وزارة التجهيز: تسمية عدد من المسؤولين الراجعين لها بالنظر اعضاء بالمجالس الجهوية    قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 8640 فلسطينيا بالضفة الغربية منذ 7 أكتوبر الماضي..    رسميا: الأولمبي التونسي "أيوب الحفناوي" يغيب عن منافسات أولمبياد "باريس 2024"    سيارة تاكسي تقوم ب"براكاجات" للمواطنين..ما القصة..؟!    سياحة : نحو 30 بالمائة من النزل التونسية مازالت مُغلقة    كأس تونس: قائمة لاعبي الترجي الرياضي المدعوين لمواجهة نادي محيط قرقنة    البطولة العربية لالعاب القوى للشباب : التونسي ريان الشارني يتوج بذهبية سباق 10 الاف متر مشي    بطولة مصر : الأهلي يفوز على الاتحاد السكندري 41    جرحى في حادث اصطدام بين سيارتين بهذه الجهة..    قبلي: شاب يقدم على الانتحار شنقا    القصرين إيقاف شخص يأوي المهاجرين    تواصل حملة تنظيف وصيانة حديقة ''البلفيدير''    وزيرة الإقتصاد فريال الورغي في مهمة ترويجية    بأسعار تفاضلية: معرض للمواد الغذائية بالعاصمة    اتحاد الفلاحة: ''علّوش'' العيد تجاوز المليون منذ سنوات    قبل لقاء الأهلي والترجي: السلطات المصرية تعلن الترفيع في عدد الجماهير    المهاجم أيمن الصفاقسي يرفع عداده في الدوري الكويتي    حوادث : مقتل 12 شخصا وإصابة 445 آخرين خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 8 ماي 2024    الاقتصاد في العالم    عاجل : دولة عربية تلاحق عصابة ''تيكتوكرز'' تغتصب الأطفال بالخارج    عاجل/ فضيحة تطيح بمسؤولة بأحد البرامج في قناة الحوار التونسي..    تراجع عدد أضاحي العيد ب13 بالمئة مقارنة بالسنة الماضية    يصعب إيقافها.. سلالة جديدة من كورونا تثير القلق    أخبار المال والأعمال    مدعوما بتحسن الإيرادات الخارجية: ميزان المدفوعات يستعيد توازنه    المتبسطة القيروان مشروع للطاقة الشمسية الفولطاضوئية بقدرة 100 ميغاواط    إلى حدود 6 ماي تصدير 8500 طن من القوارص منها 7700 طن نحو فرنسا    هزة أرضية بقوة 4.7 درجات تضرب هذه المنطقة..    "دور المسرح في مواجهة العنف" ضمن حوارات ثقافية يوم السبت 11 ماي    هذا فحوى لقاء رئيس الحكومة بمحافظ البنك المركزي التونسي..    اليوم: انطلاق اختبارات البكالوريا البيضاء    ومن الحب ما قتل.. شاب ينهي حياة خطيبته ويلقي بنفسه من الدور الخامس    رابطة أبطال أوروبا: بوروسيا دورتموند يتأهل للنهائي على حساب باريس سان جيرمان    جيش الاحتلال يشن غارات على أهداف لحزب الله في 6 مناطق جنوب لبنان    اعتبارًا من هذا التاريخ: تطبيق عقوبة مخالفة تعليمات الحج من دون تصريح    اليوم : بطاحات جربة تعود إلى نشاطها    لأجل غير مسمى.. إرجاء محاكمة ترامب بقضية "الوثائق السرية"    محرز الغنوشي: رجعت الشتوية..    