"بلاي اوف" الرابطة الاولى.. التعادل يحسم كلاسيكو النجم الساحلي والنادي الإفريقي    مجلس نواب الشعب يشارك في المؤتمر الخامس لرابطة برلمانيون من اجل القدس    عميد المحامين يوجه هذه الرسالة إلى وزارة العدل..    انتخابات جامعة كرة القدم: إسقاط قائمة واصف جليل وإعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    طقس الليلة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    الشركات الأهلية : الإنطلاق في تكوين لجان جهوية    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    كاردوزو يكشف عن حظوظ الترجي أمام ماميلودي صانداونز    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 08 - 2009


الفجرنيوز فريد خدومة
بسم الله الرحمان الرحيم
قال تعالى:"اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون" .
سورة الأعراف:"الآية"3
"ينبغي قبل كل شيء التمسك بقاعدة تعصمنا من الزلل و هي أن ما أوحاه الله هو اليقين الذي لا يعدله يقين أي شيء آخر.فإذا بدا لنا أن ومضة من ومضات العقل تشير إلينا بخلاف ذلك وجب أن نخضع حكمنا على ما يجيء من عند الله". - ديكارت-
عن كتاب: حرية الفكر: ل ( محمد العزب موسى)
تصدير
"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله"
عن: الفاروق: عمر بن الخطاب
رضي الله عنه.
بسم الله الرحمان الرحيم
قال الله تعالى:
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين(51) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخش أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ماأسروا في أنفسهم نادمين"(52).
- المائدة- (51)(52)
" قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا(103) الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا(104)"
الكهف:(103) (104)

الإهداء
-إلى أرواح شهداء المقاومة في حركة التحرر العربي الإسلامي حيثما كان للمحتل والغازي وجود في أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين.
-إلى أرواح شهداء الإستبداد ومساجين الرأي والمشردين في المنافي، وكل ضحايا النظام العربي الفاشي في أوطان شعوب العالم الإسلامي من: الأيتام والأرامل والثكالى والجياع.
-إلى الأحرار والشرفاء الذين نذروا حياتهم للوقوف إلى جانب المظلومين والمضطهدين والمقهورين وسائر المستضعفين في الأرض من أجل الحرية والحق والعدل والمساواة والأمن والسلام في العالم.
إلى كل هؤلاء أهدي هذا العمل الفكري المتواضع.

المقدمة
لم يكن هذا العمل الفكري في البداية إلا جملة من الإنطباعات والأفكار أو قل الإنفعالات والتوترات النفسية والفكرية في مفهومها الإجابي، أي تلك التوترات والإنفعالات التي تنتاب الشاعر فيصدر عنه منها شعرا والفنان فيصدر عنه منها فنا، والفيلسوف فيصدر عنه منها حكمة… وفي كلمة هي توترات وانفعالات العقل المسكون بهموم والأمة وآمالها وآلامها وأوجاع الإنسان المقهور في دنيا حضارة الديمقراطية والمساواة والحرية وحقوق الإنسان، والعقل والعقلانية والعلم والتقنية… تلك التوترات التي أثارها في الغزوالصليبي الأمريكي البريطاني في إطار التحالف الغربي العربي والإسلامي الرسمي للعراق.
و ما زادني أسى وحسرة و توترا وانفعالا، أني كنت مزجا بي في ذلك الوقت بالسجن المدني بمدينته قفصة، مما ضاعف ألمي وحسرتي وتوتري وانفعالي،أني كنت أعيش الحدث الجلل وأشارك الشعب العراقي المقهور الواقع عقودا بين مطرقة الإمبريالية والقوى الإستعمارية الغازية، وسندان النظام العلماني اللائكي الفاشي الهجين،نظام حزب البعث العربي الإشتراكي الذي كان يقوده صدام حسين التكريتي وعائلته وزمرة من عشيرته، والذي كانت الغالبية العظمى من المنخرطين فيه من الطائفة السبئية(الشيعية)إلا إنني لا أستطيع أن أفعل شيئا مما يمكن أن يفعله غيري ممن هم في وضع أفضل في سجن البلاد الأوسع بفعل نظام تحالف مكونات الحركة العلمانية اللائكية نظام تحالف7 نوفمبر الرهيب الاستبدادي بقيادة العسكري زين العابدين بن علي، وخارج السجن المضيق الذي يؤكد الإستئصاليون"الديمقراطيون" في بلادنا أنه المكان الطبيعي للأحرار. ولا أستطيع حتى أن أتابع الحدث لحظة بلحظة وأن أواكب عن كثب تطور الأحداث وسير المعارك، لأن السجان يخشى على ضحاياه حتى من تسرب الكلمة والمعلومة والخبر. و ليس لي من حظ في الإعلام هناك إلا بالقدر الذي يسمح كبير حراس السجن الكبير في السجن الكبير وكبير حراس السجن المخيف الصغير في السجن الصغيربه.
و كان يوم 19 مارس 2003- وهو اليوم السابق لغزو التحالف الأمريكي البريطاني الصليبي لبلاد الرافدين،بمباركة النظام العلماني اللائكي الهجين، والتقليدي الرجعي المحافظ في الوطن العربي والعالم الإسلامي، هو اليوم الذي قضت فيه محكمة الإستئناف بإقرار الحكم الإبتدائي الصادر في حق مجموعة من الأخوة ظلما وعدوانا،وكان واحد منهم فقط بحالة إيقاف معي وهو الأخ: مضر بن جنات وأخوين آخرين بحالة فرار بحكم وجودهما بالمنفى بين مختار ومضطر لذلك حتى ذلك الوقت وهما: عباس بن محمد الشيحي- والسيد بن محمد الفرجاني، والقاضي بسجننا مدة عام وشهر من أجل الإحتفاظ بجمعية غير مرخص فيها. في إشارة إلى الإنتماء إلى حركة النهضة الإسلامية، أقوى حركات المعارضة في تونس. ومع منتصف ليلة اليوم الموالي الموافق ل 20 مارس، اشتعلت النيران في عاصمة الرشيد ببلاد الرافدين، جراء القصف الصاروخي والمدفعي المكثف وقصف الطائرات الأمريكية البريطانية بعد أن أتخذ القرار بإعلان الحرب على العراق في العاصمتين الأمريكية والبريطانية واشنطن ولندن، وبعد أن توج ذلك بقمة إمبريالية استعمارية صليبية مدعومة بالنظام العربي العميل وبالشتات اليهودي والحركة الصهيونية العالمية وكيانها العنصري بفلسطين المحتلة، اجتمع فيها زعيم أكبر دولة استعمارية عرفها التاريخ الحديث، وهو رئيس الوزراء البريطاني العمالي توني بلير، وزعيم أكبر دولة إمبريالية عنصرية، ما زال الزنوج فيها يعانون من الميز العنصري بعد أن تمت إبادة الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة الأمريكية-إبادة شبه كاملة، وزعيم أول دولة في العالم استعملت السلاح النووي ضد الشعب الياباني، وهو الرئيس الأمريكي المسيحي اليهودي جورج بوش الصغير،وزعيم دولة محاكم التفتيش المشهورة،رئيس الوزراء الإسباني:أزنار،و بعيدا عن أروقة الأمم المتحدة هذه المرة، بعد حصول انقسام في المعسكر الغربي الصليبي، وخلاف حول توقيت وكيفية إسقاط النظام العراقي، ونزع ما كان يعتقد أنه كان يملكه، أو ما كان بصدد تطويره من أسلحة للدمار الشامل، وكيفية اقتسام المنافع وتحقيق المصالح من طرف جهات استعمارية إمبريالية معادية شديدة النهم والجشع.
كانت المعاناة شديدة، وكان الكرب عظيما. كانت معاناة أنطقت لسانا كانت تحسب عليه كلماته كل يوم، وتحصى عليه كلمة كلمة. وكان أشد ما يخشى من صاحبه كلماته.وكان حراس السجن لا يهتمون في تفتيشه اثناء حملة التفتيش التى يقومون بها في كل مرة لنزع الأشياء الحادة التي يخشى أن تقع بين يدي سجناء الحق العام، والكشف عن سائر الممنوعات، من أقراص مخدرة أو نقود وعطورات، وكل ما هو غير مسموح به داخل الغرف أوخارجها، مما يمكن تسريبه بطريقة أو بأخرى، وهي الأشياء التي لا يمكن أن تمر إلا عبرهؤلاء الحراس أنفسهم، إلا بما يمكن أن يكون قد رسمه على الورق أو غيره مما يمكن أن يصدر منه أو مما يمكن أن يكون قد تلقاه من خطاب. وكان الإهتمام شديدا- في غير مبالغة- حتى بما يمكن أن يجول بخاطره، أو ما يمكن أن يراوده من أفكار، قد تكون ضد سياسة المستبد الأكبر، وما يمكن أن تلحقه به من ضرر؟
كانت معاناة أسالت مداد قلمي بما كنت أعتقد يومها أنه لا يصلح إلا أن يكون مقالا يقع تسليط الضوء فيه على تكامل مجهود المشروع الإستبدادي للنظام العربي العلماني اللائكي الهجين والتقليدي الرجعي المحافظ والنخب الداعمة لهما في المنطقة العربية وفي أوطان شعوب الأمة الإسلامية، والمشروع الإستعماري الإمبريالي الغربي الصليبي المتحالف استراتيجيا مع الكيان الصهيوني.
تعمدت منذ البداية أن لا أصوغه صياغة إنشائية منظمة مترابطة. وحرصت على أن يظل في شكل مسودة تحمل بعض رؤوس الأقلام المعبرة عن بعض ما جال بخاطري وبفكري في ذلك الوقت، وفي ذلك المكان، وفي تلك الظروف من أفكار قد أوحى لي بها المشهد الإعلامي الرسمي الرديء. وأذكر أن أحد مذيعي نشرة الأخبار في تلك الليلة أو في الليلة الموالية في قناة تحالف7 نوفمبر: ت7 - الرسمية قد علق على القصف الأمريكي البريطاني للعاصمة بغداد وهي تحترق في صورة، وقع نقلها عن قناة أبو ظبي، بقوله في توجيه أنظار المشاهدين له " هذا المشهد الجميل" ولم يستدرك ولم يصحح ولم يعتذر.
والذي جعل مسودة الأفكار تفلت من المصادرة، ويحول دون الإنتباه إليها، أنها كانت مصاغة في 8 صفحات كراس عليه ختم السجن، كنت قد تسلمتها من الأخ: الهادي المجدوب مع بعض الأعراض لما غادر السجن بعد إنهاء عقوبة مدتها عشرة سنوات. وحرصت على أن تكون مع مجموعة من المقتطفات كنت أنقلها عليه من بعض الكتب التي كنت أستلمها من مكتبة السجن بين الحين والحين.
وفي المرة التى أصبح متأكدا لدي فيها أنه لن يسمح لي بمغادرة السجن بأي شيء مكتوب، حتى بعض صفحات الجرائد التى كان يسمح لنا في بعض الأحيان باقتنائها، انتزعت كل الأوراق المكتوبة من الكراس و سلمتها – في مجازفة بها – كنت أسال الله أن تكون عواقبها سليمة- إلى أحد سجناء الحق العام بالسجن
المدني بالقيروان ليخرجها مع بعض أغراضه التى يخرجها في كل مرة لأهله في اليوم الذي يؤدون إليه فيه الزيارة.
