم ويقبل التعقيب لتصدر أحكام جديدة ففي القضايا السياسية في تونس منذ الإستقلال إلى اليوم كانت تصدر الأحكام قاسية في المرحلة الأولى ثم يرفض التعقيب في المرحلة الثانية ثم ترفض الأحكام ، إلا في قضية باب سويقة وأكثر من دليل يمكن أن نسوقه يؤكّد أن إعادة النظر في هذه القضية كان لإعتبارات سياسية بحتة وليس لإعتبارات قانونية . فقد كان الحزب الحاكم وقتها قد شعر بالإهانة بعد تلك الحادثة وكان عليه أن يثأر لنفسه ويمسك القضاء بيده ويستخدمه لينتقم من حركتنا .
كانت حادثة باب سويقة مع ما يمكن أن يقال عنها من الناحية القانونية والمحاكمات التي أعقبتها في ظل شروط غير عادلة وما حملته من دلالات ، في تقدير المراقبين للشأن التونسي،فاتحة لشروع النظام في عزل الحركة والإحتجاج على سياساتها ، فكيف تقدّرون من جهتكم ذلك المنعطف ؟
مسألة العزلة السياسية التي أراد النظام أن يَشُلّ بها فعالية الحركة الإسلامية في التسعينات لم تكن الحركة مسؤولة عنها بصورة رئيسية والدليل أن الأطراف السياسية التي إنفضّت عن الحركة في حينها عادت اليوم إلى الحركة بطريقة أو بأخرى للتنسيق والتعاون والتفاعل واللقاءات المشتركة . فقد قدمت بعض الأطراف السياسية وقتها التحالف مع النظام على العمل مع الحركة ،وأعتبرت النظام حليفاً إستراتيجيا إلى أن خاب ظنها فيه في السنين الأخيرة.فكل من إنتهت مصلحة النظام معه ، إما أحاله على القضاء للمحاكمة أو أبعده أو سجنه . فبعد أن كان الإتحاد العام التونسي للشغل الطفل المدلل لدى النظام خوفاً من «الإتجاه الإسلامي/ حركة النهضة» حين إنتهى دور السحباني تخلص النظام منه ، وحين إنتهت مصلحته مع مواعدة تم التخلص منه وألقي به في السجن ، وحين إنتهى العمل بالتليلي زُجّ به هو أيضاً في السجن ، وهكذا فكلما قضى النظام مآربه بأحدٍ تخلّص منه على الفور، وهو مصير ينتظر جميع الأحزاب «المعارضة» الموالية للنظام فلكل منهم ملفات مفتوحة ولو شاء منير الباجي أو إسماعيل بولحية الخروج عن بيت الطاعة فسيجدا نفسيهما في السجن لأن تصرفات مالية ستكشف( مزيفة أو حقيقية) من يدري ؟ يعود تاريخها إلى ثلاث سنوات أو عشر سنوات.
ففي المحيط السياسي التونسي هناك شيء من قبيل العقدة السياسية إزاء النهضة يشعر بها عددٌ من الأطراف السياسية في تونس ، وهذه العقدة تتمثل في أن هذا الحزب الجماهيري الضخم الذي كان يضم آلاف الطلبة وآلاف التلاميذ وآلاف العمال وهو منتشر في كل المدن التونسية والقرى والمداشر والأرياف ، إستطاع النظام أن يجهز عليه.وهكذا أرهب النظام المعارضة فجعل من تصفية الطرف السياسي الأكبر في الشارع (حركة النهضة) درساً يتعض به بقية المعارضة الأقل حجماً ، ثم إن عقدة أحزب الديكور هذه ، هي أنها يوم تخالف النظام في قضية بسيطة وتخرج عن بعض الخطوط الحمراء أو حتى الخطوط الوردية ستجد هذه الأحزاب نفسها أو قياداتها في السجن ، وهو المآل الذي إنتهى إليه مواعدة أو السحباني أو التليلي ، فهذه العقدة ترسم المسار الأكثر سلامة للفعل ، بل وتسوّغ البحث عن مبررات من شأنها أن يطمئن بها إلى تواطئه والإنسياق وراء السياسة المقررة .
ففي تقديري ما كان لنظام سبعة نوفمبر أن يستمر لو أن المعارضة قدمت العمل المشترك على عملها مع النظام، فالذي ساعد النظام على بلوغ أهدافه هو وجود مجموعة من الأحزاب والشخصيات السياسية والمثقفين الذين اختاروا السير مع النظام. لو أن عمل الجميع تركز على أن حق التعبير هو حق مقدس لايجوز لأية سلطة أن تنتهكه ، ولو أن الجميع جعلوا من السجن السياسي محرم و التنظم السياسي حق مكفول للجميع لكان حال البلاد أفضل مما هي عليه الآن . لكن بعض المعارضة حينها لم تكن تجد غضاضة في غض الطرف عن إنتهاكات النظام إن كانت تلك الانتهاكات تستهدف حركة النهضة التي إكتسح أبناءها الجامعة . وبدلاً من أن يقف الجميع ضد تلك الانتهاكات، كانت مباركتهم لتلك الانتهاكات قد عمّقت لدى النظام رغبته في مزيد من الإنتهاك ليصبح هذا الإنتهاك بعد حين واقعاً مقنناً ستجري أحكامه على الجميع . فقوة النظام من قلة تنسيق المعارضة فيما بينها وأيضاً من سوء ظن بعضها ببعض. فالقول أنه لو تركت حركة النهضة تشتغل فستأكل الأخضر واليابس قول كان يهيأ لمعاداتنا وضربنا فالأصل أن من يعتقد في كونه ديمقراطي كان عليه أن يدافع عن حق أي مواطن تونسي في التعبير عن رأيه أو ممارسة السياسة من داخل أي حزب يختار.
غير أن الأحزاب السياسية ذات العمق العقائدي لايمكن القضاء عليها بجرة قلم أو بقرار من رئاسة الدولة، فليس هناك من خيار أمام السلطة إلا التحاور معها بعد فشل كل الوسائل القمعية الأخرى ، فماذا حقق عبد الناصر بضرب الإخوان المسلمين ، ذهب عبد الناصر وبقي الإخوان وحافظ الأسد الذي دمر مدينة حماة على رؤوس الإخوان المحتمين ببيوتها ، ذهب حافظ الأسد وبقي الإخوان ، ماذا فعل صدام مع حزب الدعوة وغيره ، ذهب صدام وبقي حزب الدعوة . فواهم من يعتقد أن الإجراءات والتضيقات والملاحقات البوليسية والمحاكمات يمكنها أن تقضي على حزب سياسي بقطع النظر عن هذا الحزب السياسي من يكون .
وفي الوقت الحاضر بات من المستحيل عودة المواجهة بين السلطة و الإسلاميين فقد إتعضت المعارضة بدرس التسعينات وتأكدت أن ترك الإسلاميين لوحدهم في المواجهة لم يكن في مصلحتها ولا في مصلحة البلاد .
ولقد سبق لنا أن صرّحنا في أكثر من بيان ومناسبة أن حركتنا، حركة النهضة لا تحتكر هذا الدين، وما ينطبق علينا في ما يتعلق بالإسلام، ينطبق أيضاً على غيرنا ممن ينطقون باسم الديمقراطية أو التقدمية أو الاشتراكية أو العروبة أو الدستور .فالمواجهة الضرورية ليس بإستخدام العنف ضد طرف سياسي وإنما بفتح مجال الحوار للجميع ، ونحن في حركة النهضة لانخشى الحوار بل واثقون أن الحوار يقوينا، وما نعلمه جيداً هو أن فرعون كما جاء في القرآن لم يرفض النقاش ودعا ليتكافح مع موسى يوم الزينة على مرأى ومسمع من الناس أما حكام اليوم فليسوا على إستعداد ليخوضوا غمار مناقشات وحوارات مع خصومهم ، فليس بأيديهم غير الاستئصال وخداع الرأي العام .
والمحاكمات السياسية السابقة بما فيها تلك المتعلقة بإتحاد الشغل كانت تدين النقابيين بقلب نظام الحكم ، وضبطت حينها سلاسل وقضبان حديدية وحجارة في سطوح إتحاد الشغل وإتحاد الطلبة ،وكانت الكذبة تنطلي في كل مرة على المعارضة ،فنفس التهم كانت توجه إلى اليوسفيين واليسار وإتحاد الشغل والوحدة الشعبية و نفس السيناريوه يُعاد في كل مرة واُعيد مع الإسلاميين في تسعينات القرن الماضي . لكن هل سيظل واقع الإسلاميين في حالة إستضعاف دائمة ، لن يكون الأمر كذلك أبداً لأن متغيرات دولية ونمو داخلي في مستوى الوعي السياسي والحضور البشري في الساحة جعل من الوجود الإسلامي في عدد من الدول وجوداً معترفاً به بدرجات متفاوتة مثل مصر والأردن و الكويت واليمن والجزائر والمغرب ولبنان والسودان وتركيا وفي أسوأ الأحوال يُغض عنها الطرف كما يحدث في مصر ولن تظل تونس إستثاءاً أبدياً .
الواقع أن الحركة الإسلامية منذ ظهورها لم تعش في ظروف عادية، وأبناء الحركة جميعهم مع المراجعة وتقييم مسيرة الحركة رغماً عن هذا الظرف الإستثنائي لكن ذلك يجب أن يُحدِث تَعطيلٌٌ لكل جهد عملي ،وأنا لا أقول أن خط الحركة كان مقدساً ودون أخطاء ، لكن مع تلك الأخطاء إن وجدت، ليس هناك ما يبرر وقوفي بعيداً عن الإهتمام بشأن الحركة ،فهناك مخلفات محنة التسعينات التي أورثت مشاكل إجتماعية في مستوى السجناء المسرحين والمبعدين أيضاً وخصاصة وأمراض نفسية وبدنية في وضعيات حرجة وما إلى ذلك من المشاكل التي يجب الاعتناء بها بتوفير إسناد إجتماعي لصاحب الحاجة .
أما على المستوى الخارجي فحركتنا لم تقطع أبداً إتصالاتها مع أي طرف سياسي ، وفي الوقت الذي كانت حركة الوحدة الشعبية 1 ترفض الجلوس مع حركة الوحدة الشعبية 2 وكان الحزب الشيوعي يرفض الجلوس مع حزب العمال الشيوعي التونسي ، كنا نحن في حركة النهضة نجلس مع جميع الأطراف بما فيهم السلطة، لم نكن نرفض الحوار مع أحد من الأطراف الوطنية، وقد أعربت الحركة في عدة مناسبات على إستعدادها للمصالح مع السلطة رغم المظالم التي لحقت بها طوال السنين الماضية،لكن أسمعتَ لو ناديتَ حياً ، والسلطة لم ترفض التحاور معنا فقط بل هي ترفض التحاور مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وترفض الحوار مع نقابة الصحافيين وترفض الجلوس للتحوار مع الأحزاب القانونية التي منحتها التأشيرة ، فكيف يمكن محاورة هكذا نظام ، فالدكتور المرزوقي لايجانب الصواب حين يقول أن هذا النظام لا يَصلُح ولا يُصلَح.