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    الجزائري مصطفى غربال حكما لمباراة الترجي الرياضي والاهلي المصري    فرقة "مالوف تونس في باريس" تقدم سهرة موسيقية مساء يوم 11 ماي في "سان جرمان"    وزير السياحة: اهتمام حكومي لدفع الاستثمار في قطاع الصناعات التقليدية وتذليل كل الصعوبات التي يواجهها العاملون به    أمطار أحيانا غزيرة بالمناطق الغربية وتصل الى 60 مم خاصة بالكاف وسليانة والقصرين بداية من بعد ظهر الثلاثاء    البنك المركزي: ارتفاع عائدات السياحة بنسبة 8 بالمائة موفى شهر افريل 2024    مصر: تعرض رجال أعمال كندي لإطلاق نار في الإسكندرية    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    من الحمام: غادة عبد الرازق تثير الجدل بجلسة تصوير جديدة    نحو صياغة كراس شروط لتنظيم العربات المتنقلة للأكلات الجاهزة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    أولا وأخيرا .. دود الأرض    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«من وحي تاريخ الحركة العمالية الجزء الثاني والاخير
بقلم : مصطفى الفيلالي
نشر في الشعب يوم 10 - 02 - 2007

يشيع في نظرية الليبرالية الإقتصادية القول بوجوب إمساك الدولة عن التدخل في المعاملات الاقتصادية فترفع يدها وتترك المبادرة للرأسمال الخاصّ، يستثمر وينتج ويبيع. وتقوم هذه النظرية على إيمان اصحاب المذهب بأنّ الفرد أدرى بمصلحته من المجموعة واشدّ حرصا على تحقيقها، يبذل ما في وسعه من الجهد والابتكار وأنّ تحقيق الفرد لهذه المصلحة الشخصية خير ضمان لتحقيق مصلحة المجموعة ولا حاجة للتذكير هنا بالجذور النصرانية الموسوية للقول بأولوية الفرد على الجماعة، وأن التوسع في الرزق والاكثار من تكديس المال من ايات رضوان الله على عبده واعتمادا على هذه النظرية اعتاد صندوق النقد الدولي بإصدار خطّة للتعديل الهيكلي، يوصي فيها الدولة بأن تتخذ الاجراءات التالية:
* تقليص نصيب القطاع العام لفائدة الاستثمارات الخاصة، والتفويت في المؤسسات العامة لرأس المال الخاصّ، أيّا كان مأتاه.
* تقليص نصيب الانفاق الاجتماعي، من صحة وتعليم وسكن ودعم للأثمان، لفائدة إنتاج السلع كسبا لنموّ الناتج الداخلي الاجمالي.
* توجيه الانتاج الى الاسواق الخارجية وسلوك سياسة تصديرية، بغية الحصول على أوفر نصيب من العملات الصعبة لمجابهة الدين العمومي.
* تحرير التجارة الخارجية من القيود القمرقية والتشريعية ،وأمثالها، كقيود المواصفات ومنشأ رأس المال وترك المنافسة تتحكّم في رواج السلع على أساس الجودة والاثمان.
* الحطّ من قيمة العملة الوطنية طلبا للتقليل من حجم الواردات والتخفيض في كلفة الانتاج لتشجيع الصادرات.
* احترام الحريات الكبرى الفردية: حرية الملكية وحرية المبادرة وحرية المنافسة وحرية التجارة لتحقيق البيئة المواتية للاستثمار الخاصّ.
ليس هذا محلا للجدل في سلامة هذه الاجراءات ولا تجدي المناقشة المذهبية لنظرية إقتصاد السوق في باب وظائف الدولة. فقد اصبح الايمان ضعيفا بجدوى هذه الخطط التصحيحية في اوساط المنظرين الاقتصاديين، ودلّت التجربة في العديد من البلاد الناشئة ان تلك الاجراءات كانت سببا في تفاقم الازمات وتولد بعضها من بعض بدلا من معالجتها برمتها وانها ادت الى اتسع حجم البطالة والى كساد المؤسسات المتوسطة وعجزها عن المنافسة، والى تناقص الاستهلاك الداخلي وارتفاع اسعار المعيشة مع انكماش القدرة الشرائية.
