ثار الشعب االتونسي بفئاته المفقرة وضعيفة الحال وبشبابه المعطّل الذي دمّرته سنوات البطالة والتّهميش وبشبابه الطلاّبي المندفع والتوّاق إلى الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعية، ممّا أنتج حالة من الانتفاض والانفجار الجماعي تجسّدت في المواجهات الدّامية مع قوات القمع والقهر التي حمى بها الدكتاتور نفسه وسيّج بها ديكتاتوريته وجرائمه، ولم تُجْدِ نفْعًا حالة القمع الوحشي من تعذيب واعتقالات وتقتيل ولم يُجْدِ الرصاص الحي أيضا في ايقاف حالة الهياج الجماهيري التي دمّرت وأحرقت كلّ المقرّات التي ترمز إلى سلطة الديكتاتور وفي النهاية هرب الديكتاتور. قبل 14 جانفي يمكن القول إنّ الشعب الأعزل كان في مواجهة باسلة ضدّ الديكتاتورية البوليسيّة، كان الشعب المفقّر في الصورة تمامًا. بعدها تغيّر المشهد وبرزت وجوه غريبة تتكلّم عن الثّورة المجيدة، تثرثر كثيرًا، تشنّف آذاننا بالموعظات والحكم تحلّل وتكفّر. تنصّب هذا وتزيح ذاك باسم الثّورة، باسم الشعب وباسم اللّه لا ندري أين كانوا قبل 14 جانفي في أيّ الرمال أخفوا رؤوسهم أيّام الجمر وسنوات القمع. هؤلاء من حقّنا أن نسألهم: من أنتم؟ بعض الوجوه الأخرى نعرفها جيّدا من مثقفي المنابر الذين كانوا يكيلون المدائح »لصانع التغيير« ولفكره »النيّر«، هؤلاء تحوّلت أقلامهم بقدرة قادر من بنفسج السلطة إلى حمرة دماء الشّهداء تحوّلوا في يوم واحد إلى مثقفين ثوريين، ينظرون ويحلّلون طبيعة الثّورة وقيمها ومبادئها مثلما كانوا يحلّلون خطاب الديكتاتور ويمجّدونه، هؤلاء من حقّنا أن نكنسهم أن نقول لهم: Dégage، هؤلاءلم يقرؤوا كتاب »كلاب الحراسة« للفيلسوف الفرنسي »بول نيزان«، لأنّهم لو فعلوا، لرحلوا حفظا لماء الوجه، فهذا الكتاب يوقف مثقفي البلاط وحربائيتهم وتزلّفهم. من حقّنا أن نطالبهم بالرّحيل ليس بمنطق التشفّي ولا الانتقام وإنّما لأنّهم مفرغون ليس لديهم ما يضيفون إلى المشهد اليوم. نفسها الجمل الفارغة والكلمات المعلّبة والشعارات الرّنانة، نفسها الثرثرة. ليس في جرابهم ما يفيد هذا الوطن وهذا الشعب الأبي فلماذا لا يحملون أشياءهم ويرحلوا دون رجعة، فلن تجدي محاولات »تبييض« وجوهم بماء الثّورة. إنّهم شركاء في الجريمة سواء بأقلامهم التي ناشدت ونافقت أو حتى أصحاب الأقلام الحيادية التي صمتت حين »لم يكن الصّمت ممكنًا«. من يتذكّر مشهد تلك الأمّ من مدينة الڤصرين التي استشهد ابنها في الأيّام الأولى من الاحتجاجات وهي تظهر في مقطع فيديو تداولته شبكة الفايسبوك، وهي تقول: »استشهد لي ابن ولي أربعة آخرون سأرسلهم إلى الشارع فإمّا أن يستشهدوا جميعًا وإمّا أن ينالوا من بن علي« من يتذكّر ذلك المشهد من مثقفينا الأفذاذ وسياسيينا الليبراليين عليه أن يخجل من نفسه، إنّه درس قاسٍ على هؤلاء اليوم الذين يظهرون في الشاشات ويتحدّثون بإسم الثّورة يحاورهم مذيع مهنته الأصلية »بوليس سياسي«، يتحدّثون بإسم الشعب وهم يبيعونه إلى أعداء الثّورة، يتحدّثون بإسم الشهداء وهم يسمسرون بدمائهم يتحدّثون بإسم الوطن وهم يرهنونه في الصناديق الدولية. الثّورة بمعناها الأصيل هي قطيعة تامة ونهائية مع الماضي، والمشهد السياسي الثّوري