.......يتبع
[1] كان ذلك خلال لقاء بالأستاذ عبد الله الزواري في شهر نوفمبر 2006 بجرجيس وقبل أن تعقد حركة النهضة مؤتمرها الثامن في جوان 2007
[2] سينعقد المؤتمرالثامن لحركة النهضة التونسية في الخارج في جوان 2007
[3] مجلةالمجتمع / مجلةالمعرفة / هي المنشورات الدورية التي كانت تصدرها الحركة في طور الجماعة الإسلامية وإثر إعلان حركة الإتجاه الإسلامي عن نفسها أما جريدة الحبيب:فهي المطبوعة الثالثة للحركة بعد مجلة المجتمع ومجلة المعرفة، ولم يوزع منها إلا ثلاثة أعداد قبل إيقاف صدورها.
[4] حادثةالمنشية: تعرض الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 26 أكتوبر 1954 لمحاولة اغتيال فاشلة في ميدان المنشية بالإسكندرية ستُتَهمُ جماعة الإخوان المسلمين بترتيبها وسيَشن نظام عبد الناصر على إثرها حملة اعتقالات واسعة ضدهم
[5] واقعة باب سويقة :قام عدد من الإسلاميين المتعاطفين مع حركة النهضة في مطلع تسعينات القرن الماضي بحرق مقرّ لجنة التنسيق للتجمع الديمقراطي الدستوري، لما بلغ إلى علمهم أن قوائم ومعلومات بأسماء إسلاميين يجري تجميعها هناك قبل الإعداد للإعتقالهم، أما بقية المشهد فقد أثثت فصوله فرق الأمن التي إلتحقت بالمكان لتجعل من الواقعة « جريمة نكراء »إلا أن كثيراً من الغموض إكتنف العملية ذاتها والظروف التي أدت إلى وفاة الحارس السيد عمارة السلطاني وقد شكّلت تلك الواقعة صدمة في نفوس عدد من قيادات الصف الأول داخل حركة النهضة: الأستاذة عبد الفتاح مورو والفاضل البلدي وبن عيسى الدمني ونور الدين البحيري الذين قرروا سعتها تجميد نشاطهم داخل الحركة. وفيما وصفت السلطة هذه العملية بالإجرامية، أكدت حركة النهضة أنه لا علاقة لها بهذه العملية ولا علم لها بها قبل وقوعها، وقد إستغلت السلطة هذه الواقعة لتشن حملة واسعة النطاق على الألآف من أبناء الحركة وقياداتها بعد أن حكمت بإعدام إثنين من الإسلاميين .
الجزء الثاني
حاوره فوزي الصدقاوي
[email protected]
5.هل لكم أن تحدثونا عن محنة التسعينات من القرن الماضي في السجون التونسية كما عايشتموها وعاشها السجناء السياسيون و كيف تقرؤون أبعادها ؟
كنتُ قد حوكمتُ في جميع محن الحركة الإسلامية وذلك في سنة 1981 وسنة 1987 ثم سنة 1991....ففي سنة 1981 ونحن في السجن كانت علاقتنا مع السجانين عادية كما كانت علاقتنا بعائلاتنا على ما يرام وأذكر أنه في أحد الأيام فتح علينا أحد الأعوان في السجن الباب وشرع يدفع إلينا ب(الدلاع) فسألناه عن الأمر قال : أن فلاحاً من أبناء الجهة بعث إليكم بهذا الدلاع ، كانت بعض تلك(الدلاعات) قد كُتب عليها «الإتجاه الإسلامي» والإدارة لم تر في هذا تصرفاً مخالفاً للقانون ولا مستنكراً من قبلها بل إستلمت الدلاع من المواطن وسلمته إلينا ، لكن في نظام زين العابدين بن علي تقطع عائلتك مائات الأميال دون أن تتمكن من أن تسلمك قفتك[6] للأن نظام السجن جعل للزيارة يوم وللقفة يوم ، ما الذي تغيير من سنة 1981 إلى سنة 1991 حتى يتغيير نظام السجن ؟ فالحركة وأبناؤها وقادتها الذين حوكموا سنة 1981 هم أنفسهم الذين حوكموا سنة 1991 مع أبنائها الجدد من التلاميذ و الطلبة والعمال والأساتذة بل إن السجانين أنفسهم لم يتغيروا، فالنظام وحده الذي تغيير، فيوم كنت في سجن الناظور سنة 1981 بعث إليّ أحد تلاميذي وهو مقيم في مدينة بنزرت قفة كتب عليها( عبد الله الزواري /حركة الإتجاه الإسلامي) وقد سلمت إلي الإدارة القفة [1] دون أن تجد أي داعِ للإعتراض أو اللإمتناع ، فقد وظفت السلطة السياسية ضدنا كل شيء فوظفت القضاء ليصدر ضدنا أقسى الأحكام الجائرة وسخّرت إدارة السجون للتنكيل بنا والتشفي والإنتقام وسخّرت مصالح الأمن لتصفية طرف سياسيّ معتبرٍ في الحياة السياسية بتونس . وتحولت مؤسسات الدولة في قبضة الحزب الحاكم تنفذ سياساته . فما مورس ضدنا منذ بداية التسعينات وإلى يوم الناس هذا مخالف لكل الأعراف والقوانين وسأقدم لك بعض الأمثلة:
في سنة 1981 كانت عائلتي تقيم في جرجيس فيما كنت في سجن الناظور ولم يكن بإمكان عائلتي أن تزورني نظراً لبعد المسافة(+500 كلم) غير مرة واحدة كل ثلاثة أو أربعة أشهر فسألت مدير السجن إن كان يمكن لعائلتي أن تزورني أكثر من مرة في الأسبوع إن هي أمكنها الإقامة بتونس العاصمة لمدة أسبوع أو أسبوعين ، لم يعترض بل سمح لعائلتي بالزيارة ثلاثة مرات في الأسبوع ، وقد قدرت من جهتي كسجين أن هذا التصرف ينم عن إنسانية وحكمة . كان ذلك قبل أن توجد قوانين ترتيبية للسجون وقبل أن تصبح السجون تحت إشراف الإدارة العامة وقبل أن يصبح ضباط السجن متخرجون من الأكاديمية لتسير السجون ، كان مديري السجون حينها قد ترقوا من خيط إلى أربعة خيوط إلى نجمة بيضاء ثم نجمة صفراء .
في سنة 1995 وبعد ما يقرب عن تسعة أشهر لم تكن تعلم عائلتي عني أي شيء ولا بأي سجن أقيم، فآخر زيارة إلتقيتُ بهم فيها كانت في المهدية في سبتمبر 1994 وكانت من وسائل العقاب حرمان السجين من وصول رسائله إلى أهله ، فيسمح لنا بكتابتها ثم تحجز عندهم . ومن سجن المهدية تم نقلي إلى رجيم معتوق ثم إلى الهوارب والسيد فيصل الروماني الذي صار اليوم رائد كان من بين العقوبات التي هو بذاته أعلن عنها: أن رسائلي لن تصل إلى عائلتي. وبقيت أخباري مقطوعة عن العائلة من سبتمبر 1994 إلى أكتوبر 1995 وبعد أن ذهب فيصل الروماني و ذهب مدير عام السجون الحاجي غير مأسوف على عهده ليحل محله مدير عام جديد هو العقيد توفيق الدبابي ، تعدلت بعض الأشياء ، فعلمت عائلتي بمحل وجودي وقدِمت لزيارتي يوم 17 أكتوبر وقدمت والدتي المسنة متحاملة على نفسها لزيارتي بسجن الهوارب ، ومع أن القانون يسمح لذوي السجين عدم التقيد باليوم المخصص للزيارة السجناء إذا كانت الزيارة الأولى فقد منعوا عائلتي من زيارتي يومها بحجة أنه ليس يوماً مخصصاً للزيارة ولم يوقروا إمرأة مسنة جاءت تزور إبنها بعد أن فقدت أخباره لتسعة شهور ودعوها للعودة في اليوم الموالي . باتت والدتي ليلتها تلك ،وهي كما أذكر ليلة ماطرة و عاصفة، عند عتبة احدى الحوانيت في الهوارب وفي الصباح حملتْ نفسها إلى السجن لزيارتي ، كانت والدتي في جميع المحاكمات تشد أزري وتطمئنني، ولم تبكي يوما عند المقابلة ، بل إنها طلبت من مدير السجن يوم كنا في إحدى مقابلات السجن سنة 1981 أن تبقى مع السجناء لتغسل لنا ثيابنا وتطهو لنا الطعام وكنت أخرج للزيارة وقتها مع الشيخ راشد الغنوشي، فطمأنها مدير السجن: أنهم يعتنون بنا ويلبون طلباتنا وأنه ليس عليها أن تقلق على حالنا .
لكن في تلك الزيارة من صبيحة يوم 17 أكتوبر 1995 إستقبلتني والدتي عند الزيارة باكية وأبت أن تحدثني بشيء حتى لاتنغص عليَّ ، إلى أن روى لي شقيقي ما كان من أمر إدارة السجن من رفضها السماح لعائلتي بالزيارة وما كان من إصرار والدتي على المبيت في الطريق العام وعدم العودة قبل أن تراني وقد إغتضت لذلك وهالني أن أسمع ما تكبدته والدتي من متاعب . هذا بعض ما يمكن أن يُعْطي صورة عن وضع السجين وعائلته على عهد نظام بن علي، والواقع أن أشنع منه حصل للسجناء وعائلاتهم. بينما في عهد نظام بورقيبة كان مدير السجن بشير الشنّوفي الذي أمضينا تحت إدارته ثلاثة سنوات سجن قد قدِم إلينا ليودعنا باكياً معانقاً يوم مغادرتنا لسجن الناظور إلى سجن تونس . ومع أنه كان معروف بإدمانه على شرب الخمر إلا أنه كان يعامل السجناء معاملة إنسانية وقد قال لنا عند المغادرة « مرّ أمامي جميع أصناف سجناء الحق العام،لكنكم صنف آخر من السجناء ولا يمكنني أن أخطأ في حقكم ، فإن كان جماعة السياسة قد أخطؤوا في حقكم ، فليس علينا نحن كإدارة السجن إلا أن نقوم بوظائفنا كما يوجبها القانون» والغريب أن هذا الرجل لم يدرس بالجامعة ولا بأكاديمية ولا درّسوه حقوق الإنسان ولا لقّنوه دروساً في إدارة السجون وكل ما في الأمر أن مشاعر إنسانية كانت حاضرة وقِِيماً أخلاقية كانت تحكم سلوكه هو وأعوانه ، لم تمنعه من أن يفعل الشيء الصحيح . هذا على أيام بورقيبة أما الآن فإنه رغم كون القوانين تسمح بالزيارة الأولى في أي يوم وفي أي ساعة دون إلتزام بالضوابط القانونية ليتم بعدها تحديد يوم الزيارة المقرر لعائلة السجين وساعتها في المستقبل ، فقد جرى منع والدتي المسنة من زيارتي ، بعد أن تكبدت عناء السفر الطويل .