وأسفرت عن تعميق الشروخ بين فئات المجتمع وتهديد الاستقرار والامن كما دلت الاحداث الاخيرة في دول اسيا الشرقية ان خبراء صندوق النقد الدولي لم يتوقعوا حدوث مثل ذلك الزلزال المالي بتلك الدول التي كانت تعرف باسم التنينات الكبرى ويضرب بها المثل في سلامة التوجه الليبرالي الجديد وفي جدوى وصفة الصندوق الدولي.
إنّما يهم الحركة العمالية من قضية الدولة امران اثنان، يتعلق الاول بالظروف التاريخية التي دعت الى اضطلاع الدولة بما اضطلعت به من الوظائف الاقتصادية ويتعلق الثاني بما يجب ان يبقى حتما بأيدي الدولة من هذه الصلاحيات للحفاظ على الكيان الوطني، ولصون المجتمع المدني بجميع فئاته، ولتوفير الاسباب الكفيلة بمواصلة مجهود التنمية، ورعاية كرامة الانسان.
أ ظروف إضطلاع الدولة بالمسؤولية الاقتصادية
يجب التذكير بأن الاستقلال السياسي عام 1956 قد تزامن مع أزمة اقتصادية متعدّدة الجوانب، تمثلت في ثقل البطالة وانعدام المؤسسات الصناعية لانشاء مواطن شغل، وفي توقف الانتاج ببعض الوحدات القائمة مثل الاحواض البحرية بمنزل بورقيبة وبقطاع المناجم ومزارع المعمرين كما تمثلت في تواصل الجفاف وانتشار المجاعة واستفحال ظاهرة النزوح الى الحواضر ومناطق الساحل وازدادت الازمة شدّة بسبب تهريب الاجانب لمبالغ كبيرة من الارصدة المالية، ممّا بات ينذر بازمة دفوعات خانقة، زيادة الى قرار التخفيض في قيمة العملة من جانب السلط المالية الفرنسية فكان هذا التخفيض «السياسي» وذلك النزيف المالي من أكبر العوامل الحافزة على الانسلاخ من منطقة الفرنك واحداث بنك مركزي تونسي تولى اصدار نقود الدينار، كان اضطلاع الدولة بالوظائف الاقتصادية عملية اضطرارية راجعة الى اسباب عديدة نخصّ بالذكر منها:
* إقتصار المؤسسات الوطنية للانتاج والتسويق على انتاج وتسويق الخيرات الضرورية لحفظ السوق الداخلية من المضاربين على المحاصيل الضرورية من حبوب وزيوت ولحوم، وتعريض الاستهلاك الى افتقادها والى ارتفاع اثمانها وقد دعا ذلك الى ان تتحمّل الدولة مسؤولية الدواوين الوطنية القائمة على هذه المحاصيل وانشاء ما لم يكن موجودا.
* عجز القطاع الخاص، ان لم نقل عدم وجوده، للاضطلاع بوظائف الانتاج وبعث المؤسسات وتمويل الاستثمارات، في قطاعات جديدة كالسياحة، وضعف كفاءة التمويل الذاتي، وعدم وجود طبقة من المقاولين المغامرين، مع ما كانت عليه السوق الداخلية من حجم قليل ومن مقدرة شرائية ضعيفة.
* الإستجابة السريعة لمتطلبات المجتمع الذي كان ينتظر من الدولة الجديدة ان تبادر بحل مشاكله وباشباع حاجياته من الشغل والتعليم والعلاج والسكن وان تبرّ بما قطعته من وعود زمن الكفاح التحريري في الوفاء بجميع هاته الحاجيات من منطلق السيادة.