وبعد قرابة الشهرين من مغادرتي سجن القيروان، التحقت بمنطقة إقامة أهله في مهمة عائلية متعلقة بالتهمة المحال من أجلها للسجن كان يجد حرجا من التحدث إليهم فيها أثناء الزيارة، كان قد كلفني بها اليهم، وكنت قد وعدته بذلك، واستعدت تلك الأوراق التي كان من بينها تلك المسودة التي أمكن تحويلها إلى هذا العمل الفكري الذي وقع الإهتمام فيه من خلال رصد للمشهد العراقي ولساحات الصراع العربي الإسلامي مع قوى الإستعمار الغربي المتحالفة مع الأنظمة العلمانية اللائكية والأنظمة التقليدية الرجعية المحافظة في المنطقة العربية وفي أوطان شعوب العالم الإسلامي الأخرى. وقد رأيت أن المسالة الثقافية تمثل حجر الزاوية في طبيعة القوى المتصارعة وفي طبيعة المعركة. وفي الوقت الذي انصرف فيه اهتمام المراقبين والمحللين والمتابعين من الخاصة والعامة للشأن العراقي للمسألة المادية، ولثروات العراق، وخاصة ثروته النفطية بحكم طغيان النزعة المادية على تفكير الناس وتاثيرها القوي جدا على واقعهم، وهي الصفة الملازمة لثقافة الحضارة الغربية وخاصية من خاصياتها وأصل من أصولها، والمادة فيها هي الهدف والغاية أولا وآخرا انصرف فيه اهتمامي إلى جانب ذلك إلى كيفية استهداف قوات الإحتلال للعراق، الطريقة التى تعاملت بها مع الملف المادي والمعنوي . وقد لاحظت كيف أن القوات الغازية قد سارعت إلى تأمين ضخ النفط والسيطرة على منابعه وموانيه. وكيف أنها فسخت المجال للرعاع ولشبكات السرقة والنهب والتهريب، وبإشراف مباشر منها، وعلى مرآى ومسمع من جنودها للعبث بأهم ما له علاقة بثقافة وحضارة الشعب العراقي وأمة العرب والمسلمين، وبالثقافة الإنسانية عامة، والذي يمثله المتحف الأثري ببغداد والمكتبة الوطنية. وذلك ما تأكد لي من خلاله أن المعركة تحكمها ثلاثة أهداف رئيسية:
- الهدف الاول: هو النهب المادي و نزع ثروات الأمة وتدمير إمكانياتها وقدراتها المختلفة بالقوة.
- الهدف الثاني : هو إلغاء وإتلاف ثقافة وحضارة وذاتية وخاصيات الآخر العربي المسلم.
- الهدف الثالث : هو مواصلة فرض خاصيات ثقافة وحضارة الرجل الأبيض بالقوة كذلك.
و لم يكن الوضع في العراق إلا منطلقا للحديث عما كان وماهو كائن وما يجب أن يكون، في أسلوب كان مقصود فيه تداخل الأحداث الراهنة والقديمة بالتحليل، ورصد الظواهر الإجتماعية والثقافية والسياسية ومحاولة فهمها وتشريحها، مع الحرص على مزج كل ذلك بالمقاربة بين الثقافة العلمانية اللائكية الغربية الأصلية في أوطانها والهجينة في أوطان أمتنا والتي هي ثقافة التغريب والإنبتات والإلحاق والإندماج، والثقافة العربية الإسلامية الأصيلة التي هي ثقافة المقاومة والتحريروالإستقلال، في بعض الأوجه، وفي مواقع الائتلاف والإختلاف بينها، والتى تبين لي من خلال هذه المقاربة في ما أمكن المقاربة فيه مما وقع التعرض إليه من قضايا، أن أوجه الإختلاف بين الثقافتين هي الغالبة، إذا لم يكن بالإمكان القول أنهما يمثلان النقيض ونقيضه، إذا ما استثنينا الجوانب العلمية والتقنية والعقلية البحتة في الحضارة الغربية، والتي لم يكن الغرب سابقا لها. والذي يميز حضارته فيها القدرة الفائقة على تطويرها، بما جعلها تحدث نقلة نوعية في نمط عيش الإنسان، وما أكسبها من تعقيدات وبما جلبته له من نفع، وما ألحقته به كذلك من أضرار. وإذا كان لا مجال للمقارنة بين الحضارتين في تطوير العلوم والتقنية والمعارف، إلا أن الذي نستطيع أن نؤكده، أن الحضارة الإسلامية لم تبلغ بحياة الإنسان الحد من التعقيد الذي أبلغته إياها الحضارة الغربية. و م تتحقق له من خلالها إلا المنافع ووقع تجنيبه فيها المضار والمفاسد والمخاطر.
ونظرا لتشابه الأوضاع في أوطان شعوب المنطقة العربية وأوطان شعوب العالم الإسلامي، وفي القطر العراقي - بقطع النظر عن الوضع الإستثنائي فيه- كان الوضع العراقي منطلقا للحديث عن الأزمة السياسية والثقافية و لإقتصادية والإجتماعية المعقدة، وتداعياتها على أبناء شعوب الأمة في علاقتهم بأنظمة الإستبداد والعمالة في المنظمة وفي العالم الإسلامي، وبقوي الهيمنة في التحالف الصليبي اليهودي. ولا أدعي أني أملك من المعطيات ما يكفي ليكون العمل أكثر دقة وأكثر ثراء وأكثر ضبطا للمعلومات وللنتائج والإستخلاصات. إلا أن الذي تم التعويل عليه أكثر فيه، هو الرصد المتواصل للأوضاع من خلال الإعلام المرئي والمسموع، وما يكتب هنا وهناك في ما هو متاح من الإعلام المكتوب، في بلد جعل النظام فيه من أكبر أعدائه لا خصومه أصحاب الرأي، ورجال الفكر الحر والكلمة والثقافة الجادة الهادفة الملتزمة. هي قراءة للمشهد الداخلي والخارجي الوطني والإقليمي والدولي عربيا إسلاميا، علمانيا لائكيا، و تقليديا رجعيا محافظا، وغربيا أورو- أمريكيا صليبيا يهوديا، وإمبرياليا استعماريا، من خلال ما هو معلوم من قضايا الأمة ومن القضايا الدولية، استنادا إلى أبعادها التاريخية ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
وإذا كان يبدو للبعض أن القوى متعددة في هذا العالم المختل توازنه لصالح الغرب ولصالح الإمبراطورية الأمريكية بصفة خاصة، إلا أني لا أرى إلا أن العالم قد تأكد انقسامه مرة أخرى إلى معسكرين مختلفين عقائديا وثقافيا وحضاريا:
معسكر الإستكبار والهيمنة والظلم والتسلط ،والذي يمثله الغرب الإستعماري الإمبريالي الصليبي اليهودي، والانظمة العلمانية اللائكية والتقليدية الرجعية المحافظة الهجينة في المنطقة العربية وفي أوطان شعوب بقية العالم الإسلامي والنخب الداعمة لها.
ومعسكر الإستضعاف الذي تمثله حركة التحرر العربي الإسلامي وقوى الإحتجاج الجماهيري الغربي في العالم التى اضطرت أمام اختلال موازين القوة لغير صالحها لمواجهة قوى الهيمنة الدولية والإقليمية الداخلية والخارجية، بكل الوسائل دفاعا عن نفسها وعن أوطانها وشعوبها ومصالحها، بعدما تبين لها أن معسكر الإستكبار المعادي للشعوب وللإنسان والذي يقدم نفسه على أنه قوة بناء وتعمير، ليس إلا قوة هدم وتدمير.
وليس ما يمكن أن يرى فيه القارئ هجوما على الثقافة الغربية والحضارة الغربية نفيا لما في هذه وتلك من منافع ومن إيجابيات وجوانب قوة واسعاد للإنسان. وليس ما يرى فيه ترغيب وإطراء للثقافة العربية الإسلامية وللحضارة الإسلامية إنكارا لما في هذه وتلك من سلبيات ونقائص ومفاسد وأضرار بالرجوع إلى مسيرة قرون من الزمن، استنادا إلى ماهو تاريخي قيها، وبالرجوع إلى الأصل، فإن خلل الثقافة الغربية في أصولها النظرية وفي ثوابتها، مما جعل جانبها التاريخي أكثر بشاعة. أما الثقافة العربية الإسلامية، فإنها - نظرا لطبيعتها الربانية، بالغة من الرفعة والسمو في جانبها النظري وفي أصولها وثوابتها ما ليس لثقافة غيرها، مما جعل جانبها التاريخي أقل رداءة. وبقدر ما كان فيه من الأخطاء والتجاوزات، إلا أنه لم يبلغ مستوى البشاعة التى وصلت إليها الثقافة الغربية بالنظر إلى طبيعتها البشرية ذات الأصول التوراتية الإنجيلية المحرفة. وليس ما يمكن أن يرى فيه القارئ هجوما على النخب العلمانية اللائكية والتقليدية المحافظة تكفيرا لها أو إنكارا على البعض منها على الأقل، صدقها في الإنتصار لقضايا الحق والعدل والحرية، والإنحياز للشعوب والأوطان، وصدق في مواجهة قضايا الأمة ومشكلاتها واعدائها الخارجيين والداخليين، من قوى الهيمنة العالمية وأنظمة الإستبداد، ومن محاولة إيجاد صيغة للتعامل مع قوى المقاومة في حركة التحرر العربي الاسلامي. و ليس ما يري فيه اطراء للظاهرة الاسلامية و لقوى المقاومة في حركة التحرر العربي الإسلامي وانحياز لها هو إنكارا لما فيها من سلبيات وأمراض ونقائص، وما ارتكبته و ترتكبه وما يمكن أن ترتكبه من أخطاء، ولا إنكارا لما في بعض نخبها وقياداتها ورموزها من تزمت وتخلف وتحجر أحيانا. وليس في معرض الحديث عن الغرب وفي هجومه علينا وإظهار معاداته لأمة العرب والمسلمين مبالغة. ولم يكن ذلك بدافع العداوة وردة الفعل. إلا أن كل الممارسات والأفعال تفيد ذلك. وجل الأقوال والتصريحات تؤكد ذلك. ولا يعني ذلك أنه لا خير فيه أو أنه ليس فيه منصفون ولاأنصار للحق والعدل والحرية وإن قلوا. وإذا كان مهما ومفيدا الوقوف عند هذه الإستثناءات، إلا أن ذلك لا ينقص من قيمة الدراسة، إذا لم تقع الإشارة فيها إلى ذلك، لأن الإستثناءات قليلة دائما وفي كل شيء. والتاكيد على الأصل هو الذي يعتبر رصدا للظاهرة، ووقوفا عند القضية. ومن خلال ذلك ومن خلال ذلك فقط ،يمكن الإنتهاء إلى أوجه الحق والباطل فيها، والخطإ والصواب، والقوة والضعف، والنفع والضرر.
و لقد حرصت على أن أكون صريحا وواضحا في ما أقول، بقطع النظر عمن يوافقني في ذلك أو من يخالفني، و بقطع النظر عمن يغضبه ذلك أو يرضيه، و بقطع النظر عمن يقبل بذلك أولا يقبل به، إنما هي حقيقة المشهد كما أراها وكما أفهمها وكما تؤكدها الأحداث والأقوال والأفعال ماضيا وحاضرا. ومن حق أي كان أن يكون له فهمه في قراءة المشهد وفي رأيه فيه، بخلفية معينة، أواستنادا إلى مرجعية معينة، أو بالنظر إليه من زاوية معينة، أو لغايات وأهداف معينة. ولا ينبغي لمن يكتب وإن كان يكتب لكل الناس أن يكتب ليحضى برضى كل الناس لأن رضى الناس حاجة لا تدرك. وهو مطالب بأن يكون واضحا في ما يكتبه وأن يكون مسؤولا عن مواقفه وعن النتائج التى ينتهي إليها في ما يكون قد كتب، وفي ما يمكن أن يكتب، وعن الأحكام التى يصدرها عن هذه الجهة أو تلك، وفي هذه المسألة أوتلك، وفي هذه القضية أو تلك. لأن العمل الفكري والفني والأدبي إنما يستمد قيمته مما يكون عليه صاحبه من جرأة في غير تهور، وفي غير مجانبة للحق والصواب في مواجهة الواقع الموضوعي، وفي تناوله للقضايا الأكثر إثارة والأكثر خطورة وحساسية.