لقد كانت تعليمات النظام لإدارة السجون لأجل تنفيذها في حق السجناء السياسيين تتمثل أساساً في التشفي والإنتقام، فالنيابة العامة في محكمة بوشوشة العسكرية ممثلة في السيد محمد قزقز طالبت في مرافعتها : « ...بإبادة هؤلاء...» رغم أن الإبادة جريمة محرمة دولياً ، والواقع أن المحاكم جميعها لم تصدر أحكاماً بالإبادة في حق الإسلاميين فإن ما مورس في حقهم أيام التحقيق في مخافر الأمن وأقبية الداخلية ولاحقاً في السجون التونسية كان إبادة وموتاً بطيئاً رأينا ولا نزال نرى نتائجه القاتلة .
أذكر مثالاً على ذلك، أحد إخواننا من صفاقس( حبيب الفقيه أو حبيب العيادي) حُكم عليه بثلاثة سنوات سجن و زجّ به في غرفة المدخنين ، فأصيب ببحة في صوته ولم يُسمح له بالمعالجة إلا بعد محاولات مضنية ، وبعد الفحوص قدرالطبيب أنه مصاب ببداية سرطان في الحنجرة ، وأوصى في تقريره أن يُنقل المريض إلى غرفة أخرى ليس بها مدخنين وكان أمله أن يكون في حصة الفحص القادمة قد تحسنت حالته بصورة ملحوظة ، فما كان من إدارة السجن إلا أن فعلت عكس ما أمر به الطبيب فاُخذ إلى غرفة مدخنين تزيد أعدادهم عن مائتي سجين، عاد السجين إلى الفحص ثانية لاحظ الطبيب أن حالته إزدادت سوءاً وفَهم أنه نُقل إلى غرفة فيها أعداد أكبر من المدخنين .
فأعاد الطبيب كتابة التقرير مشدِداً على ضرورة إبقاء السجين المريض بعيداً عن المدخنين، لكنه في الحصة التالية لم يتبين أن شيئاً قد تغيير، سأل الطبيب عن مدة الحكم فقال له السجين هي : ثلاث سنوات ، فأسر له الطبيب قائلاً : واضح أنه لارغبة لهم في معالجتك ولم يبق أمامك سوى أن تقضي السنتين المتبقيتين من الحكم فالمرض في بدايته ولن يتطور خلال السنتين القادمتين تطوّراً خطيراً ، إليك عنواني.. تعالى إليّ لأعالجك حين تغادر السجن.
ولقد تطورت حالة السجين فبلغت به حداً يعجز فيها عن إسماع صوته ، فكان حين تزوره عائلته في السجن يسمعها لكنه يعجز على إبلاغها حاجته لأن بَحَة شديدة ذهبت بصوته ولايكاد أهله يوم الزيارة ، يسمعونه وسط تعالي أصوات باقي السجناء والعائلات . وحين طلب في إحدى المرات أن تمنحه إدارة السجن بضع دقائق حين تهدأ الأجواء بعد الزيارة ويكون الزوّار قد غادروا ، فتصبح العائلة قادرة على سماع صوته الخافت ،أو يسمحون له بكتابة طلباته على ورق ، فقامت الإدارة بمعاقبته بنقله إلى سجن آخر حيث قضّى بقية محكوميته ثم خرج ليعالج نفسه . هذا مثال واحد والأمثلة كثيرة عن حالات إصابة السجناء بأنواع من السرطانات ، فإن نحن لم نعتبر الظروف السجنية سبباً رئيسياً في نشأة هذه الأمراض فلا يمكن تبرئة إدارة السجن من الإهمال الصحي الذي سمح لعدد من الأمراض أن تستفحل في الجسم وتفتك به .
لو لم يكن هناك سوء نية لماذا ينقل السجين المريض بالرغم من توصيات الطبيب ، من غرفة بها مائة سجين مدخن إلى غرفة بها مائتي سجين مدخن ، ألم يكن من الواجب إتباع توصيات الطبيب ؟ لماذا يوضع في العزلة السيد حمادي الجبالي و السيد صادق شورو والسيد علي العريض؟ إن لم يكن نكالة بهم ،لماذا لا يوضع في العزلة أيضاً سجين مريض ليس مطلوب غير حمايته من تلوث غرف المدخنين إن لم يكن رغبة مضمرة من الإدارة في إستفحال مرضه . لذلك نقول أن الإنتقام والتشفي سياسة متبعة ومبرمجة و لولم تكن سياسة متبعة لكنا شاهدنا مدير سجن متسامح وآخر متشفي ، ومدير سجن يمنع من الزيارة ومدير سجن يمكّن من الزيارة ومدير سجن يهمل الناحية الصحية للسجناء ومدير سجن يُعنى بصحة السجناء . لكن مايجري في كل السجون كان مبرمجاً مسطراً ومخططاً ومدروساً وليست أبداً عملية عفوية، ولم تكن هذه الممارسات مسلطة فقط على السجناء بل أيضاً على عائلاتهم.
فحين نسمع أن امرأة مسنة تزيد عن الستين من عمرها تنتقل من تونس إلى ولاية المدنين لتبيت ليلتها في فندق لتتمكن من زيارة إبنها الشاذلي النقاش في سجن الحربوب وحين يتم إكراه نساء على تطليق رجالهن ، فزوجة السجين معتوق العير حين تستقل سيارة أجرة يستوقفها رجال الشرطة في جبنيانة ويمنعونها من زيارة زوجها ويجبرونها على إعلامهم قبل أن تغادر محل سكناها قاصدة زيارة زوجها ثم يطلب منها إخبارهم بعد الزيارة بما تحدث به إليها وداوموا على ذلك مضيقين عليها غدوها ورواحها حتى قررت الطلاق فعدد من النساء لم يجدن من الطلاق حينها بد إلى أن يتغير الحال ، أما أبناء المساجين فقد تحملوا هم أيضاً متاعب ما أصاب أباؤهم فمعظم السجناء دخلوا السجن وأعمارهم بين 30 و 40 سنة وتركوا أبناءهم في أعمار تتراوح بين 3 سنوات إلى 7 سنوات في حاجة إلى عطف ورعاية الوالدين بصورة متوازنة ، فما يحتاجه الأطفال في ذلك السن من رعاية وعطف وتربية متوازنة لايمكن تعويضه لهم في سن 12 سنة أو بعد ذلك وسيظل ذلك النقص مسبب لخلل سيلازم شخصيته لاحقاً ، وتلك في حقيقة الأمر الجريمة الكبرى كما نتصورها . فبُعد المسافة بين محل سكنى العائلة و السجن الذي يقيم به رب العائلة( من شمال البلاد إلى جنوبها والعكس) وقلة ذات اليد التي تعاني منها عائلات السجناء ستجعل من الفرص القليلة التي يمكن أن تعوّض للطفل عند مقابلة أبيه ما يحتاجه من عطف وحنان سوف يكون من العسير توفيرها له وإن أمكن لتلك الزيارة أن تكون بعد بضع شهور طويلة فبإجهاد وإذلال لأجل لقاء لا يزيد في أحسن الأحوال عن ربع الساعة( في « سنوات السجن الذهبية » !!! أي بعد سنة 1998 أما قبل ذلك فلم تكن الزيارة تزيد عن الخمسة دقائق).
ومادمتُ قد ذكرت الزيارة فلا بأس أن أجري ثانية مقارنة بين ما كان من نظام السجن في العهد السابق( العهد البورقيبي)، فلم تكن الزيارة مقيدة بوقت وكان يمكن أن يسمح لك بالزيارة لما يزيد عن الساعة ونصف الساعة ، ولن تنتهي زيارتك إلا إذا كان هناك شخص آخر جاء بدوره لأداء زيارة لقريبه فيطلب منك حينها المغادرة لتفسح له المجال . ففي سنة 1981 جاءنا مدير السجن وطلب منا أن ننظم زياراتنا فيختار كل واحد منا يوماً للزيارة على النحو الذي نريد بصورة توفر لنا الراحة وتحقق للإدارة ما تطلبه من سير النظام. فكان الشيخ راشد الغنوشي ومحمد الصالح نني و عليّ نوير رحمه الله يلتقون بزائريهم يوم الإثنين ومحمد الصالح كركر وصالح بن عبد الله يوم الثلاثاء ، عبد الرؤوف بن رمضان ونجيب العياري يوم الأربعاء، يوم الخميس ..؟ يوم الجمعة جماعة بنزرت صالح الصفاقس وعلي الغالي ومحمد علي المغربي وحبيب ريحان ويوم السبت وليد البناني وبن عيسى الدمني وأنا ويوم الإثنين ، وحبيب ريحان كان يلتقي بزائريه يوم الإثنين فقط فطلب مقابلة مدير السجن شارحاً له أن عائلته كبيرة و جميعهم من بنزرت ولا يليق أن يتحدث إلى زوجته بحضور إخوته والأقارب من العائلة وسأله أن يمنحه يوماً إضافياً للزيارة تكون لزوجته وأبنائه فقط ، فوافق مدير السجن على الفور أن يجعل له يوم الجمعة يوماً إضافياً. فما الذي أنقص من هيبة إدارة السجن حين تحسن معاملة السجين ، لقد كانت الزيارة على تلك الأيام مباشرة في غرفة فسيحة ومدة الزيارة غير مقيدة بوقت فالزيارة تبدأ الساعة التاسعة ولاتنتهي الزيارة ما دام ليس هناك سجين أخرى جاءت العائلة لزيارته، وإن لم تكن هناك زيارة من قبل عائلة أخرى تستمر مقابلة العائلة الأولى مع إبنها السجين يجلسون على طاولة حيث تُبسَطُ المأكولات ويتبادل أفراد العائلة أطراف الحديث أثاء الأكل .
كانت الإدارة في هذا العهد تحرص على تدمير نفسية الطفل بإبعاد والده السجين عن منطقة سكناه وكانت الزيارة تتم عبر الحواجز وهوما يسيىء إلى الطفل وهو يلتقي بأبيه وقد ضرب بينهما الحواجز من كل جانب ويشاهد أباه محجوزاً كما لو أنه حيوان في قفص يحول دونهما وأي ملامسة أومعانقة . أما الرسائل التي تساهم في تخفيف الوطأة على الأبناء والزوجة بعض الشيء ، فإنها كانت تمنع ، ففيصل الروماني كانت إدارته لاتسمح بأكثر من رسالة واحدة في الشهر ، لاتصل إلى عنوانها، ماذا يعني هذا غير إرادة التدمير المنهجي لكل علاقة يمكن أن تساعد العائلة عن النهوض والأطفال على التماسك.