كانت مثل هذه المقتضيات ضاغطة على الدولة ولم يكن في الساحة يومئذ من طرف بديل عن الدولة لحمل أثقالها فكان لا بد من ان تكون الدولة منتجا للخيرات الضرورية، مؤسسا للمشاريع القادرة على توفير اكبر قدر ممكن من فرص الشغل مسؤولة عن المزارع الكبرى من أطيان المعمرين بعد ان اخلاها اصحابها بمشايتها واجهزتها وعمالها. ولم تكن السلط العامة تجهل انها تثقل كاهل هذه المشاريع العامة بعدد من العاملين يزيد كثيرا على حاجيات الانتاج. وتعتبر ان ذلك حلّ وقتي ومرحلة انتقالية الى حين تقوم مؤسسات جديدة تعدل من موازين التشغيل، ويجوز القول هاهنا ان القطاع العام انما كان قيامه في السنوات الاولى من الاستقلال لفراغ الساحة الاقتصادية من المبادرات الفردية وكلما ظهر في السوق مقاولون مستعدون للمبادرة تخلت الدولة تدريجيا لفائدتهم مثلما حصل ذلك في قطاع السياحة او التجارة الخارجية فلم يكن اضطلاع الدولة بصلاحيات الاقتصاد نتيجة لاختيار مذهبي من جنس اشتراكي، رغم وجود من كان يمثل هذه النزعة بين اعضاء مجلس النواب ووزراء الحكومة وعلى رأس المنظمات الشعبية الكبرى كالاتحاد العام التونسي للشغل.
إذا كانت الاستعاضة عن القطاع العام بالمنشئات الخاصة تعزى الى ما آل إليه التصرف في هذا القطاع من خسارة يتكفل ميزان الدولة بجبرها، فلا ينبغي مع ذلك اطلاق القول بان تصريف شؤون الإقتصاد من جانب الدولة يفضي دائما الى الخسارة ذلك ان الجدوى او الخسارة لا تتعلقان بالصفة القانونية للمؤسسة: أهي عامة ام خاصة بقدر ما تتعلقان بنوعية التصرف المنوط بصفات بشرية فنية ومهنية واخلاقية سلوكية قد تتوفر في المسيرين وقد لا تتوفر.
ثم ان خسارة بعض مؤسسات القطاع من وظائف «سياسية» كتشغيل أعداد من القوى العاملة فوق احتياجاتها الفنية، او كفرض لاسعار بعض المنتوجات او الخدمات حسب مقاييس من جنس غير اقتصادي كتنفيل جهة فقيرة ذات انتاج واحد كالحلفاء، او اسعاف شركة وطنية بمداخيل إضافية لاعانتها على النهوض. يترتب عن ذلك ان النظر الى تصريف شؤون المؤسسة في البلاد الناشئة اذا كان مقصورا على الحصيلة المالية لموازينها السنوية، يفضي الى تسطيح مضلّل والى احكام تقريبية غالطة، تعطي الجدوى المالية اهمية طاغية فوق الجوانب الاخرى اذ ان التصرف في هذه المؤسسات كان في معظم الظروف الخاصة يستجيب لمقتضيات شتى اقتصادية واجتماعية وسياسية قد تكون هذه مقدمة على تلك في الاولوية عند اصحاب القرار.