ولذلك حرصت على أن أكون صريحا وواضحا في إبداء الرأي في ما تعرضت له من قضايا، وفي الموقف من الجهات والأطراف المشكلة للنسيج الثقافي والسياسي والإجتماعي الوطني والإقليمي والدولي، ذات العلاقة بقضية التخلف والإنحطاط التي تفشت في الأمة، وبطبيعة العلاقة بين شعوبها، على المستوى الداخلي، وما بينها وبين الجهات الخارجية، والتداخل الحاصل في ما بينها ائتلافا واختلافا وتوافقا وتناقضا، وفي قضية المخاطر التي تحيق بأبناء شعوب الأمة وسائر أبناء الشعوب المستضعفة، والتهديدات التى تمثلها عليها قوى الإستنكار العالمي الغربي، والقوي الداخلية الموالية لها، وفي ما عليه الأمة من تمزق وتشتت، وارتهان قيادات بلدان شعوبها للأجنبي الغاصب المحتل، ومعانات قيادات شعوبها والأحرار من أبنائها، مما تتعرض له من اضطهاد داخلي وتهديد خارجي. وفي قوى المقاومة الفكرية الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية، وما تعانيه من اضطهاد ومطاردة ومحاولة استئصال. وماهي عليه من مواجهة وصمود وتصدي بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، دفاعا عن النفس وعن شعوب الأمة وأوطانها وسائر المظلومين والمضطهدين والمحرومين والمقهورين، فرضا للذات وتحريرا للشعوب باتجاه تحرير الأوطان من الإستعمار والإحتلال الخرجي والإستبداد الداخلي.
ليس هذا العمل الفكري إلا محاولة جد متواضعة، لا أزعم أني أحطت فيها بالإشكال الثقافي، وبقضية صراع قوى التحرر العربي الإسلامي مع القوى المناهضة للمشروع الثقافي العربي الإسلامي لهذه القوى، بما يمكن أن يحيطها به من هم أقدر مني على ذلك، في المواقع التي تؤهلهم إلى القول فيها بما يمكن أن يكون أجدى وأقوم، وأعم و أعمق وأشمل، وبما يمكن أن يكون بين أيديهم من معطيات ومعلومات ووثائق يتبين لهم من خلالها ماهو أكثر صوابا وأقرب إلى الحق والعدل، بما يجعلها أكثر وضوحا وأقل تعقيدا، وأقرب إلى الفهم والإستيعاب وأكثر نفعا.
إلا أن ذلك لا يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك جدوى من محاولة معالجة هذه المسائل من طرف من هم أقل من ذلك، لاسيما أن الإشكال ليس رياضيا ليتم الإنتهاء فيه إلى معادلة رياضية، وإلى حقيقة علمية، ولكنه من المسائل التى يمكن أن يكون لأي كان فيها رأي. ولرب رأي يبدو للبعض أحيانا أنه خاطئ ويكون فيه ومنه خير كثير، إما لما فيه من بعض أوجه الصواب لأنه لا يمكن أن يكون خطأ خالصا، أو لما يمكن أن يكون عليه من أوجه الخطأ، أو ما يبدو للبعض خطأ خالصا، فيكون ذلك مصدر استفزازا لمن هم أقدر على إبداء الرأي فيه، فيكون من محاولة النقد والتصويب والنفي والإثبات خير كثير.
هي محاولة مبتدئ زح به في عالم الفكر والثقافة إحساسه بأوجاع الأمة وآلامها وهمومها، وآمال وطموحات وحقوق أبنائها. والمظالم والتهديدات والمخاطر المحيقة بها. والدمار والخراب الذي حل بها، والفساد الذي استشرى في أوساط أبناء شعوبها بفعل جهات وأطراف داخلية و خارجية. وبما يحيق بالإنسان المقهور من مخاطر الدمار والضياع والفوضى التي تزرعها قوى الإستكبار العالمي في العالم. والمتأكد أن أشدها خطرا على الإطلاق هي الجهات والأطراف الداخلية لأنها تنخر كيانها من الداخل، بما يسهل على القوى الخارجية مهامها في التدخل المباشر السافر لانتزاع سيادة الشعوب عن أوطانها، وهي الفاقدة لها في الحقيقة أصلا بفعل القوى المتغربة أو المحافظة الهجينة أو بها معا، وبفعل النهب والقتل والتشريد والإذلال.
هي محاولة أشعر أني لم أستوف الموضوع فيها حقه من الإحاطة والوضوح المطلوبين لما يتطلبه ذلك من تمكن من الإلمام بالعمق المطلوب بثقافة الغرب، ومن إحاطة أفضل بالواقع، ومن رصد أدق للأحداث، ومن استلهام كاف للثقافة العربية الإسلامية ماضيا وحاضرا، في بلد ليس فيه من هو أكثر عداء للثقافة والعلم والمعرفة من القيادة السياسية التى ابتلي بها شعبه. كيف لا وهي التي يغلب على رأس هرمها الجهل إلى درجة الأمية ولا مصلحة له في هذه الثقافة أو تلك ، وهو ليس معنيا بها. وهوالذي أوكل المهمة لجسم الهرم المعادي عداء مبدئيا لثقافة وحضارة وعقيدة الشعب والامة ، والجاهل بثقافة الغرب، وليس معنيا منها إلا بما يتحقق له من خلالها من نفع مادي شخصي أو فئوي أو جهوي أو طائفي أو حزبي، وقد جعل عداءه لهذه من عدائه له ولها، وجهله بتلك من جهله به وبها . وليس لهذا الهرم كله من هامة رأسه إلى إخمص قدميه من عداء أشد من عدائه للعلم والمعرفة والثقافة عموما، وللثقافة العربية الإسلامية خصوصا. مما جعل من الطبيعي حرمان المحكوم عليهم بالسجن من أبنائه من آخر الإصدارات ومن كل جديد، مما له علاقة بعروبة الأمة وإسلامها، ولكنها محاولة جادة في حدود الإمكان، لم أراع فيها نيل رضا أي جهة، ولم أبال فيها بغضب أو رضى أي طرف علي. وكان كل الذي يحدوني فيها السعي إلى نيل الرضى من الله سبحانه وتعالى وهو نعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم./.
- نشأة وتطورالمشروع الثقافي للدولة العلمانية والتقليدية اللائكية الحديثة
في أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين :
في الوقت الذي كان يعيش فيه الغرب مخاض استلام زمام المبادرة الحضارية، كان العرب والمسلمون يعيشون أحلك أيام عصر الإنحطاط الذي حل بالأمة. وفي الوقت الذي أكمل فيه الغرب استيعاب الإنتاج الحضاري العربي الإسلامي، والأدب الإغريقي اليوناني والروماني الوثني والمسيحي البيزنطي، وانتقل إلى مرحلة الإنتاج والإبداع في المستوى الثقافي والفكري فالعلمي المعرفي والتقني التجريبي، أصبح العالم العربي الإسلامي يعيش الجهل والإنحطاط ،و قد انتهى به الحال إلى بلوغ درجة العقم والإفلاس. ولم يجد أمامه من سبيل سوى التعويل على التقليد، وفي أحسن الحالات اجترار ما كان قد تفتق عليه عقل الذين سبقوهم من المبدعين العرب والمسلمين. وفي الوقت الذي أدرك فيه الغرب أنه يجب أن يخرج من حالة الإنحطاط والجهل ، ويغادر مواقع البربرية والتوحش، بما أصبح بين يديه من إنتاج معرفي وعلمي وثقافي لم تكن له سابق علاقة به يجب أن يستفيد منه ، كان العرب والمسلمين الذين لم يكونوا بعيدين عن تلك الأصقاع التي كانت تشهد تحولات نوعية كبرى على طريق العلم والمعرفة والثقافة والصناعة والتجارة، ولكنهم ربما كانوا غير آبهين بما يدور من حولهم ومن القرب من البعض منهم، وهم الذين مازالوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم الأكثر تفوق وتقدم في كل مجالات الحياة، وأنهم أصحاب النسق الحضاري الذي مازال سائدا وبدون منازع.
وإذا كانت قوانين التاريخ ونواميس الكون تقتضيان أن لا يظل العالم خلوا من قوة حضارية ضاربة في إطار سنة التداول التى فطر الله الكون عليها، فإنه من الطبيعي أن يصاحب ذلك التقدم هذا التقهقر، وهذا التخلف ذلك التقدم .وأنه لابد أن يتزامن انحطاط الشرق مع نهوض الغرب. لتكون القوة في النهاية للعامل باسباب اكتسابها، وليكون الضعف للعامل بأسباب القابل للإستبداد به في إطار ارتباط الأسباب بمسبباتها والنتائج بأسبابها في صيرورة التاريخ البشري في حياة الإنسان على الكوكب الأرضي، وفي كل أقطار السماوات والأرض.
يقول تعالى:(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين)(1)
وبعد أن أكمل الغرب مشروعه الثقافي والفكري بعد تصفية الحسابات بين مختلف قواه التقليدية الرجعية وقواه التحديثية التقدمية، وبعد صراع طويل بين القديم والجديد، بين العقل والعلم من جهة، والأوهام والأساطير والخرافات من ناحية أخرى .بين الكنيسة وسلطتها ونفوذها ورموزها وثقافتها وطبيعة المجتمع الذي اختارته وتعمل بكل الوسائل للمحافظة عليه لما لها في ذلك من مصالح، وبين الطبقة البورجوازية من
المفكرين والفلاسفة والعلماء والرأسمالية الصناعية الناشئة، وطبيعة المجتمع الذي أصبحوا يريدونه، ولا
1- سورة آل عمران:140
يعدمون أي وسيلة لصياغته وترسيخه لما لهم فيه من منافع ومصالح فئوية وطبقية، والذي انتهى بانتصار العقل السليم على النقل المحرف.وبانتصار الفكر والفلسفة والعلم والعقل على الخرافة والأسطورة والأوهام التي كانت تمثلها الكنيسة والدين المحرف المصطدم مع العقل ومع كل ما كان ينتهي إليه من حقائق علمية، وبعد ما انتهى إلى الصراع كذلك لما تضح أن تكون عليه العلاقة بين العقل والوحي المزور من تناقض وتصادم وتباعد وعدم انسجام. واستقر الأمر هناك على الأيمان بالعقل والإنسان والطبيعة والمادة على حساب " النقل"، والإيمان والغيب والقيم والمثل، بعد أن كان الغرب طوال تاريخه البربري المتوحش والقيصري الكنيسي الإنجيلي، لا إيمان له بالعقل ولا بالعلم ولا بالإنسان. فكانت النتيجة أن كانت نهاية الصراع بالإيمان بهذا أو ذاك أو بهذا وذاك، ورفض أن تكون أي علاقة في إدارة الشأن العام بين هذا وذاك. وقد استقر الأمر في النهاية على التأكيد على أنه لا مكان لأي علاقة بين أمر الدنيا وأمرالآخرة، ولا بين الدين والعقل، ولا بين الدين والدولة، تأكيدا للمقولة الواردة في الإنجيل المحرف بضرورة إعطاء ما لله لله، وإعطاء ما لقيصر لقيصر. هكذا كانت نهاية المعركة وهكذا تم التواضع من موقع الغالب والمغلوب، ومن موقع المنتصر والمهزوم، على إقامة الحياة على هذا الأساس خاصة في فرنسا، وبدرجة أقل في إيطاليا وألمانيا. وتأسس على ذلك ثقافة كاملة لا خلاف فيها على ضرورة الدين ودوره في الحدود التي ترسمها النصوص وتأكدها وتحكمها في ما له علاقة بالإنسان وربه حسب زعمهم، وترفض أن تكون له علاقة بالحياة. فكانت الحركة العلمانية التي تأسست على أنقاض الحركة الدينية الكنسية. وبذلك جاءت العلمانية حاملة لمعنى – اللادينية- أي الدنيوية. وهي حركة لا تعترف من الدين إلا بما له علاقة بين الإنسان وربه، وهي مسألة خاصة، للفرد مطلق الحرية في أن يقيمها أو أن يسقطها دون أن يكون لذلك أي علاقة بالدنيا وأي تاثير على تنظيم حياة المجتمع والدولة . فإن كل ذلك شأن من شؤون الإنسان ويجب ولا يمكن إلا أن يكون بالإعتماد على عقل الإنسان وحده.