على المستوى الاجتماعي كان يراد عزل أبناء الحركة عن عموم الناس، فحين يرى المواطن العادي أن حركة بحجم حركة النهضة في وقتها يتم ضربها بهذا العنف وإنتهاك حرمات أبنائها وعوائلها بمثل هذه الوحشية فإن الدرس الأول الذي سيلتقطه هذا المواطن وغيره من المواطنين هو أن دائرة العمل السياسي دائرة خطرة وأنه ليس في مقدور أحد من السياسيين أن يدرأ عن نفسه العقاب إن هو إقتحم منطقة السياسة ومارس حقه الدستوري في العمل السياسي . فالنظام فرض علينا بوسائله الأمنية والقمعية عزلة قاسية ثم ساهم فيها مع الأسف أطياف من المجتمع بدرجات متفاوتة فبعض إخواننا من بنزرت كانت كل زيارة له تتحول إلى« مَنْدَبَةٌ» إذ كان يعود إلينا باكياً لِما يصله كل مرة من أخبار التنكيل بزوجته وأبنائه ووالديه بينما طليعة المجتمع تستمر على صمتها غير مبالية في معظمها بمأساة الإسلاميين وعائلاتهم وأبنائهم فما ضَرَ المثقفين وطلائع المجتمع لو أنهم ساندوا الإسلاميين في محنتهم أو وقفوا في وجه النظام مستنكرين ما يقترفه في حقنا، ففي أوروبا يمكنك أن تجد جمعية ( زوار السجون أو ماشابه ذلك) لها موقع واب (web) تُعنى بسجناء أشربوا الإجرام يقوم أعضاء هذه الجمعية بزيارتهم والإطلاع على أخبارهم ومساعدتهم على بعض شؤونهم وتتكفل بعض العائلات الميسورة بأحد السجناء و وزيارتهم في المناسبات الدينية والأعياد وليس ذلك إلا حرصاً على أن لايخرج ذلك السجين أكثر إجراماً. وهكذا فلقد كانت السلطة جادة في إبادتنا ولأنه لن يكون بإمكانها أن تفعل ذلك بصورة فعلية ومباشرة فهي تمارس ذلك بطرق مختلفة بإهانة السجناء والدوس على كرامتهم والتسليط عليهم أقسى الأحكام و أطولها مدداً وحشرهم في السجون بعيداً عن عائلاتهم وفي أسوء الظروف الصحية مما جعل الموت البطيء يؤدي بالمساجين في أحاين كثيرة إلى وفاتهم .
6. عمِلت السلطة على خلق فراغ حول الحركة في الساحة السياسية ولكنها أيضاً في الساحة السجنية عمدت إلى عزل السجناء السياسيين من الإسلاميين عن باقي السجناء وسجناء الحق العام على وجه الخصوص ، كيف تعايشتم مع سياسة العزل هذه داخل السجون ؟
كان النظام حريصاً على أن يبقى إشعاع الإسلاميين داخل السجون بعيداً عن مساجين الحق العام، غير أن المصائب دائماً توحّد الممتحنين، فحين تضع الإدارة إبن الجنوب في سجن ببنزرت مثلاً فإنها تعمل على أن تقطع صلته بعائلته أولاً وبالسجناء الحق العام من أبناء مدينته ثانياً ، وهكذا يُحرَم السجين السياسي من أن تتصل عائلته به كما يُحرم من أن يلتقي بأبناء منطقته من سجناء الحق العام الذين لامحالة سيتعاطفون معه بحكم الإشتراك في محنة السجن . ورغماً عن تلك الإجراءات ،لم يحقق النظام نجاحاً معتبراً في السجون مثلما تحقق خارجه .
وأروي حادثة من بين عشرات الحوادث المماثلة : ففي جويلية/أوت من سنة 1993 رَحّلتنا إدارة سجن المهدية ، محمد صالح قسومة وكريم الهاروني ومنوّر النصري وأنا إلى تونس وكان الأخ صادق شورو مع شكري بحرية في غرفة أخرى وتنكيلاً بهما قامت الإدارة بوضع ثلاثة من مساجين الحق العام ممن كانت تصنفهم الإدارة على أنهم الأكثر شراسة ووضاعة من بينهم سرحان العياري أو (ولد العيارية) من جهة الكرم ومنصف الدزيري وثالث نسيت إسمه وكان المقصود هو إزعاج الإخوة صادق شورو وشكري بحرية وجعل غرفة السجن عليهم جحيماً لكن بعد بضعة أيام سمعنا شكري ( هذا الذي عرف وقتها على أنه مجرم كبير) يخبر صديقاً له في غرفة أخرى أنه أصبح يؤدي فريضة الصلاة معلقاً بصوت عالي أنه « لا خوف إلا من الله» . وفي إحدى الأيام فتح الملازم الأول نبيل العيداني ( صار لاحقاً مديراً) غرفة السجن ليجد الجميع بمن فيهم سرحان ولد العيارية يؤدون صلاة المغرب في جماعة بإمامة الأخ صادق شورو . فقاموا بتفريقهم ووُضع الأخوة صادق شورو و شكري بحرية بمركز العقاب وكان الأخ صادق شورو قد أمسك يد الملازم الأول نبيل العيداني حين همّ هذا الأخير بصفع الأخ شورو ( وهي من كبرى الخطايا التي يقترفها سجين تلك الأيام سنة 1993) فهاجمه عدد من الأعوان وأوقعوه أرضاً وإنهالوا عليه ضرباً وشدوا وثاقه بالفلقة وتناوبوا على ضربه ، والواقع أن المرء كثيراً ما يجد نفسه عاجز على فعل ما يريد لكن في واقع الأمر من ذاك العجز ومن ذاك الضعف تُولَد القوة ، فقد حاول نبيل العيداني بعصاه الغليظة وبكل ما فيه من نذالة أن يجعل الأخ صادق شورو يتأوه فيُسْمَعَ أنينه، لكن دون جدوى فقد تماسك الأخ صادق ولم يُسْمَع له صوت رغم الضرب الشديد الذي ناله وطول الوقت الذي إستغرقه . وقد زاد مقامه عندي علواً لصموده ورباطة جأشه، فلم يكن أحد محصن في السجون التونسية سواء كانوا قيادات أو كانوا قواعد، حدث ذلك في أوجّ عهد أحمد الحاجي الذي قضت أرواح كثيرة على يديه ، الأخ الحبيب بن عمر قضى في 9 أفريل في إدارة الحاجي وسيأتي الوقت الذي يُفتح فيه هذا الملف لأن شهوداً حضروا وشهٍدوا على هذه الجرائم.
كانت بيت سبعة بسجن 9 أفريل المشهورة باسم بيت الصيودة (غرفة الأسود) يُزج بها دوماً عدد من الإسلاميين لبعض الوقت ليُنغَصَ عليهم سجنهم لأن بيت الصيودة هذه لايقيم فيها غير الشواذ جنسياً من سجناء الحق العام، وسيكون من الصعب على الإسلاميين، كما تقدر إدارة السجن، أن يحتملوا التعايش مع أمثال هؤلاء الشواذ. ولقد وضع بها عدد من الإخوة من مثل : محمد العكروت ومنصف بن سالم و عبد الحميد الجلاصي و لمين الزيدي و عبد اللطيف المكي وكنت أثناء المحاكمة 1992 قد سكنتُ في غرفة ستة أي الغرفة المجاورة لهم ( المسماة بإسم شهرتها بيت الصيودة) وقدعينني الإخوة الذين كنتُ معهم « كَبْرَاناً » [2] عليهم .أما كبران بيت سبعة فقد كانت الإدارة تصنفه ضمن الشواذ وكان هذا السجين يُسمى لطفي لكنه ينادى بين السجناء ب« لطيفة ».. والإدارة ترى أن شذوذه يصلح أن يكون حاجزاً بيننا وبينه، وكان وقتها ممنوع علينا القلم والجريدة والورق والخبر و التلفاز وكان يمنع عنا كل شيء تقريباً ، وكانت الإدارة قد جعلت من هذا الشاذ صلة وصل بينها وبيننا إن جاءتنا الإدارة بالخبز أدخله هو إلى بيوتنا وإن جاءت بالماء أوب«الصُبّة» جاء به إلى بيوتنا ،وهكذا الأمر مع كل الاعمال اليومية الخاصة بالسجناء .وقد كان لي يوم حديث معه ، فسألتُه عن حالته تلك التي إشتهر بها بين السجناء ، فأجابني بالقول : عمّ فلان إسمح لي.. الرجل ليس ب .....
ثم قال : [..« الهادي بَلْهَا » كَبْرَان سقيفة بشواربه الضخمة.. هل تعدّه رجلاً..؟ فهو كل صباح..يُخرٍجُ من غرفته عشرة إلى خمسة عشر سجين يُسلِمهم للإدارة لمعاقبتهم هذا من أجل الصلاة وذاك لغيرها من الأسباب، فيتعرضون للضرب والصفع ويُعاقبُون بوضعهم في بيت الصيودة. بينما في غرفتي.. إسأل الدكتور الربيع إسأل عبد الحميد الجلاصي ، هل جاء عندي أحد منهم وأزعجناه بكلمة أو أخرجناه «للحاكم» [3] قصد معاقبته ، هل جاء إلينا أحد ولم نعطه فرشاً وثياباً وغطاءا ولم نقتسم معه الغلة ، فهل تحسب« بَلْهَا » ذاك رجلاً ، أما عن حالتي تلك فأنا مريض تماماً مثلما يكون الرجل مريضاً بالقلب وبغيره فأنا مريض بذلك الشيء..] وقد طلبتُ منه بعد ذلك أن يأتيني بالقلم والورق وخلافه فلم يتردد وجاءنا بجميع طلباتنا فمثل هذه الأعمال لم يقم بها أخرون ينظر إليهم على أنهم رجال . ولقد تأكدتُ من صحة ما أسره إليَّ هذا السجين، حين التقيت في سنة 1999 بالأخ فتحي الحزقي من سليمان وسألته، فأجابني :[ سنة 1996 على إثر الإضراب العام شارك فيها سجناء كل أجنحة سجن تونس ، ونظراً إلى أننا كنا كثرٌ ، فقد تم زج بأربعة منا في تلك الغرفة(غرفة الصيودة) ، نقلنا إلى هناك بدون غطاء ، فجاؤوا إلينا بفراشهم وأغطيتهم وأعطونا من صابونهم المعطر ، ودَعَونا للمشاركة في أطعمتهم ..]قال والكلام لفتحي الحزقي : [...لم نر منهم إلا خيراً ..قال: في ذلك الوقت لم يكن يُسمَحُ للإسلاميين أن يؤدوا صلاة الجماعة إلا أن صلاة الجماعة كانت تقام في« غرفة الصيودة» فحين تحضر الصلاة ينادي الكبران في سجناء الحق العام :« هيَّا يا بنات.....[ هكذا] أفسحوا للرجال لكي يُصَلُوا..» فيتوقف جميع سجناء الحق العام عن الهرج والمرج ليفسحوا للسجناء من الإسلاميين ليؤدوا صلاتهم .
فمثل هذه المواقف لم يكن يَجْرُأ على القيام بها من كانت الرجولة تبدو ظاهرة عليهم .
أيضا في حبس تونس هناك 9 سيلونات على اليمين ومثلها على اليسار، بصورة متقابلة ، وكان هذا السجين يفتح في غفلة من الجميع شباك السيلون ويفتح ذاك الذي في قبالته ليفسح للسجناء فرصة الحديث إلى بعضهم البعض ويأخذ ورقة من هناك إلى هنا .ولم يكن ذلك هيّن في تلك الفترة أن يجرأ أحد فيقوم بتلك الأعمال ، إذ لو كُشف أمره وقتها لمسه من الإدارة سوء .
