الاهداء: إلى الشعلة الرمز محمد البوعزيزي في ذكرى أربعينيته كانت الحياة تضيق وتتحوّل إلى جدارية تشبه المشاهد المشوّهة في »قرنيكا« لوحة بابلو بيكاسو التي خلّد فيها همجيّة الانسان المستبدّ، ضدّ الانسان المقهور. وظلم الطغاة للانسان المسالم الذي يكابد من أجل رغيف خبز مغمّس بالكرامة وممزوج بالشّرف ومعطّر بعرق النخوة والإباء. كان الماء آسنا والهواء ثقيلا والحياة تضيق وتتحوّل إلى سجن رهيب... وكانت الأعمار تضيع والأحلام تتبخّر واللّصوص يمرحون فرحين بغنائمهم من وطن تحوّل إلى كعكة شهيّة يسيل لها اللّعاب، يتقاسمها الأفّاقون ولصوص الأوطان وهم يلعبون القمار ويشربون الويسكي ويدخّنون السيجار الكوبي الذي كان يدخنه »ارنستوتشي غيفارا« رمز ثورة المحرومين والكادحين. وجئت أنت من رحم التاريخ ومن رحم الشعب الأبي تحمل حقد »حنبعل« على طغيان روما وتحمل إباء »الكاهنة« تدافع عن شرف البلاد والعباد. مثلك كان »حنبعل« طفلا صغيرا يمرّ في ربوع تونس عندما زرع فيه »أميلكار« كره روما، ومثلك شبّ على كره الطغاة. وكما أنت، انتحر عندما ضاقت به السبل، وفضّل النّار على العار، انتحر ليسمو بالانسان من الخنوع الظرفي إلى الانعتاق الأزلي. كان عنيدا في إصراره على كره روما، ومثله كنت عنيدا على صون كرامتك وآدميتك حتى النزع الأخير. الاحتراق بالنار طريقة العظماء ليتطهّروا وليتحوّلوا من خلالها إلى نجوم تتلألأ في سماء الحرية، ليتحوّلوا إلى شرارة مضيئة تزلزل عروش الظلم والطغيان وتؤسس لحضارة الانسان الانسان، وليس الانسان الذئب. كنت عنيدا في إصرارك على أن تسلّ رغيف الخبز والأثواب والدفتر من الصخر، ولا تتوسّل الصدقات ولا تصغر. كنت عنيدا أكثر وأنت تواجه الطاغية في كفنك الملائكي الأبيض، كان الطّاغية يرتجف ويداه الملوثّتان بالدماء ترتجفان. كان يتوسّل إليك أن تقبل توبته، أن تطهّره من خطاياه وأن تمنحه الغفران. كان المشهد يفوق التراجيديا الاغريقية وجعا ورهبة، الجلاّد يجثو عند قدميك يطلب الرّحمة، وأنت كما أنت، عظيم في كبريائك وعظيم في شموخك. وأنت كما أنت، أو كما الأنبياء والرسل... تعطّرت بعطر ليس كالعطر، وتجمّلت بلباس ليس كاللّباس، وتقدّمت مرتفع القامة تمشي، منصوب الهامة تمشي، في كفّك شعلة من نار وعلى كتفيك نعشك وأنت بين الجموع تختال جللاً وتمشي وتمشي... وقبل أن ترحل إلى حيث الخلود، إلى حيث مقام العظماء، وجّهت سكك محاريثك إلى قلوبهم السمينة الفاجرة، ورحت تقاوم لتحرّر دمك من عنابر الزيت وفمك من مخازن السكر. وسقط الصنم الأعظم... سقط هبل، ومعه بدأ موسم حصاد الأنظمة العربية، سقطت الأقنعة عن وجوهها القبيحة، وجوه شوّهها الجذام فهي إلى وجوه الغيلان أشبه وأدنى، أصنام تتهاوى كالشمع المحترق. موسم هجرة الحكام العرب الى مزبلة التاريخ بدأ من تونس وبداية السقوط اللامتناهي إلى قاع بلا قرار انطلقت من حيث بدأت انت. و»بتونّس بيك«، صارت أغنية العرب المفضّلة، من حدود الفقر إلى الفقر ومن تخوم القهر إلى القهر ومن ربوع الاستبداد إلى الاستبداد. وأنت رسول هذا العصر والثورة دين الجماهير والشعوب. أشعلت نارا أضاءت عتمة التاريخ وقوّضت عروش الظلم والطغيان وحوّلت الشعوب إلى براكين ثارت ولن تهدأ ولن تستكين. وإلى أن نلتقي وكلّ شعب على ثورة.