فقد تكونت هذه الحركة الفكرية والثقافية في إطار النظام الليبرالي الحر التي هي روحه، وهو إطارها، وهو نظام يقدس الفرد والملكية الخاصة، والحريات الفردية والعامة، ويعطي دورا أكبر لرأس المال وللطبقة البورجوازية والرأسمالية في المجتمع. وهو النظام الذي اكتمل فيه المشهد واتضحت فيه الصورة بإعطاء ما لقيصر لقيصروما لله لله. وحسم الصراع على هذا الأساس بعد أن تم اإهاء التداخل الذي أوجدته الكنيسة خلافا لتعاليم الإنجيل المقدس المحرفة.
وبتشكيل النظام الليبرالي أو الحر على أساس من المرجعية العلمانية، وقد أصبح الغرب قوة استلمت وعن جدارة زمام المبادرة الحضارية، اقتضى منه تطور أوضاعه الداخلية معالجة المشاكل التي أوجدها الوضع الجديد الذي أصبح عليه، واستكمالا لاكتساب أسباب القوة، أن يبحث لنفسه عن فضاءات بعيدا عن محيطه الجغرافي في أقصى مجاهل الأرض لتصريف فائض إنتاجه الصناعي والتجاري، والتزود بالمواد الأولية اللازمة لتشغيل مصانعه وتنشيط صناعاته وحركته الإقتصادية. فكانت حركة ما يسمى بالإستعمار تلك التى كانت حركة اجتياح وغزو واحتلال من طرف الدول الغربية وجل الدول الأوروبية تحديدا، لمناطق ودول المجتمعات والشعوب والأمم الأخرى التي لم تواكب التطور الحضاري الغربي، والتى لم تكن في مستوى الدول الغازية من حيث القوة والتنظيم والرقي والمعرفة والعلم، وتلك التي لم تعرف في حياتها حضارة وتطورا. وظلت محافظة على حالة البداوة والتوحش. فكانت حركة الإجتياح هذه غير مراعية لأي بعد إنساني، ولا معبرة عن أي مستوى حضاري يأمل فيه الإنسان الأمن والإستقرار والسلام والعدل والحرية والمساواة والأخوة الإنسانية. هذه الأبعاد الإنسانية والحضارية التي لم يعرفها التاريخ إلا في حركة الفتح الإسلامي.
وبما كانت عليه هذه الحركة من جلب للدمار والخراب للعمران وللطبيعة، وما كانت عليه من إبادة للإنسان والحيوان، ومن تدمير للبيئة وما كانت عليه من نهب للأرزاق والثروات إلا أن أبطالها والمروجين لها وقادتها والمنظرين لها يعتبرونها حركة إعمار لمناطق من العالم خالية، وتحريك لشعوب وأمم ساكنة. وما جاءت هذه الحركة على النحو الذي جاءت عليه إلا لإخراج هذه القبائل والشعوب والأمم من حالة الإنحطاط ،إلى حالة الترقي، ومن حالة البداوة والتوحش، إلى حالة المدنية والتحضر، ومن ثمة تحرير الإنسان من عقيدة الخرافة والاسطورة والسحر، والإنتقال به إلى عقلية إعمار الأرض بالصناعة والتجارة، واحيائها بالزراعة والفلاحة على أساس من العلم والمعرفة والتقنية.
وبقدر ما كانت تحمل من تطور وتقدم وإعمار، إلا أن كل ذلك لم يكن في الحقيقة خدمة للإنسان وإعلاء لإنسانيته ولإرادة الخير لهذه الشعوب والقبائل والأمم، ولم يكن الغزاة يفعلون ذلك إلا خدمة لمصالحهم وتحقيقا لأهدافهم والبحث عن حلول لمشاكلهم التي لم يبق أمامهم من حل لها إلا إعداد الجيوش المدجحة لأكثر الأسلحة تطورا في ما هو معلوم من تاريخ الإنسان، واقتحام على الآخرين أوطانهم ومناطق نفوذهم، و لم يكن لهم من غاية إلا النهب والتدمير والتخريب والقتل والإبادة إسعادا للإنسان الأبيض وتقوية لأوطانه وتطويرا لمؤسساته وإثراء لطبقاته وفئاته، وتنمية لاقتصادياته. وباعتبار طبيعته الإستيطانية وتوليه إدارة الأمور بالكامل بأوطان الشعوب التي اقتحم عليها أراضيها ومناطق نفوذها، وبإشراف مباشر منه عليها، وقد حمل معه مشروعا سياسيا ونظاما إداريا كاملا ، وبرنامجا اقتصاديا واضح،ا ورؤية ثقافية وفكرية متطورة، استطاع الإنسان الأبيض الغربي أن يفرض نفسه من خلال كل ذلك بالقوة، واستمر على ذلك طويلا ولعقود من الزمن، بل ولقرون من الزمن أحيانا وفي بعض المناطق من العالم. فقد ساعدت هذه القوة وهذه المشاريع والبرامج والرؤى إضافة إلى انبهار ضحاياه بها، والوقت الطويل من الزمن الذي أمضاه محكما سيطرته على الشعوب والاوطان، على ضمان استمرار مشروعه الثقافي ونمطه الحضاري في هذه الأوطان والمناطق والجهات من الكرة الأرضية التي كان له بها حلول. وما إن بدا لهذه القوى الدولية الإستعمارية أنه لم يعد لها مصلحة في البقاء العسكري، حتى أعلنت انسحابها، واعترفت للشعوب بحق تقرير المصير، بعد أن جعلت من نظام الدولة العلمانية بكل مؤسساتها، وبكامل منظومتها الفقهية ونظامها الإداري وثقافتها وفكرها أمرا واقعا ليس لأحد الحق في إبداله أو الإنتفاص منه أو تعديله. وهي معنية دائما بمراقبة الأوضاع والتدخل في الوقت المناسب لتثبيته وفرضه وتزكيته والإبقاء عليه.
إن الذي لا شك فيه أن الدولة العلمانية اللائكية القائمة على المشروع الثقافي الغربي هي الإبن غيرالشرعي لحركة الإستعمار الغربي. ولايمكن أن يكون المتمسكون بها والمحافظون عليها إلا استمرارا لوجود المحتل ووكلاء له في مستعمراته القديمة. وبذلك نستطيع القول، وبكل ثقة واطمئنان أن الثقافة التي ظلت سائدة في مستعمرات الدول الغربية بعد مغادرتها عسكريا هي ثقافة تبعية وتغريب. وإذا كان الغرب قد شهد في إبداعه الحضاري وتقدم الأوضاع وحصول التطورات الكبرى فيه انقساما استراتيجيا مهما إلى معسكرين يتجاذبان العالم ويتقاسمانه. واسنادا إلى القاعدة الخلدونية القائلة: بتأثر المغلوب بالغالب دائما فإن هذه الإنقسامات الحاصلة والتي حصلت، والتي يمكن أن تحصل هنا، يمكن أن تلقي بظلالها هناك، وتجد طريقها إلى المستعمرات التى ظلت كما خطط لها تابعة للجهات التي كانت ولعقود من الزمن واقعة تحت نفوذها وخاضعة لسيطرتها. وقد تأكدت هذه التبعية من خلال مشاريع القوى الإستعمارية الثقافية أساسا، ومن خلال تبني النخب المثقفة من شعوب الأوطان " المستقلة " لهذه الثقافات وهذه التطورات والفلسفات والأفكار. وقد حصل في هذه الأوطان من الإنقسامات ما قد وجد في العالم الغربي من انقسامات. ووجد فيها من الإختلافات أكثر مما وجد هناك من اختلافات. وبقدر ما تعددت المرجعيات هناك، كانت المرجعيات هنا أكثر تعددا. ولقد كان لثقافة التبعية والتغريب هذه فعلها في واقع الشعوب المستضعفة والمتخلفة حضاريا عموما. ولقد كانت أشد خطرا وأكثر تاثيرا سلبيا على " شعوب" العالم العربي والإسلامي ربما أكثر منه على أي شعب أو أمة من الشعوب والأمم الأخرى.
ثقافة التبعية والتغريب:
إن المتأكد أن ثقافة الغرب على تنوعها واحدة.إلا أنه حصل وأن انقسمت إلى بعدين أساسيين، تمثلا في النهاية في نظامين مختلفين، تحولا إلى معسكرين متنافسين: معسكرشيوعي شرقي اشتراكي، وآخرغربي رأسمالي حر،بما يجعل ثقافة التبعية والتغريب، إما أن تكون غربية أوروبية أمريكية تمثل استمرارا للوجود الإستعماري الغربي الأروبي والإمبريالي الأمريكي والصهيوني اليهودي، وامتدادا له في أوطان شعوب لها من مقومات الشخصية والتميز الحضاري والخصوصية الثقافية والوثوق الديني العقائدي ما يجعلها غير مستعدة لإسقاط حقها في أن تكون طرفا ثقافيا وحضاريا مستقلا متميزا قائما بذاته. وهذه الثقافة هي ثقافة " المسلح الفاتح والمبشر والباحث عن الثروة". وهي التي لم يقع الإهتمام من طرف النخب المثقة المتغربة منها إلا بالإفتتان بظاهرها ومظاهرها، مقابل إهمال واضح لمضمونها وشعاراتها الحقيقية، وإيجابياتها ومراكز ومواقع ومواطن القوة فيها.
وإما أن تكون شرقية شيوعية ملحدة واشتراكية منافقة. وقد كان وجودها سابقا لوجود المعسكر الشرقي المنهار وهي التي على أساسها قام. وهي التي كذلك على أصولها وثوابتها وتطبيقاتها انهار. إلا أن وجودها قد أصبح متاكدا منذ ظهور نظام المعسكر الشرقي، أو ما اصطلح على تسميته بنظام الديمقراطية الشرقية. ولقد أصبح ينظر إليها على أنها ثقافة الديمقراطية الشرقية. وثقافة العدالة الإجتماعية، إانهاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، بوضع السلطة بيد الطبقة الشغيلة (طبقة البروليتاريا) لوضع حد لصراع الطبقات الذي هو المحرك الأساسي للتاريخ. فليس التاريخ إلا تاريخ صراع الطبقات على حد قول واضع نظرية النظام الإشتراكي والشيوعي اليهودي الأصل كارل ماركس. ولقد استلهمت شعوب شمال القارة الآسيوية، والصين ودول شرق أوروبا وكثيرا من مناطق العالم لاحقا هذه الثقافة، بل قل قد فرضت عليها كذلك فرضا. وأنجزت روسيا الثورة البلشفية سنة 1917 ،فكان الإتحاد السوفياتي سابقا، والتحقت به عبر مراحل وبطرق مختلفة أوروبا الشرقية. وأنجزت الصين ثورتها الثقافية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماوتسي تونغ. كما سبق أن فجرت فرنسا ثورتها في وقت مبكر من تاريخ أروبا الحديث، وكان ذلك يوم 14 جويلية سنة 1789 ،ومن قبلها ثورة التحرير وتوحيد أمريكا سنة1779 . فقد كانت هذه الثوراة في جانب كبير منها من إنجاز الشعوب التى استمرت مراقبتها ومتابعتها لإنجازاتها الثقافية والثورية ، وأقامت على ذلك بناءا حضاريا متكاملا، تلازما مع الثورة العلمية والتقنية التى اجتاحت الغرب كله.