كان من أهداف الإدارة إذًا أن تضعنا في عُزلة عن الحق العام لكن لم يكن نجاحها إلا نسبياً، دون أن يعني ذلك أنه لم يكن هناك «أوباش» [4] من الحق العام من كانوا يُبلِغون الإدارة بالصغيرة والكبيرة طمعاً في العفو لاسيما بعد أن خَرجَتْ إشاعات في سنة 1992 مفادها أن فُلان محكوم بأربعين سنة صدر في حقه عفو بعد أن أبلغ معلومات عن حركة النهضة ، فذاك هو مجتمع السجن في أيامنا ، والواقع أن العلاقة مع سجناء الحق العام كان يمكن أن تكون أفضل بكثير لو تُركَتْ هذه العلاقة مفتوحة وحرة .
جرت العادة أن يُنقل إلى غرفة الصغار من سجناء الحق العام من كان شاذاً أومن يُرَادَ معاقبته منا ممن جاوز عمره الأربعين أوالخمسين ،ولقد اُخِذتُ في سنة 1995 في سجن الهوارب إلى غرفة الصغار، التي كان بها يومها 170 سجين ، وقد سبق أن سكن فيها الأخ حبيب لبيض والأخ حمادي الجبالي..ورغم أن الزج بنا في تلك الغرفة كان مقصوداً للتضيق علينا والتنغيص على إقامتنا كما أكد لي« الشاف سنترا » [5] عبد اللطيف الشرمِيطي،إلا أن محاولات عزلنا باءت بالفشل ذلك أن صغار السجناء رغماً عن إجرامهم فقد كانوا أكثر رجولة من كبار السجناء.
ففي 1995كنت أسكن غرفة الصغار مع محمد الكيلاني من (POCT) وقيس بن سعيد وهو من الإسلاميين كان مسؤول عن ريانة( تونس الشمالية) ، أعتقد أن محمد الكيلاني حينها كان قد نُقل من الغرفة..وكان قيس بن سعيد قد صنع كعكة حلويات كبيرة من قطع البيسكوت وقطعناها إلى خمسين قطعة ووزعناها على الجميع وكانت الإجراءات وقتها مشددة ، إذ كان يُمنع علينا الأكل مع الحق العام ، فانتشر الخبر في صباح يوم غد أن الإسلاميين صَنَعُوا كعكة حلويات ووزعوها بين السجناء . فجاء السجان عبد الرزاق بحرون ونحن في وقت الفسحة (لارية) يسأل قيس بن سعيد عن تاريخ ميلاده...محاولاً التقاط قرينة تثبتُ أن الجماعة صنعوا فعلاً كعكة بمناسبة عيد ميلاد قيس..أجاب قيس أن مولده كان في كذا من شهر فيفري. فاستغرب الرجل ، وسألني بعد ذلك وأنت متى كان مولدك قلت : كذا من شهر جوان سنة كذا.. تعجب الرجل لأن تاريخ المولدين لم يكن يوافق تاريخ ليلة أمس.. فقال : إذا كعكة الحلويات التي صنعتموها البارحة بأي مناسبة كانت إن لم تكن عيد ميلاد أحدكما .فقال قيس : لم نصنع شيئاً ..
فجاء بأحد السجناء الصغار يسألهم : هل أكلت من الكعكة البارحة ؟ فيجيب : نعم أكلتُ ، فيسأله عبد الرزاق بحرون : ومن أين جاءتك ؟ والسجين يَعلم لو قال أن عم عبد الله الزواري هو من أعطاني من الكعكة ،وكنت قد وزعت فعلاً على أغلبهم شيئا منها ، فسيُعاقب هو ويتسبب في معاقبتي أنا وقيس . فيجيب بالقول: إنه أخذ قطعة من فلان وهو سجين حق عام، فيدعوا بحرون فلان هذا فيُشير عليه بعِلاّن سجين حق عام آخر وهكذا إستنطق عدداً يزيد عن عشرين دون أن يعترف أحد أنه تسلم قطعة الكعكة مني أو من قيس ، فراح يسُبُهم جميعاً ثم نَهرهم وانصرف. فالصغار هؤلاء فيهم رجولة ليست في كثير من الكبار.
وأذكر أني بقيتُ وحدي في غرفة الصغار بعد أن خرَج منها محمد الكيلاني وقيس بن سعيد ، وكنا نشترك ثلاثتنا في شراء صحيفة الشروق ،رغم أنهم يقُصون معظمها ولا يبقون منها إلا المساحات الخاصة بالأبراج والرياضة والفن ، فأخبرت رفاقي بالغرفة معز العياري ( من حي الزهور) و....البجاوي ( من جهة وادى الليل) ، أنني لا أتصرف إلا في خمسة عشر ديناراً شهرياً من الحوالة ولا يحق لي أكثر من ذلك وهو مبلغ لايمكّنُني إلا من شراء بعض الحاجيات الضرورية مثل الحليب والزيت. وإن أنا اشتريتُ جريدة فهذا سيكلفني عشر دينارات بالشهر وهو ما يذهب بثلثي المبلغ المسموح لي التصرف فيه من الحوالة . لم يرق هذا الخبر لرفاقي بالغرفة لأنهم كانوا يطّلِعون بدورهم على الصحف ويتابعون من خلالها أخبار الرياضة وبعضهم يقص صور الفنانات ويعلقها عند سريره. فتحدث رفيقيْيَ إلى بقية السجناء في الغرفة وأتفقوا على أن يستمر شراء الجرائد بشرط أن يسهم كل من يطلع على الصحيفة بوضع« سيجارة» في صندوق مقوى كان يُستعمل للسكر . فامتلأ الصندوق بالسجائر في يومين أو ثلاثة أيام .
كان محمد الكيلاني الوحيد الذي يزوره أقرباءه ، يوم للقفة والزيارة معاً يوم الإربعاء ، ولم يكن قيس يُزار بالمرة أما أنا فزياراتي متباعدة بحيث المأكولات« المدنية» [6] لا تأتيني أما الحق العام فالزيارة عندهم يومية في الهوارب ،فكنتُ كلما دخلت الغرفة بعد الظهر أجد تحت سريري بين سبعة إلى عشرة صحون بشتى أنواع المأكولات التي جاءت بها عائلات سجناء الحق العام إلى أبنائهم ، وكان أحد السجناء من القيروان إعتادت عائلته أن تزوره في أخر النهار ، فإذا قدّم لي بعضاً مما في قفته من مأكولات إعتذرتُ له لوفرة ما لدي من مأكولات متنوعة ، وهكذا في كل زيارة ، فوقف مرة يسألني ، هل مأكولاتك هذه أطيب من مأكولاتي ،وأَقْسم أن يشتكي إلى والدته ما بدا مني من رفض دائم لطبيخها ، وأصبح بعد ذلك يعلمني قبل وقت أنه عليّ أن أقبل قبل غيره بعضاً من مأكولاته .
هذه حالة سجناء حق العام من صغار السن أما الكبار من السجناء ، وقد عاينتُ سلوكهم حين سكنتُ معهم في برج الرومي بغرفة العَمَلة ، فالكبار يخافون إن تعاملوا معي أن يُبَلغَ عنهم فيحرمون من الإمتيازات الخاصة التي يتمتعون بها. لم يكن لدي إختلاط بسجناء الحق العام إذ قضيتُ كامل فترة السجن في العزلة إلا سنة 1995 مع مجيىء توفيق الدبابي [7] وضعتُ في غرفة الصغار ( وهي بدورها ضرب من العزلة) أما قبلها وبعدها فقد قضيتها في العزلة أيضاً، أما المدة فقد قضيتها مع « الإنتماء » .
وفي بيت الصغار كنا سنة 1995 نتحدث عن الصلاة وكان معنا سجين من بنزرت هو : نجيب الغربي فصار يؤدي الصلاة هو وأخرين،وكانوا يؤدون صلاتهم وهم في فراشهم و في وضع النائم، خوفاً من أن يَنَالَهُم أذى من الإدارة إن تَفَطنُت أنهم صاروا يؤدون الصلاة .
.......يتبع
[1] القفة وهي في اللهجة تونسية سلة للتبضّع وهي عند الفرنسيين كما يسميها أصحابها (couffin)،يحمّل فيها التونسيون أغراضهم عند التسوق وإعتادت عائلات السجناء تحميل حاجيات أبنائهم فيها ، ويسمى يوم تسليم حاجيات السجناء بيوم القُفّة تمييزاً له عن يوم الزيارة.
[2] « كَبْرَان »caporale هو ناظر غرفة السجن ، تعينه ادارة السجن لتسيير شؤون الغرفة بمعية كبران كُرفي ( مساعد ناظر غرفة) ، ويتعدد أنواع الكبرانات بحسب عدد الوظائف في السجن : كبران سنترا وهو ناظرالسجن ورئيس جميع الكبرانات و كبران اللارية أي ناظر الفسحة وكبران الدوش أي ناظر الحمام و كبران سقيفة أي ناظر الجناح وكبران فرملي أي ناظر المصحة وكبران كوجينة أي ناظر المطبخ.. .
[3] «للحاكم» في التعبير التونسي يوصف بالحاكم رئيس الدولة والقاضي في المحكمة و أعوان التنفيذ في مخافر الشرطة والحراس في السجون.
[4] «أوباش» والوَبْشُ في العربية هو الرقط من الجرب يتفشّى في جلد البعير والأوباش هم الأخلاط والسفِلة وهم في العامية التونسية أحط الناس قيمة وقدراً و مقاماً .
[5] الشاف سنترا : وهو المسؤول عن جميع الأجنحة في السجن .