لا يخفى انّ التصرف في المؤسسة قد غدا في هذا القرن بابا عريضا من ابواب المعرفة وقضية متشعبة من قضايا الاقتصاد الكلي، يخطئ من يراقبها من ثقب ضيّق او من زاوية واحدة هي زاوية الجدوى المالية، فيحكم عليها بالنجاح او الفشل من مؤشر الجدوى المالية، دون ان يأخذ في الحساب ظروف البيئة الاجتماعية والسياسية التي تحيط بالمؤسسة وتترابط معها بشتى أنواع الالتزام والتعاون. ولعلّه من نتائج الفكر الاحادي في اقتصاد السوق او تبسّط امور المؤسسة تبسيطا خلاعا مضلّلا ، يفضي الى اصدار وصفة علاجية واحدة يرام إنطباقها على مجتمعات مختلفة وملاءمتها لخصوصيات ثقافية وإجتماعية متنوّعة. وقد أخذت القيادات العمالية في العالم تزداد ادراكا لهذه المجازفات من جانب المؤسسات المالية العالمية، وتحتاط ما قد انجرّ عنها اليوم، وينجرّ عنها غدا من سلبيات على الحقوق الاساسية للشعوب في العمل القارّ المجدي وفي الدخل المربح الكافي، وفي الأمن على ضروريات الحياة للجيل الحاضر وللأجيال القادمة، وما يترتب عن مواصلة هذه الارتجالات من إختلال في التوازنات الاجتماعية وفي صون الانسجام الاجتماعي وحفظ التماسك والتعاون بين طبقات المجتمع، وما ينجرّ للفكر الانساني من تعتيم وتبسيط قسري.
* الحفاظ على مكانة الدولة
إنّ الأصوات المتعالية بالدعوى الى تقليص دور الدولة وزلزلة مكانتها، إنّما تصدر عن اهل الثروات المكدسة وعن اصحاب الشركات الرأسمالية التي لا جنسية لها، وعن القوى المالية التي تتسابق الى الربح البارد في اسواق الصرف وبورصات المضاربات المالية هؤلاء يفهمون الحرية على انها حريتهم دون سائرالفئات الاجتماعية، حرية تكديس الارباح واشاعة البطالة، وحرية المضاربة على المال دون انتاج للخيرات والسلع. يمثلون نفرا معدودا تساوي ثرواتهم مجموعة الدخل الاجمالي لثلاث مليارات من خلق الله من الدول الناشئة. ليست الحركات العمالية معادية للربح، مستنكرة للسعي الى تحقيقه من جانب كل ذي مال وجهد انما الذي تأباه وتستنكره أن يكون الربح متأتيا من التداول المالي بلا زيادة في الخبرات ولا توسيع الإقتصاد للقدرة على استيعاب القوى العاملة. ومعلوم ان ما يحصل يوميا في البورصات العالمية من مضاربات مالية يصل الى ألف وخمسمائة مليار دولار، وهو مبلغ يفوق الرصيد الاحتياطي لمعظم البنوك المركزية في العالم ويمثل ثلاثة أمثال الاموال المستثمرة في انتاج الخيرات وتشغيل العاطلين. هو ربح بلا انتاج، وتجارة بلا سلع، ومال بلا عمل وغنم بلا مقابل، في ايدي سلطان بلا وطن وقلة بلا قوم ولا انتساب. هو الربح الحرام في شرائع الله واخلاق العباد لانه اقتصاد رمزي وتزييف للاقتصاد الحقيقي واحتكار للارزاق قد تصل فائدته في ايام قليلة الى 50 او أكثر، في حين لا تبلغ اكثر من 10 الفائدة السنوية للاستثمار في الانتاج.
شاركت الحركات العمالية في الدول الناشئة، الى جانب قوى التحرير والاصلاح في بعث الدولة وترميم هياكلها وتأصيل جذورها كي تبقى هيكلا متين البنية متطور التنظيم يتمتع بصلاحيات واسعة ونفوذ حقيقي ليكون قائما بذاته فوق الافراد والمصالح والاهواء، يجسد الحرية ويضمن ممارستها ويبني العدل ويشيع انطباقه. ويحمي الحقوق ويبصر بمضمونها ويقيم التوزن بينها وبين الواجبات، ويسهر على توفر الامن للحوزة الوطنية والاطمئنان لعامة ساكنيها، وييسّر للناس اسباب الكسب الحلال والسعي الى الرخاء هي دولة شبيهة بقرية القرآن الكريم (آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان).