وبالمقابل، لم يكن لشعوب جنوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، ومنها شعوب العالم العربي الإسلامي أي دور في إنجاز هذه الثورات، وأي علاقة مباشرة بهذه الثقافات التي هي في الحقيقة وفي النهاية ثقافة واحدة، حتى فرضت علينا بقوة السلاح والنار في مرحلة أولى، ثم بتأكيدها وتثبيتها من قبل المفتتنين بالغرب الإستعماري، الذين كان يحكمهم صدق كبير في التبعية والولاء له في إطار الدولة العلمانية اللائكية الحديثة التي فرضتها هي كذلك قوى الغزو العسكري والثقافي والإقتصادي الغربي بالقوة على امتداد عقود من الزمن على شعوب أمتنا العربية الإسلامية، بعد أن ذهبت أشواطا في الإطاحة بالنظام الإسلامي الذي هو النظام الطبيعي لهذه الشعوب، لتكون نهاية هذا النظام على يد نخبة عربية " إسلامية" لحما ودما ولسانا، كانت قوى الغزو الغربي قد اعدتها لذلك. وما إن غادرت جيوشها وعساكرها وقواتها الغارية هذه الأوطان، حتى فسحت لها المجال للقيام بالدور الذي أعدتها له، ولاستكمال ما ائتمنتها عليه من إنهاء لبعض ما تبقى مما له علاقة بالنظام الإسلامي والثقافة الإسلامية، تأكيدا للدولة الحديثة ذات المنشأ الغربي، والقائمة على أساس من ثقافتها،ونظامها الإداري ومنظومتها الفقهية القانونية الوضعية. ويكون الغرب الصليبي اليهودي قد نجح بذلك في زرع الصراع الحضاري والثقافي والديني في كل قطر من أقطار شعوب العالم العربي والإسلامي، من خلال الطوائف والمذاهب العلمانية واللائكية التى أنشأها وثبتها في مواقع أخذ القرار، وهي التي أصبحت داعما أساسيا له في مواجهة الحركات الأصلية ذات المرجعية العربية والإسلامية.
وفي إطار تعدد الولاءات للأجنبي العازي المحتل،والذي كان من المفروض أن يظل مصنفا عدوا تاريخيا. وفي الوقت الذي كان يمكن أن لا يكون فيه تأكيد الولاء كل الولاء لاي جهة ولأي ثقافة إلا الولاء لشعوب الأمة ولأوطانها ولنظامها الإسلامي ولثقافتها وهويتها وحضارتها العربية الإسلامية، كانت جهات وأطراف أخرى مدينة بالولاء للمعسكر الشرقي- الوجه الآخر للثقافة الغربية و لحضارة الغربية، ومقتنعة به، قد سعت للوصول إلى سدة الحكم، في أوطان شعوب العالم العربي الإسلامي الممزق يحدوها الإيمان بالعنف، وتعطش للبطش والتتكيل وإرادقة الدماء للمخالف السياسي والثقافي وفي الرإي، ومن ثمة الحضاري. هذا المبدأ الذي كان أداة الشعوب المخدوعة في إنجاز ثورتها الإشتراكية، صار أداة المغامرين للإستلاء على الحكم، وإخضاع الشعوب لهذا المبدأ. فبدل أن يكون أداتها في إنجاز مهمتها الثقافية والسياسية، كانت ضحيته، ومورس عليها القهر والإرهاب والإذلال.
- إنقلاب المعادلة:
ففي الوقت الذي كانت فيه شعوب الغرب تصنع الحدث وتتصدر المبادرة بالفعل الحضاري، والتأسيس الثقافي والبحث العلمي والإبداع التقني والتحصيل المعرفي، كانت شعوب الأمة العربية الإسلامية ضحية التخلف والإنحطاط ،وفقدان زمام المبادرة الحضارية، والإنهيارالمعنوي والجمود الفكري والثقافي والمعرفي، وأصبحت محط أطماع أعدائها التقليديين الذين كانوا يتربصون بها على الدوام الدوائر، وتحولت من قوة كانت يحسب لها ألف حساب، إلى لقمة صائغة للغزو الخارجي، بعد أن ساد فيها الفساد، وعم بها الإستبداد، واستشرى فيها القمع الداخلي، فعل فيها المسخ الثقافي فعله بعد الإنقلاب الحضاري الذي حل بها، وبعد أن تم إخضاع شعوب أوطانها للأنظمة الفاشية والاستبداد، وقد انتزع منها نظامها الإسلامي الذي هو نظامها الطبيعي، و وتم وضعها تحت طائلة أنظمة تغريبية هجينة غير أصيلة لاعلاقة لها بها. أنظمة لم تورث فيها إلا مزيد الخنوع والخضوع والإستقالة والمذلة والمهانة والشعور بالدون. فقد انتزعت منها إرادتها، وصودرت منها حريتها، وأفقدتها ذاكرتها، وانتزعت منها كذلك روحها المعنوية التى كانت سلاحها الإقوى في مواجهة الغزو الغربي لأوطانها يوم كانت أكثر جهلا وأكثر فقرا وأكثر مرضا ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولايظلمون شيئا)(1).ولكم كانت عوامل الضعف وأسباب الإنحطاط والتخلف والردة أشد وأكبر وأكثر في ظل الدولة الوطنية القطرية الحديثة بنظامها العلماني اللائكي الحديث. فكان كل إنجاز هذا النظام، وكل ما قدمه المؤتمنون عليه من المحسوبين على هذه الامة،أن صاغوا مشروعا ثقافيا مستنسخا لا ينظر إلى الإنسان إلا على كونه بطنا وفرحا، ولا يعتني من الإنسان إلا ببطنه وفرجه. وإذا كان هناك من حديث فيه عن العقل، فليس أكثر مما تتحقق به أغراض إشباع هذين الغريزتين الحيوانيتين. فثقافة البطن و لفرج هي ثقافة الدولة العلمانية اللائكية الحديثة ونظام حكم التغريب والتبعية والإلحاق والولاء للأجنبي.
- الآثار المباشرة لهذه الثقافة:
أ - مقاربة ثقافية:
إن هذه الثقافة التي لا تكاد تهتم من الإنسان إلا بالمطالب المادية الغريزية البهيمية، وليس لها من غاية في النهاية إلا إشباع غريزتي البطن والفرج، وما يتبع ذلك من نشوة ومتعة وراحة وارتخاء. هي ثقافة لا ينظر
فيها للإنسان إلا من خلال مطالبه المادية. وإذا كان لا بد من حديث عن مطالب معنوية، فهي مطالب ذات
علاقة مباشرة بالمطالب المادية الملحة والتى تكتمل من خلالها المتعة، دون أن تتجاوز ذلك إلى أي مدى
آخر، باعتبار أنه لا معنى للحياة في هذه المنظومة الثقافية والفكرية خارج أبعادها المادية الحسية، وما
يتبعها من أبعاد معنوية تحصل من خلالها المنفعة المترتبة عن المنفعة المادية الناجمة عن الإشباع الغريزي
1- سورة مرية :آية 59
الحيواني الذي لا يتجاوز البطن وما يلزمها من طعام وشراب، والفرج وما يلزمه من لذة والتذاذ ونشوة عابرة متجددة ، و ما يلزم ذلك من متع معنوية يكتمل بها المشهد المادي، كالمأوى والدواء والنسل والترف الفكري والنجاحات العقلية واللهو وغير ذلك من الأهواء والمنازع النفسية ذات الأهداف والغايات المادية وإشباع الغرائز وتلبية الشهوات والحواس.
إن ثقافة الغرب المادية التى تختلف في نظرها للإنسان والحياة و لكون عن الثقافة العربية الإسلامية من حيث أنها لا تنظر للاإسان إلا باعتباره مادي، وللجانب المادي منه فقط . ولا تنظر للحياة إلا عاى أنها مادة أولا ومادة آخرا. ولا تنظر إلى الكون إلا على أنه مادي. وليس للأبعاد المعنوية والروحية في هذه الثقافة من قيمة إلا في حدود ما يوحي به و يستوجبه الجانب المادي، أوما يحققه الجانب المادي أو يتحقق به، فهي في جانب منها كافرة بكل ماهو معنوي وروحي وغيبي، وفي جانبها الآخر اعتراف بذلك، ولكن لايكاد الملاحظ والمراقب أن يرى أثرا لذلك في حياة الإنسان. وينتهي الأمر أن يصحب ذلك الإعتراف بالجانب المعنوي إنكار له خاصة في ماله علاقة بالغيب وبعالم الروح. فثقافة الغرب وإن كانت مالكة لروح العقل إلا أنها فاقدة لروح الحضارة، وإن كانت محيطة بالمادة إلا أنها معزولة عن الروح، وإن جاءت محققة للحرية الفردية ومقدسة للملكية الخاصة وداعية لحقوق الإنسان وعاملة بالنظام الديمقراطي وضامنة للحريات العامة والخاصة وما يتحقق من خلال ذلك من أبعاد معنوية، إلا أنها تصب في النهاية في الخانة المادية دون كثير اعتبار عندها بالجانب الروحي والمعنوي والغيبي، بل لا اعتراف لها أصلا في الوجه الآخر لنفس العملة الذي يمثله المعسكر الشيوعي بهذا الجانب الذي يعتبر مجرد الإعتراف به كفرا وجريمة يعاقب عليها، ضاربة عرض الحائط بكل ما هو روحي معنوي، وما له علاقة بعالم الغيب والمثل.
ولذلك كانت سمة العنف والإرهاب هي السمة الغالبة عليها. و كان اهتمام الإنسان متجها فيها دائما نحومضاعفة إنتاج وسائل الدمار والخراب أكثر ربما من أي إنتاج آخر. فأصحاب هذه المرجعية الثقافية المادية إنما يبتغون في ما أتاهم الله الدار الدنيا وينسون نصيبهم من الآخرة، بخلاف ماهي عليه القاعدة الواردة في القرآن الكريم، والداعية إلى أن يبتغي الإنسان في ما إتاه الله الدار الآخرة ولا ينس نصيبه من الدنيا يقول تعالى: " وابتغ في ما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لايحب المفسدين"(1)
فاذا كانت الثقافة الغربية المادية لا تخرج بالإنسان من عالم الطبيعة بالنظر إليه على إنه أحد عناصرها وهي موضوعه ومجال فعله و تفكيره، وهو الذي جعل علاقته بها علاقة صراع وقهر وإخضاع، فإن للثقافة الإسلامية معنى آخر للإنسان والحياة والكون، ورأي آخر في هذه المكونات للحياة الدنيا. فالإنسان فيها ببعديه المادي والمعنوي هو جسم وروح وعقل ونفس، وهو أفضل ما في الكون من الكائنات الحية، وهوالذي يتمحور حوله الكون كله، فهو عماده، وهو أحد عناصره الأكثر فاعلية والأكثر وعيا وإدراكا من ناحية علاقته بالطبيعة وبعالم المادة في حياة الكون. فالإنسان في التصور الإسلامي، وانطلاقا من المرجعية
1 - سورة القصص آية:77.