[6] بالفرنسية (civile) ليمييز بين ما له علاقة واسعة وحرة بالمواطنين وعموم الناس وبين ما يعود إلى السلطة أي (بيليك=beylicat) مجال نفوذ الباي أو الدولة وهي غير معنى الذي تحمله عبارة public والتي تفيد في أصولها اللاتينية شعب ،وفي السجن يمييز السجين الأكلات التي تقدم إليه من قبل إدارة السجن ويسميها (صُبة) وبين الأكلات الذي تأتي بها عائلات السجناء ويسميها أكل civil
[7] توفيق الدبابي: توفيق الدبابي هو عقيد يرجح البعض أنه في سلك الجيش و يقول البعض أنه في سلك الشرطة ،جاء بعد إقالة أحمد الحاجي على خلفية وفاة سجين حق عام في سجن صفاقس تحت إدارة عادل عبدالحميد يومئذ وقد تم تكليف السيد زكريا بن مصطفى على رأس لجنة للتحقيق في الموضوع و العقيد توفيق الدبابي الذي تولى مسؤولية الإدارة العامة للسجون والإصلاح سنة 1995 في تلك الظروف قضى قرابة العامين تحقق خلالها للمساجين بعض الحقوق
حوار مع الصحفي عبد الله الزواري
القيادي الإسلامي المنفي في وطنه
الجزء الثالث حاوره فوزي الصدقاوي
[email protected]
7.على إثر خروجكم من السجن لاحقتْكم السلطة وعَطّلت نشاطكم وجرى ترحيلكم إلى السجن الأكبر، كيف دافعتم عن قضيتكم و ضمن أي مسوغات مارست السلطة قرار نفيكم ؟
أنا محكوم بأَحَدَ عشر سنة، لكن المدة التي قضيتها هي أحدَ عَشَر سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوماً، أي قضيت ثلاثة أشهر وخمسة عشر يوم إضافية ، فالسلطة السياسية التي تسن القوانين في البلاد هي أول من ينتهكها، ففي عهد بورقيبة إن تم إيقاف أحد يوم 15 من الشهر مثلاً ، فسوف يتم خصم مدة الإيقاف من مدة الحكم .ولأن السلطة الحالية تتظاهر بإحترامها لحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية والإجراءات الجزائية وقع سن في بداية التسعينات من القرن الماضي،الإيقاف التحفظي بمدة عشرة أيام ، لكن السلطة التنفيذية ستجد نفسها أمام معضلة فالإيقاف التحفظي القانوني عشرة أيام وبعض الموقوفين قضوا بالإيقاف شهر أو شهرين .وحتى يقع إحترام قانون الإيقاف التحفظي ، يقومون بإخراج السجين في اليوم العاشر إلى ساحة منطقة الأمن أو مركز الشرطة ليلتقي بعائلته ويُسجلون إطلاق سراحه في يومه ذاك ، ثم يُعَادُ إلى السجن ويُسَجَل إيقافه من جديد وبتاريخ جديد، فأنا مثلاً تم إيقافي في21 فيفري1991 لكن في محضر التحقيق يسجل إيقافي بتاريخ 6 جوان1991 ، وبذلك دفعت ثلاثة أشهر ونصف إضافية على مدة الحكم المقررة من قبل المحكمة . وبعد إحدى عشر سنة في عزلة سجنية مغلظة ، لايرى المرء من وجوه الأدميين غير وجه السجان ، يخرج إلى المجتمع بنية تدارك ما فات ويُصلح ما أفسدته السلطة السياسية في عائلته طوال تلك السنين ،خرجتُ بنية إستعادة علاقاتي العائلية والإجتماعية والجمعياتية وغيرها بقصد العيش حياة عادية ، لكن السلطة كان لها رأي أخر ، فالإبادة التي لم تتحقق من خلال قرارات المحاكم بإصدار أحكام الإعدام في مرحلة أولى ثم بالتدمير المنهجي في مرحلة ثانية في السجون التونسية من خلال التراتيب والسياسات التي تم تنفيذها على السجناء ، سيتم في مرحلة ثالثة ملاحقة السجين خارج السجن بعدد من الإجراءات المجحفة.
ففي حقي مثلاً إتخذتْ السلطة السياسية والإدارية قراراً لايخدم مصالحي العائلية ولا المهنية ولا الإنسانية بقصد تدمير الشأن العائلي والشأن المهني فكان نفييّّ وإبعادي إلى الجنوب التونسي على مسافة خمسمائة كيلومتر من محل إقامة عائلتي لتتواصل بذلك محنة كل العائلة ومحنة بُعدي عن عائلتي ، فبقطع النظر عن الحكم المسلط ضدي ، فأنا حين أغادر السجن ، أغادره لأستعيد حياتي على النحو الذي أرتضيه لنفسي وفق المبادئ والمنهج الذي أرتضيه لنفسي وحين أخالف القانون ، فالسلطة لها أن تحاسبني وتنفذ في حقي العقاب وفق القانون ، غير أن السلطة منذ خروجي من السجن رأت أن إتصالاتي بالصحفيين وبوكالات الأنباء وبالمحامين وبالجمعيات وبعائلات المساجين السياسيين خرقاً للحدود التي رسمتها السلطة لي ولأمثالي من السجناء السياسيين ، خاصة وأنه إلى حدود سنة2002 لاتزال السلطة تسيطر بإحكام على المجتمع مقارنة لما عليه الحال اليوم ، فرجل يزور عشر عائلات مساجين سياسيين في يومين ويتحدث إلى رويتر و(AFT) لا بد أن تنزعج السلطة من نشاطه ، خاصة وأن أخبار السجون لم تكن معروفة بصورة جيدة في ذلك الوقت .
وقع إعلامي بقرار وزاري للمراقبة الإدارية من قبل رئيس (مركز أمن 05 ديسمبرالكرم الغربي) بتاريخ 02 أوت2002 ، وأعلمته فوراً أن هذا القرار يضر بمصالحي وأنه ليس لي بجرجيس ما يحملني على الإقامة بها، وأن محل سكناي بتونس العاصمة وأنه تم إيقافي في تونس منذ أحد عشر سنة ، لكن رئيس المركز كان يؤكد لي أنني مطالب بالإلتحاق بجرجيس وانصرف ،وهكذا بقيتُ في تونس إلى يوم 19 أوت 2002 تاريخ إختطافي على مقرُبَة من مكتب الأستاذ سمير بن عمر، من قبل مجموعة من أعوان الأمن الذين أخذوني
إلى الاستعلامات بوزارة الداخلية ، وهناك طلب مني مسؤول أمني كبير أن أكف عن نشاطاتي وأهتم بعائلتي وأعلمني أن مدة المراقبة الإدارية ، علي أن أقضيها في جرجيس ، كما نص على ذلك قرار المحكمة ، فأعدتُ عليه رفضي لأن هذا القرار يضر بمصالحي ولأن مقر إقامتي الفعلي في تونس وأن العنوان الذي أعلمتُهم به عند خروجي من السجن هونفس العنوان الذي كنتُ أقيم به سنة 1991 عندما تم إعتقالي في صالانبو .
ظللتُ في الإيقاف إلى الساعة الواحدة بعد منتصف النهار،إلى حين حزموا أمرهم،وأخذوني في سيارة بإتجاه مركز بوشوشة،حيث تم تغييرالسيارة والتزود بالوقود ثم شدوا رحالهم إلى جرجيس أين وصلنا الساعة9ليلاً وهناك سُلمتُ إلى مركز أمن جرجيس وحرروا محضر لمخالفتي المراقبة الإدارية، واُحِلتُ في الغد على وكيل الجمهورية وعرضتُ على محكمة الناحية بجرجيس يوم 23 أوت وإتخذ القاضي أقصى العقوبة في مثل هذه المخالفة وهي ثمانية أشهر، وفي الاستئناف اُقر الحكم الأول ، أما إدارة السجون فقد رأتْ أن أقضي مدة عقوبتي بالقيروان فقضيتُ هناك نحو شهرين ، ولابد لي هنا من أن أذكر الجهود الجليلة التي قامت بها الأستاذة سهير بالحسن حين شكلت ورفاقها لجنة مساندة التي قامت بحملة دعائية كبيرة فتبنت منظمة« مراسلون بلا حدود» قضيتي والفدرالية الدولية للصحافيين و(CPG) و منظمة هيومن رايتس واتش وعدة منظمات، جميعها قامت بدورها ،وقد تم الإتفاق على إجراء إعتصام أمام السجن المدني بالقيروان في 29 أكتوبر2002 ، وحين تسرب الخبر قامت إدارة السجون بنقلي قبل يومين إلى سجن قابس حيث قضيتُ ليلة واحدة هناك قبل نقلي في الغد إلى سجن المدنين ، ومع كل ذلك تم الإعتصام أمام السجن المدني بالقيروان، غير أني لم أكن بالسجن ، وقد شارك في الإعتصاب عدد من الحقوقيين منهم الأستاذة سهير بالحسن والأستاذة سعيدة العكرمي والقاضي مختار اليحياوي كما أظن ،و أحمد السميعي ،والمعذرة لمن لم أذكر أسماءهم ..وقد شارك إبني المعتصمين إعتصامهم .
وفي 6 نوفمبر اُطلاق سراحي ، وتم اقتيادي إلى منطقة الأمن بمدنين ثم سيارة أخرى نُقلتُ فيها إلى منطقة أمن جرجيس حيث علي أن أقضي إقامتي الجبرية مبعداً عن عائلتي . ومنذ ذلك الوقت لم يسمح لي بمغادرة جرجيس إلا في مرة وحيدة لقضاء بعض مصالحي الخاصة في الكاف وإنتقلتُ بعدها إلى تونس حيث قضيتُ بها ثلاثة أيام ومنذ ذلك الوقت لم يَعُدْ يُسمَحُ لي بمغادرة جرجيس وكل طلباتي التي توجهتُ بها إلى السلط المحلية والجهوية والوطنية للسماح لي بالإلتحاق بعائلتي أو زيارتها رُفضتْ رفضاً تاماً.
و أول محاولة لي للخروج والإلتحاق بالعاصمة كانتْ في 10 ديسمبر2002 حيث دعيتُ من قبل الحزب الإشتراكي التقدمي إلى ندوة كانت حول السجناء السياسيين وكان هناك عمل آخر مشابه في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فمُنعتُ من الانتقال إلى العاصمة لكن لم يتم تحديد تاريخ السماح لي بالإلتحاق بالعاصمة إلا بعد ثلاثة أيام من مواعيد الندوات .في تلك الفترة كتب الهادي يحمد عن أوضاع السجون التونسية في مجلة حقائق وتم على إثرها طرده من المجلة وبعدها سافر إلى الخارج.منذ ذلك الوقت وجميع المطالب التي تقدمتُ بها وهي نحو ثلاثة عشر مطلباً قُوبٍلَتْ جميعها بالرفض، كما قامت زوجتي و أبنائي ووالدتي العجوز برفع مطالب إلى رئيس الدولة لإنهاء هذه المأساة لكنها لم تجد آذان صاغية، وقد رفعتُ قضية لدى المحكمة الإدارية بطريق الأستاذة سعيدة العكرمي ويبدو أنها لاتزال في الأدراج ، رفعتُها طلباً لإعادة النظر في محل الإقامة ومكان قضاء العقوبة التكميلية لكن قوبل بالرفض ، بعضهم نصحني بالإتصال بالسيد زكريا بن مصطفى مسؤول الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات العامة ، فكتبتُ إليه رسالة في 3 جوان 2003 وتوجهتْ إليه عائلتي فأعلمها أن هذا الباب موصد ولا يمكنه أن يطرقه .
بعد خروجي من السجن في 6 جوان بادرتُ بالإتصال بالمحامين والحقوقيين وبعائلات المساجين كما تحدثتُ إلى بعض وكالات الأنباء، حين اتصلت بي فلم يرق ذلك للسلطات الأمنية فدعيتُ من قبل الإستعلامات في 10 جوان 2002 أي بعد خروجي بأربعة أيام وتوجهوا إليّ بالنصح أن أعتني بعائلتي وأتوقف عن تلك الأنشطة وأكف عن الشغب الذي أتسبب فيه، مهددين إياي بإرجاعي إلى السجن ،لم أهتم لما يقولون ، وأخبرتهم أنه ربما من الأنسب أن أعود إلى السجن لأني لا أزال أجد صعوبة في الإندماج مجدداً في المجتمع... تابعتُ نشاطي كالمعتاد ، حضرتُ حفل تدشين المقر الجديد للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والذكرى خمسة وعشرون لتأسيسها وجاءت وفود أجنبية أمريكية ومن الإتحاد الأوروبي وعدد من الشخصيات مثل الطيب البكوش و حسيب بن عمار، وضمن الضيوف المرحب بهم ،رحب بي الأستاذ مختار الطريفي وكان تفاعل الحضور تفاعل إيجابي جداً ، لم يلبث أن اتصلت بي الوكالات الأنباء بعد كلمة الأستاذ الطريفي .