ليس في الدول الناشئة حركة عمالية واحدة تقبل ان تصبح الدولة هيكلا هزيلا وشبحا منزوعا من النفوذ، مهمش الدور في الحياة العامة يقوم كالدركي على حراسة المترفين اصحاب الثراء الفاحش ويتولى تزكية مبادراتهم المهددة للاستقرارالمخرّبة للتوازن الواجب بين المال والعمل، المسؤولة عن تعتيم افاق المستقبل الجاحدة لاولوية منزلة الانسان. ان ما يقدمه هؤلاء المترفون ليس حقيقا بإسم دولة انما هي شركة حراسة تقوم على عتبات المصالح الخاصة تحميها من الهزات الاجتماعية وتمنحها الشرعية القانونية ولولا الدولة لما حققت الحركات العمالية مكاسبها في الحوار غير المتكافئ بينها وبين رأس المال وبتحييد الدولة تصبح هذه المكاسب عرضة للضياع امام التيار العشوائي لاقتصاد السوق، المكتسح للحقوق المسطح للقيم المنذر بنصب عقيدة الربح فوق سائر العقائد، العامل على تقزيم الانسان وتجفيف منابع الخير والرخاء في نفسه.
الدولة، بوصفها كيانا اخلاقيا عقلانيا او تعاقدا اجتماعيا رضائيا هي ملك مشاع بين جميع فئات المجتمع بالمجتمعات الناشئة فلا تكون حكرا على فئة دون اخرى ولا منحازة لفريق دون فريق ولا لجهة من جهات الوطن دون سائر الجهات لان ذلك من ايات الظلم ولا استقرار مع حيف وانحياز وقد تؤتى الدولة في نفوذها وهيبتها من ذات نفسها وداخل شؤونها وانحراف القائمين عليها وتقلص الوازع الاخلاقي في سلوكهم العام وقد تؤتى من جانب خارجي في نفوذ اجنبي ينتقص من نفوذها او في ضغوط دولية تصرفها عن بعض واجباتها وتحد من صلاحياتها التشريعية ومن حريتها في الاختيار والمبادرة وقد غدت الدولة في البلاد الناشئة في العقود القليلة الماضية غرضا الى تأثير هذه العوامل الخارجية الجارفة المكبلة ، واصبحت ممارسة السيادة الوطنية محدودة ملجمة بفعل ما يعرف اليوم بحقّ التدخل الذي اكتسب شرعية قانونية منافسة لشرعية حرمة السيادة الوطنية.
اضطلعت الدولة بانشاء التوازن الاجتماعي عن طريق التعايش باقل ما يمكن من كلفة بين ثالوث: المال والعمل والسلطان وكان لها دائما دور الوسيط بين العمل والمال وينبغي ان يكون وسيطا منصفا دائما كيلا يؤول الحوار بينها الى التصادم ولا يفضي التصادم الى هدر مصلحة المجتمع بأسره، وبالتالي الى ضياع سيطرة الدولة، لذلك كانت الدولة، في اضطلاعها بدور التحكم ترفع دائما شعار الوحدة الوطنية، وتجعلها درعا ضدّ تصدّع البناء الإجتماعي الهشّ من جراء تضارب المصالح، خطر العولمة على المجتمعات الناشئة انها تفسد التوازن بين اعضاء ذلك الثالوث، وتضطر الدولة الى الحياد، بما يعنيه الحياد من انكشاف مواقع العمل وتمتين القوة لصالح المال فتصبح الدولة كيانا «رخوا» عاجزا عن حماية المجتمع من التصدع وعن تحصين التوازن من الاختلال. تعلم القيادات العمالية بالبلاد الناشئة ان الدولة هي سندها الوحيد في الحوار غير المتكافئ مع المال وان هذا السند لا يكون عونا ناصرا وحليفا فعالا الا اذا بقي قادرا على الاضطلاع بصلاحيات الكفالة الاجتماعية الضامنة لاشاعة العدل وإقامة النظام وتوفير الامن وحفظ الحقوق ورعاية الحريات وان تظل هذه الصلاحيات مكفولة للجميع دون تمييز ولا حيف.
