عندما كنّا صغارًا كانت رؤانا للعالم تمرّ دائما عبر شاشة من الرّموز والتمائم والتمثيلات الموغلة في التخييل تبدع أمّهاتنا في نسجها من خيال بسيط حالم ولكنّه خلّب موغل في الاستعارات الجميلة. كان العالم هو أمّهاتنا، وكانت أمّهاتنا هي العالم وزوايا النظر التي نرصد من خلالها الدلالات التي تكتنز بها الأشياء والموجودات والأفعال والأقوال والصور الباهتة والفاقعة. ببساطة كان كلّ فعل أو حركة وأي حدث أو طارئ يستفزنا، يضحكنا أو يبكينا يستوجب تفسيرًا أو اشارة أو همهمة من أمّهاتنا، كأن نعطس مثلا أو نتثاءب أو نسعل فذلك يستحق جوابا يشفي رغبتنا الجامحة في معرفة العلّة والسبب. لنأخذ العطس مثلا: هذه الحركة البيولوجيّة التي تنمّ عن خلل طارئ في الجهاز التنفسي، كالتعرّض إلى نسمات باردة أو لغبار ماكر أو لرائحة لا تستسيغها خياشيمنا، تتطلّب من الأمّ أو ممّن يلعب دورها أن ينطق بتلك العبارة التي تقنعنا بأن الحدَث عارض واستثنائي وسيمرّ دون التأثير في توازننا الداخلي. »طار الشرّ خشّ البحر«. حكومتنا المصونة التي نالت شرف تعهّد ورعاية الثّورة والاشراف على تلقين شبابها التربية الديمقراطيّة على أصولها والانتقال إلى دولة القانون والمؤسسات كأحسن ما يكون الانتقال والعبور من عهد المواطنين الرعايا إلى عصر المواطنين الأحرار. نسيت في غمرة عنايتها الموصولة من لدن رئيسها المؤقت ووزيرها الأوّل الموقّر الذي تبدو على سماته هيبة الدولة بارزة للعيان. انّنا لم نعد صغارًا بما يكفي لنقتنع أنّ سعالنا وعطاسنا وتثاؤبنا الذي يصل حدّ التقيّؤ والغثيان يمكن أن يقبل بمجرّد أن تهمس تلفزتنا الوطنيّة بتلك العبارة »طار الشرّ وخش البحر وسافر للسعوديّة وغبر«. فبن علي لم يكن الشرّ الذي طار عشيّة 14 جانفي وعبر البحر حارقًا إلى المملكة السعودية ليضع نفسه على ذمّة الأرواح الخيّرة في أرض التنزيل والقداسة، وليمضي العمر مستغفرًا توّابا يسأل الله حسن المآل بعد أن عرف سوء المعاد، بل الشرّ فيما نسجت يداه وعقول مستشاريه وأفواه سدنته الأوفياء الذين غيّروا وجوههم وألسنتهم قبل حتى أن تحطّ طائرة في الجزيرة العربيّة، الشرّ فيمن تواطؤوا بالتّبرير والتنظير والتزوير وبالصّمت أيضا، وزيّنوا له ما اقترفت يداه وأيدي بطانته، »فغلّطوه« كما نطق كاذبًا، وحجبوا عنه الحقيقة التي يعرفها ويفهمها ولكنّه تجاهلها. لقد قالها »فهمتكم« وهو يغادر فردّ الشعب من الغدّ »مافهمتناش«، لكن حكومتنا المؤقتة قالتها وهي بعد في أوّل الطريق، ولن يتأخّر ردّ الشعب عليها »أنتم لم تفهموا شيئا«. لم يكن ينقصنا لتكتمل قناعتنا بانتصار الخير على الشرّ وعودة السلام إلى أرضنا الاّ أن يختم مقدّم البرنامج كلامه بتلك اللازمة المأثورة التي حفظناها من قصص الأطفال العالميّة التي تقدم لنا في أفلام الكرتون »وعمّ السلام والوئام أرجاء البلاد«.