تابعتُ نشاطاتي كالمعتاد، إلا أن السلطات الأمنية التي لم يرق لها نشاطي، قدمت إليّ يوم الإثنين مع الساعة الثانية ظهراً ليقتادوني من صالانبوإلى مقر إقامتي ومنها إلى وزارة الداخلية حيث إلتقيتُ المسؤول عبد الرحمان القاسمي( بوكاسة) وبعد تهديد وترغيب هناك أجبتُ كالعادة أنه يمكنهم أن يعيدوني إلى السجن لو شاؤوا ، إذ لم أنجح في الإندماج مجدداً في المجتمع ولازلتُ أحن لأيام السجن ، فكان بوكاسة هذا ، يتركني كل مرة في المكتب لوقت طويل ثم يَعود ليَعرض عليّ جواز سفر والخروج من البلاد بدون رجعة ، فأجبته بالقول أنك يا سيد عبد الرحمان تعلم أكثر من غيرك أنه كان بإمكاني الخروج سنة 1991 قبل كثيرين ممن خرجوا لاحقاً . قال: أعلم ذلك، وقدكان بإمكانك أن تفعل. قلتُ: رضيتُ لنفسي سنين السجن حتى لاأغادر بلادي أما وقد قضيتُ عقوبتي فأنا متمسك بالعيش في بلادي.
غادر المكتب ثم عاد إلي ليقول : على كلٍ ،المطلوب منك الآن أن لا تخبر أحداً بما كان بيننا من حديث ، ولو فعلتَ فسينالك مني مالم أفعله في حق أحد من قبل والمقصود بما جاء بيننا هو:
1.إيقاف إتصالاتي بالمجتمع المدني ووسائل الإعلام.
2.منحي جواز سفر مقابل الخروج بدون عودة
3.التهديد بالمعاقبة والانتقام في حال تحدثتُ بما كان بيني وبينه.
كان ذلك يوم الإثنين 10جوان2002 وفي يوم الثلاثاء كان ما جرى بيني وبين عبد الرحمان القاسمي عند الساعة الثامنة ليلاً محور حديثي عبر الهاتف مع قناة الزيتونة من تهديد وعروض ، ويبدو أن وزارة الداخلية قد اتخذت قرارها بإبعادي إلى الجنوب بعد أسبوع فقط من الحديث الذي أذاعته قناة الزيتونة يوم الأربعاء 12جوان.
والواقع أن هذا القانون من أسوء القوانين الخاصة بالمرقبة الإدارية ، فالقانون يمنح وزير الداخلية الحق في أن يتخذ هو دون غيره قرار تحديد مقر إقامة المعني وأن يغيّرها متى يشاء ، وأن لا تغادر منطقة إقامتك دون موافقتك . وهكذا فإن إقامتي في جرجيس تحت المراقبة الإدارية وفرت في الحد الأدنى تسعة مواطن شغل : ثلاثة دوريات، في كل دورية ثلاث أعوان ، كل دورية تعود بالنظر إلى جهة أمنية مختلفة عن الأخرى :المصلحة المختصة وفرقة الإرشاد و مركز الأمن الوطني هذا في الحالة العادية أما أيام إضرابي عن الطعام فقد كان يتجمع حول مقر سكناي ما يزيد عن أربعين عوناً والواقع أن هذا لا يدل مطلقاً على قوة النظام السياسي إنما يدل على ضعفه وعجزه .
8.هل تحدّثونا عن الملاحقة الأمنية التي تلازمكم بصورة لصيقة جراء المراقبة الإدارية ؟
من الآثار النفسية التي تخلفها المراقبة الإدارية ، أن الطفلة الصغيرة مريم عمرها الآن خمسة سنوات ، تحتفظ ذاكرتها منذ أن فتحت عينيها بمشهد سيارة الشرطة متوقفة عند عتبات منزل العائلة ، ربما لاتحفظ وجوه أقربائها قدر ما حفظت وجوه رجال الأمن تصوروا طفلة صغيرة تنشأ في مناخ من المراقبة البوليسية تبعث الخوف في نفوس جميع العائلة كبارهم قبل صغارهم ، بل إن النساء وجراء تلك المراقبة بحكم طباعهم المحافظة الغالبة عليهن تركن خدمة الأرض التي تقع بجوار محل سكنى عائلة أنسابي ، كما أن صهري الذي أقيم عند عائلته ، محروم من أن يستقبل أصدقاءه في بيته ، مخافة أن يتعرضوا للمساءلة في مخافر الشرطة كما حدث معهم مرة .فالآثار السلبية لهذه المراقبة طالت جميع أقربائي ومن كان في محيطي العائلي أو الاجتماعي .
لكن يجب أن أروي بهذه المناسبة بعض الطرائف التي إنجرت على هذه المراقبة الإدارية ، فبسبب صرامة التعليمات في تشديد مراقبتهم عليّ مخافة أن أغيب عن أعينهم فأذهب ، في غفلة منهم ، إلى حيث لا يعلمون ، صارت لديهم هواجس تلاحقهم في الليل والنهار، فالعقاب يتهددهم ومسؤوليهم يتربصون بهم ويشددون عليهم التنبيهات والتوصيات ، حتى إستبطن الأعوان في نفوسهم الخوف من الإفلات من رقابتهم أو الإختفاء عن أنظارهم . وأذكر أنه كان بجوار المنزل سيارة بها ثلاثة أعوان، وكان المكلف من بينهم بقيادة السيارة من الفرقة المختصة، ولأنه يقود السيارة فقد كان يحظى بشيء من التبجيل من قبل زملاءه الذين كانوا يتركون له المجال فسيحاً في السيارة عند النوم. وفي إحدى الليالي وفيما كان هذا العون نائم في السيارة ، وكان يرى فيما يرى النائم ، أن عبد الله الزواري خرج من منزله مستقلاً دراجةً نارية وغادر ، فاُنتفض العون من نومه وحتى لا يضيّع الوقت في تشغيل السيارة وإيقاض أصدقائه فيفقد أثري و أغيب عن نظره ، خرج مسرعاً من السيارة ، وركب دراجة نارية لزميله كانت بالجوار ، وأخذ في ملاحقتي .. ولم أكن قد خرجتُ من منزلي في الحقيقة إلا في منامه ، ولأن الطريق فلاحية غير معبدة وعتمة الليل لم تسمح له بوضوح الرؤية ، فقدَ المسكين توازنه وسقط ، فانخلع كتفه ومنحه الطبيب عدداً من الأيام حتى تشفى كتفه .
أذكر أيضاً أن يوم كأس تونس سنة 2005 بين الترجي الجرجيسي والترجي التونسي ، بعث إلي أعوان مراقبتي عن طريق صديق لي يترجونني أن لا أغادر المنزل حتى يتمكنوا من مشاهدة المباراة على تلفزيون إحدى المقاهي فوافقتُ ولم أر في ذلك من مانع . اليوم فقط في ما كنتُ أتسوق في إحدى المغازات الكبرى طلب مني أحد الأعوان مراقبتي أن أبقى أكثر وقت ممكن في المغازة حتى يتمكن من الذهب لقضاء بعض شؤونه الخاصة ويعود ، ففعلتُ وهي من الأشياء المعتادة إذ ليس لي رغبة في أن أورطهم مع مسؤوليهم .
في الأسبوع الماضي قضيتُ أربعة أيام في المنزل دون أن أغادره ، ولأن المنزل في منطقة ريفية وبعيدة عن مركز مدينة جرجيس فقد قضى معي أعوان المراقبة أربعة أيام أمام المنزل تحت حر الشمس ، منقطعين عن المدينة ، حتى إذا قدم أحد أصدقائي للزيارة قالوا له: ( بالله عليك قل لسي عبد الله يخرج « يحوّص بينا ».. فقد سئمنا البقاء هنا منقطعين عن العالم .)
9. عزلكم عن العاصمة وإبعادكم إلى الجنوب التونسي كان له معنى حين كانت بعض قيادات النهضة لا تزال في السجن لكن بعد خروج السادة حمادي الجبالي وعلي لعريض و زياد الدولاتلي والحبيب اللوز و محمد العكروت.. وإنخراط بعضها في الحراك السياسي والمدني ، أصبح عزلكم وإبعا دكم بدون معنى فهل تتوقعون أن تغادروا جرجيس بنهاية الخمس سنوات مراقبة إدارية [13]
في الأصل ، ما كان النظام يخشى من عبد الله الزواري أن يحققه من خلال تحركاته في المجال السياسي والحقوقي والإعلامي قد تحقق على يد غير عبد الله الزواري ، وعليه فأنا أتساءل ماالذي إستفاده النظام من معاقبتي بهذا الإبعاد غير أن أساء لنفسه وسمعته ، سواء على المستوى المحلي أو الدولي ؟ أي صورة طيبة يمكن أن يقدمها نظام سياسي عن نفسه حين يجعل من تسعة أعوان يتداولون مراقبة رجل واحد في كل مكان في المقهى وفي الجامع وفي السوق وفي الشارع وحول محل الإقامة وأينما ذهبتُ؟ لكن مع ذلك أتمنى أن تنتهي هذه المأساة ويريح النظام أعوانه من هذه الملاحقة الأبدية.
10.كيف تقيّمون دورالمنظمات الحقوقية في تعاطيها معكم وماذا تقترحون لدعم قضيتكم والدفاع عنكم ؟
لكل جمعية أو منظمة أولوياتها ونحن نعلم أنه حين ألقي القبض على زهير اليحياوي تبنت قضيته جريدة فرنسية...وحين زارني(julien) ممثل( reportage sans frontière) قال لي: لقد أعيانا البحث عمن يتبناك من الصحف أو المنظمات، قال: والسبب في ذلك هو أنك إسلامي.
ففي سنة 2002 زارتني سهام بن سدرين وقامت بأخذ لقطات بكاميرا فيديو حول الرقابة والحراسة المضروبة من حولي ، وقالت أنها ستقوم بعرضها عبر قناة الحوار للسيد طاهر بن حسين ، لكن وإلى اللآن لم يتم عرض تلك المشاهد على قناته إذ يبدو أنني لم أكن من ضمن أولوياته ليدافع طاهر بن حسين عني.
وأتساءل ماذا قدمت رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان ؟ وماذا قدم المجلس الوطني للحريات؟ وماذا فعلت أيضاً جمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين؟ كم بيان نشرته متعلق بقضيتي، هل هناك من سُلِطتْ عليه أحكام بالعقاب أكثر مما سُلط علي ؟ أوأحكام قضائية أكثر قسوة من تلك التي اُصدرت ضدي؟ فأنا لايمكنني أن أقترح على هذه الفعاليات برنامج عمل أو أشكال عمل فهي وحدها التي تلزم نفسها بالدفاع عن قضية دون أخرى وفق أولوياتها و بهذه الوسيلة دون غيرها..
فكم بيان صدر عن الجمعيات الحقوقية في حق محمد عبو ؟ و كم من مساحات خصصت لمحمد عبو في الصحف..؟ هل المظالم المسلطة على محمد عبو أكثر وأشنع من تلك المسلطة على دنيال زروق أو لطفي السنوسي أو عبد الله الزواري ؟ أقول هذا وأنا أتمنى أن يطلق سراح محمد عبو في الغد بل ويطلق سراح الجميع[14] ، لكن أجري المقارنة مع محمد عبو لما يمكن لتلك المقارنة أن تقدمه من مؤشرات تفاعل المنظمات الحقوقية مع قضيتي وغيرها من قضايا الإسلاميين .
