[إلى مختار اليحياوي الذي قال لا] ذات صيف من أصياف سنوات النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين وفي باحة حوشنا الكبير ببئر الكرمة اِكتشفتُ المذياع فقد جاءنا به عمي عليّ العائد وقتذاك من الجزائر فكنت أجلس وراء المذياع بعد صلاة المغرب لعلي أشاهد عبر الأضواء المنبعثة منه مصدر ما كان يعجّ به من أصوات وموسيقى حيث كنت أتخيل الناس داخله بحجم النمل أو الذباب! في تلك الأيام بدأت أسمع في أحاديث الكبار كلمات لم أكن أعرف أبعادها مثل فرنساالجزائر بريطانيا بورقيبة بن يوسف جمال عبد الناصر بريطانيا الجبهة. لستُ شهيدا لست بطلا بعد هذا الاِكتشاف المذهل بقليل داهمتنا أخبار الجندرمة والجيش الفرنسي الذي ظل يحتفظ بثكنة مدينة رمادة فطفقنا نحن الأطفال بأمر من الكبار طبعا ننتقل من حُوش إلى حوش نجمع القِرَبَ والمؤونة والأغطية نحملها على الأحمرة والبغال لتكون إسنادا للوطنيين الذين شاركوا في المعركة ولا أنسى ساعة وداع عمي مصباح في صباح يوم مغيّم بارد ليلتحق بالمجاهدين. لستُ شهيدا لست بطلا بعد الجلاء عن مدينة بنزرت ولعل بمناسبة الذكرى الأولى اِصطحبت إليها والدي رحمه الله فرأينا أثر الرصاص على جذوع نخيل الشوارع مازال باديا ولا أنسى موكب الرئيس بورقيبة وهو يتوسط جمال عبد الناصروأحمد بن بلة ووليّ العهد السنوسي. لستُ شهيدا لست بطلا في جوان سنة 1967 نزلنا أفواجا أفواجا تلاميذ وطلبة وشبابا إلى باب البحر من المعهد الصادقي ومعهد ابن شرف وكلية الآداب بالقصبة عبر باب المنارة وباب الجديد وباب الجزيرة كنا نهتف ونصيح: فلسطين عربية، فلسطين عربية، ثم تجمّعنا أمام سفارات بريطانيا وألمانيا وفرنسا والمركز الثقافي الأمريكي وجميعها كان وقتذاك في منطقة باب البحر ولست أدري كيف رأيت السيارات أمامها تنقلب بسرعة ثم تشتعل. لست شهيدا لست بطلا بعد أيام كنا نودع كتائب من الجيش التونسي وهو يتجه إلى مصر فوصلها بعد فوات الأوان طبعا. لست شهيدا لست بطلا من أتون تلك السنوات ومن تحديات تلك المرحلة انطلق جيلنا يبحث عن كيانه فلم يتقوقع على الشعارات لأنه رأى أن العالم أرحب من جميع النظريات فأحب الحرية والعدالة والجمال في جميع مظاهرها وألوانها. كنا جيلا نعشق أبا ذر الغفاري والحلاج ونحب لوركا وغيفارا ويستهوينا مَاوْ وياسر عرفات وننتمي بدءا من تونس ومن تونس إلى المحيط والخليج وإفريقيا والمتوسط والعالم فالكون أرحب الكون أرحب لستُ شهيدا لست بطلا كانت حرب رمضان / أكتوبر 1973 وذلك النصر الذي لم يكتمل وكانت المظاهرات والمحاكمات والإضرابات وأخبار الثورات إلى أن جثم الخميس الأسود في جانفي 1978 على تونس فكان الرصاص ومنع الجولان ثم عاد ذلك الرصاص أيضا في جانفي 1984 فادلهمت السحب وانسدت الآفاق إلى ذات يوم سبت الموافق للسابع من نوفمبر سنة 1987. يومها وبعده من الأيام حسبناها نسمة الحرية استبشر الذي استبشر حلم الذي حلم وانخرط في الجوقة الذي انخرط. ومع الأعوام انكشف الواقع المرير فبدأت الكوابيس تتكدس والأمل يضيق والشباب يلقي بنفسه في البحر طلبا للنجاة فاسودّت تونس الخضراء وصمت الذي صمت وانتهز الذي انتهز وانتحر الذي انتحر ولكن قلة بَرَرة صمدت وناضلت وتحملت الويلات وأصدعت بالحق وقلتها عاليا لا لا لا،،، المجد للشهداء والفخر للأبطال وأنت منهم يا صديقي مثال للشجاعة والصمود والتحدي والثبات لست شهيدا لست بطلا اليوم لقيتك فكان العناق المعذرة إذن إن لم نلتق في زنزانة أو في سرداب ربما التقينا في مسيرة أو في صخب أو ذات يوم ربيعي في عزّ الشتاء المعذرة إن افترقنا سنوات وسنوات المعذرة إن أصابني الإعياء أو حتى اليأس في وقت من الأوقات اليوم لقيتك فلقيت تونس الحرية تونس التحدي تونس العطاء تونس الخضراء تونس التي تفخر بثورتها... أنت يا صديقي كنت أحد أبطالها الشرفاء الذين قالوا زمن العسرة لا... لا... لا فلَمْ تنْحَنِ ولم تُساوم دائما كنتَ تقاوم أمامًا تمضي لا يمينا لا يسارا لا وسطْ لستُ شهيدا لستُ بطلا أنا شاعر القلمُ في يده ما سقطْ وعزائي اليومَ وسلواني ياصديقي أنك قلت لي: تقرأ لي دائما ذلك شرفي فقطْ. ٭ رادس في 22 ماي 2011