الإسلامية ومن ثمة في الثقافة الإسلامية هو مركز الكون الذي لا قيمة له بدونه، والذي منه يستمد قيمته الإنسانية من حيث أنه مخلوق، وأن الكون كله قد خلقه الله من أجله، وهو محمول فيه على القيام بمهمة الإستخلاف والإعمار ليقوم فيه الناس بالقسط . وليست علاقته بهذا الكون من حوله علاقة صدام وصراع وقهر ومغالبة كما في ثقافة الغرب، ولكنها علاقة حب وتسخير. فكل ما في الكون مسخر للإنسان ليقوم فيه بمهمة الخلافة عن الله خالق الإنسان والحياة والكون، يقول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مشيرا إلى جبل أحد " هذا الجبل يحبنا ونحبه".
وليست الطبيعة في بعدها المادي والمعنوي ذات الأثر المادي معزولة عن باقي عناصر الكون ومكوناته. فإذا كان لاعلاقة للطبيعة وعالم المادة في التصور الغربي بباقي عناصر الكون، بل إذا كان لا يعترف في بعض هذا التصور بوجود عناصر أخرى لها علاقة بالطبيعة وبالإنسان وبالكون عموما، وإذا كان من بعض الإعتراف، فإنه ليس ثمة إيمان في هذه التصورات البشرية المتنوعة على ما بينها من ائتلاف واختلاف بوجود تاثير لها عليه. فالطبيعة هي ميدان عمل الإنسان وساحة فعله وحده، ولا علاقة لهذا النشاط والفعل البشري بما يمكن أن يكون مؤمنا به في عالم الغيب. إن عالم المادة من الطبيعة هو مجرد جزء من الكون وأحد عناصره ومكوناته. وهو مجال فعل الإنسان في صورته الكاملة دائما، من حيث ،أنه روح وعقل ونفس وجسد في كدحه إلى الله يقول تعالى:"يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه"(1).
وليست الطبيعة من الكون في التصور الإسلامي ميدان نشاط وفعل الإنسان وحده، ولكن الحياة فيه أكثر من أن تكون مجرد مادة، ومادة فقط ،وليس الإنسان إلا أحد عناصره الحيوية والمدركة الفاعلة فيه. ذلك أن صورة الحياة في المرجعية الإسلامية، تكتمل باقتران ما هو مادي فيها بما هو معنوي، بما هو روحي وعقلي ونفسي وجسدي ، وبما هو عالم غيب وعالم شهادة، ليس الإنسان فيها إلا أحد ثلاث كائنات حية تختلف في جوهرها بين النور والنار والصلصال، وهي : الملائكة والجن والإنس، في علاقة مباشرة في ما بينها. ففي معرض الحديث عن الشيطان الذي هو من الجن يقول الله عز وجل في كتابه العزيز:" يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليوريهما سوءاتهما إنه يراكم هو قبيله من حيث لاترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون"(2.
فإذا كانت الثقافة الغربية ليست معنية من الإنسان إلا بالجانب المادي منه، وليست معنية من الحياة إلا بعناصر المادة فيها، ومن الكون إلا بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد،ومن ماء وهواء وتراب ونار، فإن الإسلام قد جمع في تصوره، إضافة إلى كل هذه العناصر كائنات شفافة إخرى، يكتمل بها الكون في الوجود وفي المعنى. وإذا كان لهذا تاثير في حياة الفرد والجماعة البشرية من المؤمنين بوجود هذه الكائنات إلى جانب هذه العناصر، ومن المعترفين بها أو من غير المؤمنين بذلك وغير المعترفين به، فإن جل اهتمام
1- سورة الإنشقاق آية:6
2 - الأعراف:27
الإنسان من الكون والحياة متجه في التصور الإسلامي والثقافة الإسلامية لعالم المادة ودنيا الطبيعة تفكيرا وفعلا في غير انصراف عن الإعتراف بالعناصر الأخرى والإيمان بوجودها لاكتمال صورة الكون ووضوح الرؤيا لمعنى الحياة. وليس مزاولة الإنسان لمختلف مناشط الحياة عقلا وفعلا في هذا الكون بمعزل عن معنى أوسع للحياة في التصور الإسلامي. ذلك أن عالم الغيب لا يتحقق ثوابا وعقابا إلا بالفعل الإنساني قولا وعملا وتفكيرا بحسب ما يكون عليه الإنسان من انضباط في القول والعمل والتفكير وهو يزاول نشاطاته المختلفة في عالم المادة والطبيعة بما يتحقق له به من الثواب في حياة فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال بشر، وبما يتحقق له به من عقاب خالدا فيه أحقابا أو أبدا ويسلط عليه فيه من العذاب ما إن خرج منه إلا وأعيد فيه، وينال من العذاب مالم يعذبه من قبل، وقد يخلد فيه مهانا. فبقدر ما يتجه اهتمام الإنسان في الحياة للإكثار من فعل الخير واجتناب الشر أكثر ما يمكن وهو مؤمن بذلك- في عقيدة التوحيد التى يجب أن يكون عليها- بقدر ما يكون حائزا على الثواب بما يدخله به الله الجنة حيث حياة المتعة الدائمة والخلود في النعيم الدائم. وبقدر ما يتجه اهتمامه في الحياة إلى الرذائل والإنصراف عن الفضائل، بقدر ما يناله من العقاب ما يدخله به الله النار، حيث العذاب الدائم أحقابا أو أبدا خالدا فيه مهانا حيث لا يموت فيه ولا يحيا. وقد وقع الإهتمام في التصور الإسلامي للحياة ببعديها عالم الغيب وعالم الشهادة بما يتحقق للإنسان من ثواب وعقاب، وجنة ونار بحسب ما يكون عليه الفرد في حياته الدنيا من خير وشر وبحسب ما يقوم به من أفعال وعمل صالح، وما يصدر عنه من أقوال حسنة أو قبيحة ، وبتحديد هذه القيم وفق مقتضيات الفطرة السليمة التى خلق الله الإنسان عليها. قال تعالى: "فأقم وجهك للذين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون"(1).
ووفق ما جاء به الوحي من الله على رسله وأنبيائه أمرا ونهيا بما يتحقق به للإنسان من خير ومصالح ومنافع، وما يجنبه من وقوع في المفاسد والشرور والمهالك والأضرار...
وبهذه الفروق بين هذه الثقافة وتلك وهذا التصور وذاك، يكون الإختلاف في التفكير والسلوك بين من هم على ثقافة الغرب المادية المحدودة، ومن هم على ثقافة الإسلام الجامعة بين المادة والنفس والروح والعقل في آن، وبين عالمي الغيب والشهادة. وإذا كان من الطبيعي أن يكون الغرب الصليبي اليهودي منسجما مع ثقافته المتأصلة في العهد القديم والعهد الجديد والمتراوح الإعتقاد عند المؤمنين بهما بين معتقد أنه لا مسؤولية عليه في ما يقوم به من أفعال وما يصدر عنه من أقوال في هذه الحياة، وسيجد أن السيد المسيح عليه السلام قد قدم نفسه قربانا وفداء لأتباعه المؤمنين بما جاء من تعاليم في العهد الجديد الذي عيث فيه من بعده تحريفا وتزييفا، والذي بقيت الإشارة فيه إلى الحساب والعقاب، والقول فيه بالتنعيم وبالجنة والنار، وتخليصا لهم مما يمكن أن يكونوا قد ارتكبوه في حياتهم الدنيا من معاصي. فلا مسؤولية لهم على أفعالهم ولا على أقوالهم. ويطمعون أن ينعموا بالنعيم الدائم يوم القيامة. وبين معتقد في أنه "ليس من عمل ولا

1- سورة الروم: آية 30
اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التى أنت ذاهب إليها"(1).
" تمتع جميع حياتك الفانية بعيش مع المرأة التى احببتها و آويتها تحت الشمس لتقضي أيامك الفانية فإن ذلك
حظك من الحياة" (2)
وبين من لا اعتقاد عندهم في ثواب ولا في عقاب، ولا في جنة ولا في نار ولا في تنعيم، من اليهود بحسب ما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة المحرفة، والتي عاثوا فيها فسادا وتزويرا من بعد موسى عليه السلام. وأنه لا حياة أصلا في اعتقادهم بعد هذه الحياة، ولا نعيم بعد الذي يمكن أن ينالوه من نعيم فيها. يقول تعالى:"ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون"(3) وهم الذين يعتقدون أن إلاههم "يهوه" هو الذي يمتعهم في الدنيا إذا رضي عنهم ويعذبهم ويعاقبهم فيها إذا غضب عليهم، وهذا الرضى وهذا الغضب مقترن عندهم في عقيدتهم بقدر ما يكسبون من القدرة على الإمعان في إبادة غير اليهود وتسخيرهم لخدمتهم . ويتحقق لهم بهذه الثقافة من العز والمجد والمصالح ما لا يتحقق لغيرهم ممن هم على ثقافتهم من غير الغربيين واليهود طبعا. و إذا كان لهم فيها من الجدية ومن مكامن القوة، وتحقق ويتحقق لهم بها من القوة والتفوق، فإن ذلك لا يعني بالضرورة - لما فيها من الذاتية والخصوصية- أن يتحقق بها لغيرهم من أصحاب الثقافات والعقائد الأخرى، لما لهم في ثقافاتهم من ذاتية وخصوصية. فلا معنى لأي ثقافة خالية من هذه الذاتية وهذه الخصوصية لأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم. ولا مكان لأي شعب من الشعوب ولا لأي أمة من الأمم بدون ثقافة خاصة قائمة على ذاتية وخصوصية ذلك الشعب وتلك الأمة. ولا يمكن أن يتحقق أي شيء ذا بال لأي شعب وأي أمة بدون ذلك. وبهذا المعنى للإنسان والحياة والكون في كلا الثقافتين، كان الإنقسام كبيرا في مجتمعات شعوب العالم العربي الإسلامي. وقد أصبح الصراع محتدا بين أبناء الشعب الواحد والأمة الواحدة.صراع بين أنصار ثقافة الغرب اليهودي الصليبي التى هي في جانب كبير منها ثقافة البطن والفرج- فحتى الديمقراطية والحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، كما العلم والعقل والتقنية في الغرب نفسه، هي قيم وآليات وتقنيات ووسائل يستعان بها لتحقيق الإشباع الغريزي والشهوات في أكثر مواطنها الحاحا- وبين أنصار ثقافة العروبة والإسلام التى هي ثقافة جادة. وهي ثقافة الجهاد والشهادة والإستشهاد، وثقافة العفة والإستعفاف والفضيلة. هذه الثقافة المعترفة بالبطن والفرج والمتعة الحسية، والعاملة على تحقيق الإشباع الغريزي للإنسان بضوابط وحوافز وأساليب وآليات يتحقق بها الغرض، مع المحافظة على أن يظل الفرق واضحا بين الإنسان والحيوان في تحقيق ذلك. وإذا كانت الثقافة الغربية قد جاءت ساعية لإظهار الغرائز والتاكيد عليها، وعاملة على توظيف كل شيء لإشباعها، ومعتمدة كل الوسائل لتحقيق هذه الغاية، فإن الثقافة الإسلامية وإن جاءت معترفة بهذه الغرائز وعاملة على
1- التوراة:2 :18 تاريخ الوجودية في الفكر البشري: محمد سعيدالعشماوي.