لأضرب لك مثلاً فرئيس فرع مدنين للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بمدنين زارني مرة حين جاءني وفد أجنبي(ifex swisse) كمال العبيدي و( sarra cart) و(alexe segregoriano)، ولم يعد بعدها ثانية إلا أخر يوم إضراب عن الطعام لما جاءت سهير بالحسن .
أما نقابة الصحفيين فلم أتلقى من لطفي حجي خلال السنوات الخمس أي مكالمة هاتفية والمرات التي جرى إتصال بيني وبينه كنتُ أنا المبادر في الإتصال به عندما جرى إيقافه في بنزرت أو في غيرها وهو يعلم ذلك ،أما الأستاذ محمود الذوادي فقد هاتفني لمرتين وأعرب عن التقصير من جهة نقابة الصحافيين ، ووعدني بالزيارة ، لكن لم تتم الزيارة ..! وفي اعتقادي أن الداء الذي ينخر الجمعيات عادة هي تلك الحسابات التي تكون بعيدة عن مسألة حقوق الإنسان.
خرجتُ من السجن يوم 6 جوان 2002 أي أن نهاية العقوبة التكميلية ستكون في جوان 2007. أما قرارالمراقبة فقد أمضى عليه الوزير بتاريخ 15 جويلية 2002 وتم إعلامي به في 2 أوت 2002 لكن قبل هذا التاريخ كنتُ خاضعاً للمراقبة الإدارية ،فأنا لم أغادر السجن لأجد نفسي في الشارع بل تم تسليمي لفرقة الإرشاد ببشوشة وهناك طلب مني أحد المحققين القدامى عنوان إقامتي فأخبرته أني مقيم في تونس وطلب مني أن أتصل بمنطقة حنبعل التي يرجع إليها النظر بحكم إقامتي في دوائرها ، وعند إتصالي بمنطقة حنبعل بتاريخ 7 جوان2002 أعادوا علي السؤال عن محل إقامتي فقلت أني مقيم بصالانبو فطلبوا مني أن ألتحق بمركز الأمن الوطني بشارع 5 ديسمبر بالكرم الغربي فتم ذلك ، إذا من يوم خروجي من السجن كنتُ تحت المراقبة الإدارية وعندما أردتُ مغادرة تونس العاصمة بإتجاه الجنوب قصد الزيارة ، طلبوا مني الحصول على إذن بذلك قبل المغادرة ، ففعلتُ وعند وصولي إلى الجنوب أعلمتُ مركز الأمن بالوصول ولستُ أعلم ما الذي يحاك لي الآن والخمس سنوات مراقبة إدارية لم يبق منها غير بضعة أسابيع[15] ؟
11.هل من كلمة أخيرة توجهونها لمن شئتم ؟
أقول أولاً لإخواننا في الشتات ، أنهم على ثغرة من الثغورفلا يجب أن نُأتى من قبلهم، أما بالنسبة للمعارضة الجادة فهي في بداية طريق العمل و بقدر صعوباتها بقدر ما تكون هناك رابطة أنضج وأفضل.والواقع أن الخصم الألد لنا جميعاً ليست أطراف في المعارضة وإنما خصمنا الأول هو النظام المستبد والنظم القهرية ،ويجب أن نكون في خندق واحد ، فاليوم وغداً يجب أن نعمل معاً من أجل القضايا المشتركة مثل حرية التنظم وحرية التعبير والحق في الإعلام والصحافة والحق في التنقل... باعتبارها قضايا مقدسة لدى جميع الأطراف ، أياً كان الطرف الذي سيصل غداً إلى السلطة عليه أن يحترم تلك المبادئ و المشتركات ، وأن لاتذهب بنا أحلامنا إلى أن »«النهضة» ستكون « التكتل» أو «الديمقراطي التقدمي» أو« العمال الشيوعي التونسي» ومن الخطأ أن نطلب الإتفاق في التفاصيل ، إذ كلما ذهبنا إلى التفاصيل والبحث عن الوفاق فيها فإننا في الواقع نذهب إلى الإختلاف ثم الفرقة
نحن مدعوون للدخول في حوارات مع جميع الأطراف السياسية ، فنحن إعتقادنا راسخ أن النقاش والحجاج يطوّرنا إذا إستوفينا الشروط اللازمة للحجاج وتوفرت لدينا أدوات البحث ووسائله ، لكن إذا كنا نتجه نحو هذه المعارضة بالحجاج والنقاش فيجب أن لايغيب عن أذهاننا أن الساحة فيها أيضاً عدداً واسعاً من الشباب الذي لم يعش تجربتنا ولم يحتك بوجوه وشخصيات ووقائع عايشناها ،فهم تلقوا تدينهم من التلفاز والقنوات ولم يكن، بحكم غيابنا بسبب المحنة، إحتكاك بيننا وبينهم ،فنحن قد نتخذ قراراً مع تقدير المصلحة على النحو الذي نرى لكن هذا الجيل الذي يشكل اليوم الصحوة الجديدة لا يستطيع أن يفهم تقديراتنا للمصلحة على النحو الذي قررنا ، بسبب فارق التجربة والفهم .وأياً كانت الدواعي فإن هذه الفوارق ستكون سبباً في شق الصف ، لذلك يجب أن يكون هناك نقاش وجدالات مع هذا الجيل وإلا سنجد أنفسنا في عزلة عن أبنائنا وربما نُرمى بأوصافِ لن يتورعوا في وصفنا بها .فداخل 18 أكتوبر حين يثار موضوع الهوية العربية الإسلامية سنجد أن الطرف المقابل سيتفاعل مع المسألة بصورة متشنجة ، كما لو أن بعض أطراف المعارضة ترغب في دفعنا إلى الزاوية وحشرنا فيها .
ثم كلمة أخيرة أوجهها للتجمعيين الدستوريين هل هناك من مبرر للوطنيين داخل هذا الحزب أن يبقوا فيه بعد أن أسفر عن وجهه المعادي للحضارة العربية الإسلامية وهوية التونسيين ولقيم الإسلام وشعائره ، لاسيما بعد أن إجتمع الديوان السياسي وأقر موافقته للقرارات الخاصة بالحجاب وتأيده لمنشور108 وأنه لباس دخيل ولا علاقة له بثقافة البلاد :كما لو أن الذي يرتدونه من طقم وربطة العنق هو لباس آبائهم وأجدادهم ، وكأنما العولمة التي يعملون على تنفيذ متطلباتها مواكبة للعصرو لم تذهب بأصالتهم ولم يقدموا لها تنازلات مجانية ...../
****************************************************
[13] طرحنا على الأستاذ عبد الله الزواري هذا السؤال في لقائنا به في أفريل 2007
[14] في أفريل 2007 تاريخ الجزء الثاني من الحوارمع الأستاذ عبد الله الزواري لم يكن أستاذ محمد عبو قد اُطلق سراحه بعد ، أما الفرز الذي دأبت على القيام به عدد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية ، فقد أقره آسفاً الأستاذ محمد عبو في الحوار الذين أجرينه معه فور سراحه في24 جويلية2007 قائلا:
[.. فعندما دخلت إلى السجن بتاريخ 01 مارس 2005 وجدتُ سجناء سياسيين ينتمون إلى حركة النهضة أو يشتبه في إنتمائهم إليها. وهم بالنسبة لي دخلوا السجن لممارستهم لحقهم في إبداء الرأي والمطالبة بتغييرات وهو حق كل تونسي ،لذلك فحال إيقافي تصورتُ أنه سيقع ربط قضيتهم بقضيتي لمصلحتهم وأأكد لكم أني أرسلت رسائل في هذا المعنى حتى للمساجين السياسيين المقيمين في سجن الكاف ، إذ كان لي إمكانية للإتصال بالسجناء خلافاً لما تعتقد الإدارة . فكان السجناء الإسلاميون يرفضون هذا الربط حرصاً على مصلحتي، وفعلاً أفهم أسبابهم لأنهم يعتقدون أن المجتمع المدني ليس متعاطفاً مع حركة النهضة ، وكان هذا يزعجني فعلاً لأنه من غير المعقول أن لا نتعاطف مع الضحية حتى إن كنت أختلف معهم في الرأي . إذا يجب أن يكون ثابتً واضحاً ولا نقاش فيه و لا متاجرة ولا إستثناء فيه أن كل تونسي عبر عن رأيه فسجن لأجل رأيه ظلماً بدون موجب قانوني يجب أن نعتبره ضحية كما يجب أن نقاوم سلمياً بكل الوسائل من أجل إطلاق سراحه. فحركة النهضة لم تتمتع بمثل ما تمتعتُ به إطلاقاً وهذا يؤسفني وأأكد لك أني اليوم وغداً إذا بقي البعض من السجناء السياسيين لم يغادروا السجن فسأناضل بالطرق السلمية والقانونية من أجل أن يطلق سراحهم جميعاً بل ومن أجل أن يعترف النظام بالأخطاء التي إرتكبها في حقهم. وبقطع النظر عن رأيي الشخصي في الموضوع، يمكنني أن أفسر الأمر بالقول أن شخصاً وقع إلقاء القبض عليه كان يتهم في وقت من الأوقات على أنه إسلامي لكن المعارضة الجدية لا تصدق ذلك فالمسألة تتعلق بالثقة بين المحامين ، كما أن جو المعارضة ليس دائما على ما يرام فقد تسقط في تغليب النزاعات الجانبية وتنصرف عن النظام ومراقبة سياساته ، بالنسبة لي أنا على علاقة جيدة بالجميع والجميع متأكدون من أنني أقف مع كل المضطهدين سواءاً كانوا إسلاميين أوغيرهم وقد أثبتُ ذلك طيلة مباشرتي مهنة المحاماة فأنا لا أفرق أبداً بين حمة الهمامي وعبد الله الزواري فللجميع حقوق متساوية والحرية تضمن الوجود للجميع إسلاميين وغيرهم بما في ذلك المتدينين من غير الإسلاميين.. ] حوارمع السجين السياسي الأستاذ محمد عبو
[15] [ بعد أن أنهى عبد الله الزواري مدة الخمسة سنوات مراقبة إدارية التي كانت المحكمة قد سلطتها ضده قررت السلطات الأمنية تمديد المراقبة ب26 شهراً إضافية يقضيها في ضواحي جرجيس بعيداً عن عائلته المقيمة بالعاصمة( مسافة 500 كلمتر) وقد رفض رئيس المركز الذي قام بإبلاغه هذا القرار أن يمكنه من وثيقة تتضمن هذا الإعلان فقام الأستاذ عبد الله الزواري بتقديم شكوى في الموضوع سجلت تحت رقم 13106 بتاريخ 13 جوان 2007 رغما عن إ عتقاده أن هذه الشكوى لن تر النور مثل قضية المحكمة الإدارية التي رفعها في شهر أوت 2002... ]
المصدر:مدونة الصحفي القدير المنفي في وطنه عبد الله الزواري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.