إنّ القوى العاملة أشدّ فئات المجتمع إحتياجا لهذه الكفالة بجميع مقوماتها، وهي بذلك اكثر من سائر الفئات مسؤولية لشد أزر الدولة وتعزيز مكانتها، وللذود عن الحيز الاساسي من وظائفها ويجب ان تكون احرص من غيرها على الطابع الشمولي لهذه الوظائف، دون حصرها في ضمان الجدوى المالية للاستثمارات، ولا في التبرّج للمستثمرين بشتى أنواع الاعفاءات والامتيازات، مثلما تلتزم به بعض الدول فان الشعوب كما قال بعضهم لا تعيش بالناتج الاجمالي وحده ولا يسعد المواطن بنسبة النموّ الحسابي لهذا الناتج.
تعصف بالبلاد الناشئة في العقود الاخيرة من هذا القرن عواصف العولمة وايا كان مفهومنا لهذه الظاهرة الكونية، المسطحة للخصوصيات الوطنية، العاملة على تغليب فكر احادي أوحد، يحكم نشاط المجتمع في مختلف ميادين الحياة، بما فيها الثقافية، فالذي لا بدّ ان ينجو من عواصف التسطيح هو مفهومنا للإنسان.، على أن لا تنكمش ذاته الخصبة في الحيوان الاقتصادي، ينتج السلع ويتكالب على إقتنائها، حتى ليوشك ان يصبح الكلف بالاستهلاك ملخّص سعيه في الحياة، إن المجتمع البشري في بلا دنا الناشئة أزكى منبتا وأوسع آمالا وأشرف تطلعا من أن ينقلب الى سوق كبيرة (سوبرماركات) تتلخص العلاقات بين افراده في ضوابط السوق، وقوانين الاحتياج المتبادل.
ان منطق السوق يتوجه بالمجتمع البشري الى العيش تحت نظام عالمي جديد يكون المال فيه دولة بلا قوم، وسلطانا بلا وطن ولا حدود، ونفوذا بلا رادع وينكشف فيه المجتمع فيصبح يتيما بلا كفالة، وتتعرّى من سطوتها الدولة، فتغدو قلعة خاوية بلا حامية، ذلك هو التخلف بعينه، خراب للحضارة ونهاية للتاريخ بحق ولا نجاة من هذه الجاهلية الجديدة، ولا عودة للمجتمع الى سبل الرشد الا بالتحالف المتين بن قوى التبصر والاصلاح جبهة واحدة قصد إعادة تأسيس العقد الاجتماعي بين شرائح المجتمع وبينها وبين الدولة على اساس معقولية جديدة للنشاط الاقتصادي، يعود المال بموجبها الى منزلة الوسيلة منبين وسائل التعامل بين الناس ويتجدد بناء التوازن بين فئات المجتمع، في ظل دولة عادلة موفورة الصلاحيات، تسخر جهدها لحفظ التضامن المجتمعي السوي والتعاون البصير من غوايات المال وانحرافات العولمة وللابقاء على أولوية الانسان.
وسيبقى الانسان رغم كل عوامل التقزيم والتحنيط مخلوقا مستخلفا في الارض يستفهم الغيب ويسائل الممكن، ويحتفل للحياة ويخاف الموت، يجود بالنفس ويتطوّع للخير، وينشد لوجوده معنى ولسعيه دلالة وانه لمن اشرف مسؤوليات الدولة، في عصر بات عرضة لضيق الافق ولسطوة العبث ان تشبع في الانسان عطشه الى مستقبل رحب، وأن تزوّده بمنظومة من القيم تعطي لوجوده معنى ولحياته دلالة تلك هي بعض من عناوين الرسالة يجب ان تبقى مضمونة للدولة، ومن ميادين الوظائف المخصوصة بها دون غيرها ويكون للحركة العمالية شرف النضال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.