2 – نفس المصدر.
3- سورة البقرة:96
إشباعها، إلا أنها جاءت كذلك عاملة على إخفائها، فهي ثقافة الروح والعقل، أي ثقافة إظهار الروح والعقل
استبعادا لحيوانية الإنسان، وتاكيدا لإنسانيته، وبين أنصار ثقافة البطن والفرج من الغربيين وصنائعهم
وأنصار ثقافة الروح والعقل من العرب والمسلمين، يوجد الضائعون التائهون والمهمشون من أبناء الأمة
الذين مازالوا بفعل الإستبداد والتغريب غير قادرين على الإلتحاق بثقافتهم العربية الإسلامية،ولا هم قادرين على استلهام ثقافة الغرب و الإقتناع بها، و الإلتحاق عن اقتناع بوكلاء الغرب في مجتمعات شعوب الأمة.
وبين ثقافة حضارة العلم والتقنية والعقل، والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بحسب المعايير الغربية التى هي في النهاية، وكما يقدمها لنا المستغربون ووكلاء الإستعمار في الأنظمة الفاشية الفاسدة وفي أوساط النخب المتغربة الداعمة لها، ليست إلا ثقافة الإستبداد والإستعتهار بالقيم والمبادئ، وإلغاء ثوابت الثقافة الأصلية والمقومات الشخصية للشعوب، وثقافة الإثارة والتهميش، والتى وقع اختزالها في النهاية من طرف هذه الجهات- وكما يظهرونها في برامج الثقافة والإعلام والدعاية والإشهار...من خلال وسائل الإعلام والخطاب والإتصال التي أحكموا السيطرة الكاملة عليها- في التأكيد على كل ماله علاقة بالبطن والفرج، مصادرة للعقل، وإلغاءا للروح، ومن ثمة نفيا لإنسانية الإنسان في عناصرها الأساسية الأربعة التى ليست إلا له، والمتمثلة في ما سبقت منا الإشارة إليه سالفا، في الروح والعقل والجسد والنفس، وثقافة الحضارة والعلم، والجهاد والشهادة والإستشهاد والأمانة والعفة والفضيلة . وهي كذلك ثقافة الحرية التى لا اعتراف فيها بالعبودية لغير لله. وثقافة العدل والإحسان والمساواة والشورى والأخوة الانسانية، والوحدة العربية والإسلامية فالإنسانية ،باعتبار أن الوحي قد جاء مخاطبا كل الناس لدعوتهم لتوحيد الله، والكفر بما دونه من الآلهة المختلفة والمتنوعة والمتعددة. قال تعالى:(1)"قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون" ويقول كذلك في نفس السورة :" اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون"(2) ، وهي ثقافة حقوق الإنسان، بل وحتى حقوق الحيوان والنبات كما جاء في ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة من مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تداهموا الطيور في وكناتها"، وقوله:" أرح ذبيحتك"، وقوله:"دخلت امرأة النار من أجل هرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم" لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا كبيرا، ولا تقتلوا حيوانا، ولا تحرقوا شجرا" حتى أنه بإمكان الناظر والباحث في هذه المسائل في التراث العربي الإسلامي وانطلاقا من النصوص الأصلية للإسلام، يمكن أن يعد ويحضر وثائق في هذا الشأن في مستوى الوثيقة العالمية للإعلان عن حقوق الإنسان التى لم تأت لنا نحن معشر المسلمين في الحقيقة بجديد، عدى ما احتوته من بنود مخالفة، لمبادئنا وقيمنا التى هي مبادئ وقيم عالمية بل كونية.
1- سورة الأعراف:158
2 - سورة الأعراف:3
هذه الوثيقة التى لو وقع الإستناد فيها لتعاليم الإسلام وقيمه ومبادئه لكانت أقوم وأفضل وأكثر نضجا ووضوحا واعتدالا من الصورة التى جاءت عليها.
فبين هذه الثقافة وتلك، يشهد أبناء الأمة والإنسان المعاصر عموما، ضياعا وخداعا كبيرا، وانشقاقات وانقسامات كثيرة. وحيرة وتصدع في المجتمع الإنساني، والذي زاد الأمر خطورة اختلال التوازن الدولي بعد سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا، ذلك الحدث الذي أصبح رمزا لسقوط المعسكر الإشتراكي وتفككه- وإن لم يكن ذلك التوازن في الحقيقة لصالح أمة العروبة والإسلام في شيء- وبروز المارد الأمريكي الذي تسيطر على عقليته وتفكير قياداته الفكرية والإعلامية والسياسية والعسكرية نزعة السيطرة والهيمنة على العالم، وإحكام قبضتهم عليه. وقد سارعوا برفع شعار: نحو نظام عالمي جديد أسموه نظام العولمة، سرعان ما تبين أن الأمريكان لا يقبلون أن يكون له معنى غير الأمركة، بما يعني السيطرة الأمريكية المطلقة على العالم. مما جعل العالم والكيانات الضعيفة والصغيرة فيه تعيش مخاطر حقيقية، وتهديدات مباشرة في الإستقلال والسيادة والثقافات واللغات. حيث لا مكان للصغار في نظام العولمة. ولا معنى ولا مكان للدولة القطرية. ولا معنى للقوميات والخصوصيات الثقافية والعرفية واللغوية أمام الهجوم الإعلامي والثقافي الكاسح الذي تقوده الأمبراطورية الأمريكية مدعومة بالغرب الصليبي الإستعماري وبالكيان الصهيوني والشتات اليهودي العالمي ضد الثقافات المخالفة واللغات والأعراق الأخرى. وقد أعلن حلف الناتو بعد تأكد انهيار المعسكر الشرقي مباشرة، حربة على الإسلام والعرب والمسلمين. وما أحداث 11/9/2001 بواشنطن ونيويورك، إلا القطرة التى أفاضت الكأس في هذه الحرب المفتوحة المعلنة على الأمة وعلى المستضعفين في العالم عموما.
إن المتتبع للأحداث في تاريخ الأمة المعاصر، يري بما لا يدعو مجالا للشك- في قراءة جريئة بعين العاقل الحاذق والمتجرد المحايد، بعيدا عن الخوف والعاطفة والمجاملة والتحامل- أن عصور الإنحطاط ليست هي وحدها المسؤولة عما بالأمة من انقسام وتشتت وتشرذم، وتخلف وتبعية وإلحاق، وفقدان للحرية والكرامة والسيادة... ولكن المسؤولية الكبرى على النكبات التى تعيشها الأمة طيلة هذه العقود من التاريخ المعاصر، إنما مرجعها إلى الإستلاب الثقافي، والإنهزام النفسي، والفساد المادي والإداري الذي تديره الدولة العلمانية الحديثة. هذه الدولة التى حافظت على الموروث الإستعماري الثقافي والإداري والقانوني واللغوي، وعلى الإنقسام الذي أوجده، والفرقة التى أقامها. فلم تجن شعوب الأمة في هذه الأوضاع الرديئة السيئة إلا الهزائم والنكسات والنكبات والخسائر والمفاسد والإفلاس في غير مبالغة- وليس ذلك إلا نتيجة غياب الأرضية الفكرية الثقافية الأصلية المناسبة. ولقد أدرك الكثير من أبناء الأمة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الإنهيار، وتواصل النزيف ، واستمرار رداءة الأحوال، والإنتقال من سيء إلى أسوء.
فسارعوا إلى الشروع في تجميع أبناء شعوب الأمة في الكثير من أوطانها، بل في كل أوطانها، حول ثقافتها الأصلية الأصيلة التى لا يمكن أن يكون لها وجود محترم بدونها. هذه الثقافة المتمثلة في ثوابت الإسلام وتجربته التاريخية في الإبداع والبناء الحضاري. هذا الإسلام الذي كان على الدوام خشبة الإنقاذ والنجاة، وأداة الخلاص والتحرر كلما تفرقت بالأمة السبل. يقول تعالى" اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين
أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"(1)
ويقول:"وأن هذا صراطي مستقيما، فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"(2 ) فظهرت إلى الوجود حركة إسلامية، تعددت فصائلها وتنوعت، على ما بينها من ثوابت وقواعد أصلية ثابتة دائمة- بتنوع الأعراق واختلاف اللغات واللهجات والألسنة واختلاف الأوطان.
فكانت الأكثر قدرة على استيعاب الشارع واستقطاب الرأي العام.وكانت كذلك الأكثر عرضة للمخاطر والإضطهاد والتهديد والاستهداف، والأكثر أعداء وخصوما. وهي التي تشكل أرضية مناسبة لقيام ثورة ثقافية حقيقية تكون أساسا نظريا لبناء حضاري مساهم ومبدع، على أساس من الخصوصية والذاتية والتميز والعالمية، وتكون شعوب الأمة من خلالها كغيرها من الشعوب والأمم الأخرى التى أنجزت مهامها الثورية الثقافية والحضارية.ولولا المعوقات الذاتية والموضوعية الداخلية والخارجية لأنهت تحقيق هذا الإنجاز بنجاح.ولعل أهم المعوقات وأكثرها رسوخا وأشدها صعوبة بعد خطر الخصوم الداخليين والأعداء الخارجيين وعلاقة الائتلاف والتوافق الحاصلة، و لتنسيق والتحالف القائم بينهم، هي تلك المفاهيم المحنطة المستمدة من الموروث الثقافي القديم الذي يطغى عليه الطابع الأموي المنحرف والمحرف لمبادئ الإسلام ، والقائلة بضرورة اجتناب الفتنة، ووجوب طاعة ولي الأمر وإن جار وظلم واستبد وطغى وأفسد...وغيرها من المفاهيم التى أصبحت المصلحة تدعو إلى إعادة النظر فيها على ضوء النصوص الأصلية، وعلى ضوء المستجدات وتغير الزمان و لمكان والأحوال. ورغم كل المعوقات الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية، المحلية والإقليمية والدولية، فقد استطاعت هذه الحركة أن تصمد وأن تتجاوز الكثير من الصعوبات والحواجزوالمعيقات، وأن تخرج من الكثير من الضربات منتصرة مظفرة، رغم ما يصيبها من ضعف، وما يسبب لها ذلك من صعوبات ومشاكل وضعف وانتكاسات.واستناد إلى مرجعيتها والأسس النظرية الفكرية، والبعد العقائدي الذي تقيم عليه بناءها، استطاعت مختلف فصائلها، على اختلاف في ما بينها، أن تشهد نقلة نوعية في هياكلها التنظيمية، وبرامجها السياسية، ورؤاها الفكرية وخططها الإقتصادية، ونظرتها الإجتماعية، ومشروعها الثقافي، بما يمكنها من تحقيق انتشار ميداني واسع، وفاعلية أكبر،الأمر الذي انتهى بها إلى تحقيق أهداف كثيرة ونجاحات كبيرة تأكد لها بها وجود محترم، سواء على المستوي الداخلي أو الخارجي أو الدولي، على اختلاف كبير في تقييم ذلك سلبا وإيجابا بين مختلف المراقبين والمهتمين بالشؤون الإستراتيجية الدولية والحراك السياسي الداخلي الوطني والإقليمي، فقد استطاعت فصائل الحركة الإسلامية المجاهدة في أفغانستان أن تقف في وجه النظام الماركسي الفاشي، وتحقق
1- سورة: الفاتحة.