يجب أن يكون مشهدًا ممثّلا للفئات الثّائرة، لكن ما نراه اليوم لا علاقة له بما حدث قبل 14 جانفي ومن يتكلّم الآن ليس هو من تكلّم قبل 14 جانفي. فمن أين جاءتهم الشرعيّة التي يتحدّثون باسمها، ان لم تكن شرعيّة الماضي شرعية الديكتاتورية، إنّهم بقاياها، فليس من مصلحة المبزع وجماعته ولا السبسي وجماعته تثوير المنظومة السائدة منذ سنوات حتى المنظومة الثقافية نفسها، فهذا ما يضمن لهم المصالح الاقتصادية المتبادلة، فما يحدث هو توافق بين البورڤيبيين والتجمعيين باعتبارهم الفئات الاقتصادية المهيمنة أي البورجوازية العميلة بتعبيراتها السياسية المختلفة من مصلحتها اليوم التوافق من أجل الحفاظ على الهيمنة أي على وأد الثّورة، وهذا ما يفسّر أنّ الوجوه المسيّرة لدواليب السلطة هي وجوه متعالية وحيادية في الظاهر تكنوقراطية وكأنّ همّها الوحيد خدمة »الوطن« و»إنقاذ البلاد« وضمان »عودة الاقتصاد«، ويبدو هؤلاء في مصطلحاتهم محايدين جدّا، لكن لماذا يجدون صعوبة في التلفّظ بمصطلحات أخرى مثل »مصلحة الشعب«، »العدالة الاجتماعية«، »الفقر«، »البطالة«، »الجوع«، »الهجرة السرية«، بالنسبة إليهم هذه مصطلحات شعبوية محرجة ومزعجة، تماما مثل »كلمة الشهداء« و»محاكمة القتلة« هم يحبذون استعمال كلمات أخرى رنّانة مثل »المصالحة«، »لا للإقصاء«، »الديمقراطية« ، »الحوار« وكلّ المصطلحات الضبابية التي تسمح لرموز النظام السابق بالتسرّب إلى المشهد السياسي من جديد. من الملاحظ أنّ ثورة 14 جانفي لم تسقط سوى الرؤوس، فكل الوزارات في تونس ظلّت كما هي ولم يتغيّر منها سوى الأسماء. فالسؤال الملحّ لماذا لم يطهّر الوزراء أروقة وزاراتهم؟ والاحتمال الأقرب إلى الإجابة هي انتماؤهم إلى نفس المنظومة وهم خدمُها في الكواليس. لهذا سرعان ما تناسى المسؤولون القضايا الحقيقيّة التي فجّرت انتفاضة 14 جانفي، سرعان ما تجاهلوا متطلّبات الشارع لأنّهم وُضعُوا لأجل مهام أخرى، هي إنقاذ المصالح البورجوازيّة والمصالح الأجنبيّة التي باتت مهدّدة عشيّة الانتفاضة، لهذا نجدهم يتباكون لأجل عودة الدورة الاقتصادية فهذه هي المهام العاجلة التي انتدبوا لأجلها، وبطبيعة الحال سيفلت أكثر رموز الفساد من العقاب والمحاسبة لأنّهم من يسيطر على الدورة الاقتصادية وعلى الحياة الاقتصادية، ولهذا ينادي المهرولون بالمصالحة الوطنية. ستستمرّ المنظومة الاقتصادية التيوليبرالية في انتاج الفقر والبطالة والجوع، وستستمرّ منظومة الفساد في الهيمنة والقمع والكذب، وستستمرّ مسيرة النضال والمقاومة أيضا، فالذين كانوا قبل 14 جانفي إلى جانب هذا الشعب معبّرين عن قضاياه وعن معاناته وعن تطلّعاته وأحلام شبابه، مُنادين بإسقاط الديكتاتورية، والذين كانوا زُوّارًا أوفياء لسجون وزنازين الجلاّد النوفمبري والذين تعرّضوا للقمع والتّعذيب والملاحقة والتّشريد في سنوات الجمر، هؤلاء مازالوا على الدّرب المضيء للحريّة شعارهم »بوصلة لا تشير إلى الشعب مشبوهة«. هؤلاء مازالوا أوفياء لدماء الشّهداء، هم لن ينسوا دموع أمّهات الشّهداء، وأمّهات المئات من الشباب التونسي الذي غرق في أعماق المتوسط هروبًا من هذا الوطن الذي حوّله السماسرة إلى جحيم لا يُطاق.