2 - سورة: الأنعام 103
نجاحات في التصدي للغزو السوفياتي، وإلحاق الهزيمة بأحد أكبر جيوش العالم تدريبا وتسليحا.ومازالت بعد كل الذي حصل مقرة العزم على مواصلة الجهاد على درب الشهادة والإستشهاد، ليستيقظ العالم ذات يوم- رغم الخيانات و لعملاء، ورغم التفوق العسكري لقو البغي والشر المنتصرة لثقافة البطن والفرج
وإشباع الغرائز والنزوات، على انتصار المقاومة الداعية لثقافة العقل والروح، والخير والعدل، على قوات التحالف الصليبي اليهودي والجهات الموالية لها بقيادة الأمبراطورية الأمريكية هذه المرة.
فالثقافة الإسلامية استنادا إلى مصدرها الرباني- هي ثقافة الحرية والتحرر والإستقلال، والثقافة العلمانية اللائكية هي ثقافة النفع والربح والتحلل والاستغلال، وموالاة الإجنبي المعادي للشعوب والأمم والقبائل المستضعفة، ومعاداة الأصيل الموالي للشعوب والأمم والقبائل المستضعفة. وعلى هذا الأساس، وبناءعلى هذه القاعدة جاءت فصائل الحركة الإسلامية على تباين في ما بينها، وعلى اختلاف المواقف منها، داعية إلى الحرية، وتخليص شعوب الأمة والإنسان عموما من الإستبداد والإستغلال والإحتلال. فهي قوى تحرر بما في الكلمة من معنى، وعلى النحو الذي كانت عليه حركة الفتح الإسلامي، وعلى خلاف ما كانت عليه وعليه اليوم حركات التحرر الأخرى، أسلوبا ومنهجا وغاية وأهدافا. فقد أخذت فصائل الحركة الإسلامية في كشمير على عاتقها مهمة تحرير المنطقة من الإحتلال الهندي، والكل يعلم كيف انطلقت الحركة الجهادية في الشيشان وما حققته من انتصارات ومن نجاحات في المرحلة الاولى، لولا الأخطاء القاتلة التى وقعت فيها في المرحلة الثانية، والتي نسقت كل المكاسب التى تم الحصول عليها في المرحلة الإولى من قرار الإستقلال عن روسيا.فقد أبت هذه الحركة إلا أن تظل قائمة ومتواصلة، رافضة الإستسلام والتخلي عن حقها في الإستقلال الذي من حقها التمتع به كما حصلت على ذلك باقي الدول المكونة للإتحاد السوفياتي سابقا.
فقد اجتمع في تركيبة مجتمع الوطن الواحد من أوطان شعوب الأمة في العالم العربي الإسلامي فريقان:"فريقا هدى وفريقا حقت عليهم الضلالة، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون"(1) هما فريق الهدى وفريق الضلالة: كما جاء تبيان ذلك في الآية الكريمة. فريق الهدى المستلهم لثقافة التحرر والإستقلال والعدل والأخوة الإنسانية والمساواة المستند للمرجعية الإسلامية، وفريق الضلالة المقتنع بثقافة الإنحلال والإستغلال والعنصرية والميوعة والأستعباد والمنتصر لها، والدائر في فلك التحالف الصليبي اليهودي ذي المرجعية العلمانية اللائكية. وفي الوقت الذي يرفع فيه فريق الهدى راية الجهاد، ويثبت ثقافة الشهادة والإستشهاد والتحرر والإستقلال، يأبى فريق الضلالة إلا أن يظل سالكا طريق العمالة والولاء لقوى الغزو والإحتلال والظلم والبغي والإستبداد في علاقة مهادنة وتحالف معها، خاذلا لقوى التحرر ومواجها لها، وداعما لقوى الإحتلال والإذلال والفساد ومتمسكا بها ومثبتا لها، مؤكدا لثقافة البطن والفرج. ثقافة النفع والربح والإستغلال. ثقافة الإستهتار والإثارة والتهميش وقتل الإنسان. والصورة
التى تزيد المشهد وضوحا، في إظهار الفرق بين ثقافة الإقتحام التى هي ثقافة المقاومة والإستشهاد من أجل

1- الأعراف:30
الحرية والتحرر والإستقلال، وثقافة الإنهزام التى هي ثقافة المهادنة والإستسلام من أجل المنفعة والإشباع الغريزي والنفع والربح غير المشروع ما حصل في جنوب لبنان، حيث حققت المقاومة الإسلامية وأن
كانت شيعية سبئية ما عجزت المنظومة العلمانية اللائكية بكل طوائفها وشرائحها وقواها وتنظيماتها
وفصائلها وأنظمتها على تحقيقه في عقود من الزمن، وهي تملك من الإمكانيات المادية الضخمة ومن القدرات والمهارات البشرية أضعاف ما تملك المقاومة التى كان لها وحدها شرف إلحاق الهزيمة العسكرية
بأكبر قوة احتلال بالمنطقة، ونجحت في تحرير الجنوب اللبناني من الكيان الصهيوني. فقد مكنتها ثقافة النصر والتحريرمن النجاح في إدارة المعركة على مستوى الصمود والتنظيم والعمل الإستخبراتي والأمني و لإبداع في فنون الحرب والقتال والعمل الفدائي. والذي يجب أن يكون واضحا أن العمل الفدائي المحقق لإلحاق الهزيمة العسكرية بالعدو لا يمكن أن يحقق أهدافه، وينتهي إلى غاياته، ما لم يصاحبه نجاح في العمل الإجتماعي، واكتساب القدرة على إقامة بنية اقتصادية متطورة وناجحة، تكون داعما للعمل الفدائي.
وإذا كان للمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وضع خاص وظروف خاصة ساعدتها على إنجاز مهمة التحرير، فإن وضع فصائل المقاومة في فلسطين المحتلة، وخاصة المقاومة الإسلامية وعلى رأسها حركة حماس، يمكننا من القول أنها تعبر عن قدرة أكبر على إدارة المعركة عسكريا وأمنيا واقتصاديا لاعتبارات كثيرة منها:
1- الإلتحام المباشر مع العدو،والذي يجعل العمل الفدائي والأمني والإقتصادي والإجتماعي أكثر صعوبة وأكثر تعقيدا.
2- أن المعركة مع المحتل هي معركة وجود لا معركة حدود.
3- الإختلال الساحق في التوازن بين القوى.
4- تشرذم الجبهة الداخلية وتفككها بالرغم مما تبدو عليه من وحدة وانسجام.
5- اعتبار السلام خيارا إستراتيجيا والمقاومة استثناء لدى الجهات التى من المفروض أن تكون داعمة لها.
6-خذلان النظام العربي وتوابعه والجهات المماثلة له بالداخل للمقاومة.
7- ضيق مجال عمل المقاومة على المستوى الجغرافي بالنظر إلى طبيعة الوضع الجغرافي لما يسمى بمناطق الحكم الذاتي " للسلطة الوطنية الفلسطينية" المنصوص عليها في وثائق اتفاق أوسلو المشؤوم، في إطار سياسة الحصار والإغلاق.
في هذا الوضع الخانق أكدت المقاومة الوطنية الإسلامية منها والعلمانية اللائكية – وإن بدرجات أقل- خيار المقاومة. واستطاعت أن تقيم المعركة وبنجاح، سواء على المستوى العسكري أوالأمني أو الإجتماعي والإقتصادي أو الإعلامي، وعلى مستوى الإنتفاضة عموما ضد العدو...
ذلك أن الصمود وتأمين المصالح والأشخاص وإلحاق الضربات الموجعة بقوة الإحتلال في ظل تفوق ساحق له، وانعدام وجود مساحات وفضاءات كبيرة لإعداد المقاومة ومزاولة نشاطها العسكري فيها، وفقدان خلفية للدعم والتمركز التى تستحقها، كان كل ذلك تعبيرا عن قدرة فائقة على التنظيم والتاطير وإدارة المعركة والمحافظة على استمرار المقاومة، وليس مرد ذلك كما يعلم كل العالم اليوم إلى زخم بشري هائل، ولا إلى مؤسسات إقتصادية داعمة، ولا إلى قوة عسكرية شديدة التسلح وجيدة التدريب، ولكنها الجدية والكفاءة والروح المعنوية العالية، والإيمان بالحق المستمد من الإيمان بالله، هذا الإيمان الذي يؤكد لدى المؤمن رغبة في الحياة أشد من رغبة أي راغب فيها، لأن تمسكه بحق العيش في هذه الحياة عزيزا مكرما شريفا يدعوه إلى التصدي والمقاومة والفداء، رفضا للظلم والفساد والرذيلة والذل، إلى حياة أفضل، له فيها كل ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين. فالثقافة الإسلامية هي التي يستمد منها الإنسان معنى للحياة ليس في أي مرجعية مثله ، فهي تلزمه بأن يعيش دوما على ذلك المعنى حرا، عزيزا، شريفا مكرما. وإذا بدا له أن ذلك ليس ممكن التحقيق في هذه الحياة الدنيا ،فإن عليه أن يسلك الطريق إلى حياة الخلود في النعيم الدائم حيث لا يضمأ هناك ولا يضحى. وعليه أن يجتنب من العمل كل ما يحول دونه ودون الإنتهاء إلى حياة الخلود في الجحيم، أما بمزاولة الحياة صابرا على المكاره محتسبا في إصرار على الإلتزام بالحق والعدل والمساواة والفضيلة والعفة حتى يحضره الموت مؤمنا تقيا ورعا طائعا لله.أو يكون من الذين يصطفيهم الله للشهادة في سبيله.فالحياة في المرجعية الإسلامية حياتان ينتهيان بالإنسان إلى حياتين:
- حياة إيمان وصدق وإخلاص لله وتقوى وجهاد ومجاهدة تنتهي به إلى حياة الخلود في الجنة يقول تعالى: "تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا"(1) وهو القائل أيضا:" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساد والعاقبة للمتقين"(2)
- وحياة كفر وفسوق وضلال ورذيلة وفساد ومهادنة وخنوع واستسلام، تنتهي به إلى حياة الخلود في الجحيم أو المكث فيها إلى ما شاء الله وفي العذاب الدائم حيث لا يموت ولا يحيا.
إن الذي لاشك فيه أن الأمر متعلق بالصراع بين ثقافتين مختلفتين ومتباينتين. وبين حضارتين واحدة مندحرة خاسرة آفلة، وأخرى منتصرة قائمة ظاهرة، وفي الوقت الذي توفر فيه للإنسان الكثير من أسباب الحياة الكريمة، وتذلل أمامه الكثير من الصعوبات التى لم يسبق لحضارة من قبل أن ذللتها له، وحققت له من المكاسب ما لم يسبق لحضارة من قبل أن حققتها له مع اختلاف الزمان والمكان وأوجه الحياة والكون والتطور والنضج الإنساني . إلا أنها بالمقابل- قد أوجدت كل أسباب ووسائل الدمار للإنسان والحيوان والنبات والجماد. فبقدر ما طورت حياة الإنسان وحسنتها، بقدر ما وفرت لها كل أسباب الدمار وأفسدتها.
ب- عودة الإستعمار المباشر لتثبيت خياره الثقافي والحضاري:
ليست الحملة العسكرية التى تقودها الإمبراطورية الأمريكية في العالم اليوم – وباستهداف خاص للعرب والمسلمين إلا كسابقاتها من الحملات العسكرية التى قادها الغرب الصليبي ضد الشعوب المستضعفة شرقا وغربا لكسب المزيد من القوة والتفوق والنفوذ باضعاف الآخر في الثقافة والحضارة والعرق واللون. وفرض الخيار الثقافي والحضاري الغربي الصليبي العنصري على أصحاب الثقافات والحضارات الأخرى .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.