كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول القيمة العلمية للشهائد العليا التي يحصلُ عليها شبابنا و الدرجة الفعلية من التقنية التي بلغها الطالب عند التخرج و مدى الإضافة التي يمكن أن يقدمها على المستوى العملي لكن الوقائع أثبتت أن هذه الشهائد لم ترتقي الى ما هو مطلوب وأن هذا الضعف هو واقع ملموس يشهد به أهل الاختصاص قبل غيرهم لاعتبارات كثيرة و متعددة منها ما هو موضوعي نابع من داخل المنظومة التعليمية ذاتها التي في حقيقة الأمر لم يكن نظام التعليم داخلها مرتبطا بالمناهج العلمية الحديثة و المتطورة الذي يمكننا من بلوغ مستوى راق من الحاصل العلمي يمكن به للمتخرج أن يقدم الإضافة المرجوة منه في إختصاصه بل كانت في أصلها تلقينية وتجاوزتها المراحل العلمية المدرسة بالخارج بأشواط بعيدة ثم أن التعامل داخل الحرم الجامعي بالنسبة للمعاهد الكبرى نخرته الولاءات والجهويات وهو ما شعر به الطلاب أنفسهم زد على ذلك الدور الذي كان يلعبه الأمن الجامعي كل تلك العوامل الداخلية جعلت من مستوى الشهائد لا يرتقي لما هو مطلوب ولم يبلغ به الطالب التونسي المستوى الذي يمكنه به أن يعطي ما هو مرجو منه أما الأسباب الخارجية والتي يمكن اعتبارها الشق الثاني في ضعف تكوين الإطارات العليا بالبلاد هو العلاقة بين المؤسسة الجامعية والمؤسسات الاقتصادية هذه العلاقة يعتريها الكثير من الفتور والتي همزة الوصل بينهما هو الطالب ذاته بحيث يمكن القول بأنه لا وجود لأي رابط علمي ممنهج ومدروس بين الطرفين فليس هناك أي عناية خاصة أو تركيز في التكوين تحديدا في التربصين الأولين (تربص تلميذ وتربص مهندس) التي كثيرا ما لا يحظى فيهما الطالب بالعناية الكافية داخل المؤسسة الصناعية بدعوى ضيق الوقت وكثرة المشاغل مما يضطره الى القبول بالحضور الجسدي بالمؤسسة فقط دون أن يحصلَ على أي إضافة علمية أو عملية تذكر حتي أن التقارير كثيرا ما تكون منسوخة عما كان قبلها لماذا كل هذه اللامبالاة نحو الكفاءات المستقبلية للبلاد؟ وحسب اعتقادي هناك أطراف عديدة تتحمل مسؤوليته من سلط الإشراف التي تترك الأمر للمسؤولين الجهويين الذين يتعاملون معه ليس من منطلق برامج ومخططات علمية وطنية مسطرة مسبقا لكل المدارس على حد السواء إنما الأمر متروك لمزاج المسؤول الأول في المؤسسة التعليمية سواء في ترتيب الزيارات الخارجية لبعض المواقع الصناعية التي يمكن أن يستفيد منها الطالب بالإطلاع و التواصل داخل المؤسسات الصناعية ثم النقص الفادح في كل المعدات العلمية في كل الاختصاصات وافتقار المخابر لأبسط مقومات المخبر الحديث الى درجة أن كل التكوين للمهندسين أو الفنيين الساميين يكاد يكون نظري فحسب الى درجة أن الطالب لا يمكنه التعرف على بعض المعدات إلا عند دخوله ميدان العمل بعد تخرجه حسب مدة البطالة التي يقضيها أما الجانب الآخر فهو الأساتذة أنفسهم فهم يعملون دون هدف أو برنامج إنما هم فقط ملقنون نظريا لبعض البرامج التي تعودوا على سردها على مسامع الطلبة المتعاقبين على مدارج المدرسة يمكن أن يكونوا معذورين لعدم توفر المعدات الضرورية و ضعف الإمكانيات اللوجستية و أيضا لأمر خاص بهم هو عملهم بصفة متعاقد لعدة سنوات هذا لا يعفيهم من واجبهم كأساتذة في المطالبة بكل ما يمكن أن يسهل عليهم تبليغ المعلومة بأكثر موضوعية ودقة للمتلقي و هناك أمر آخر لا يقل أهمية على الأول وهو تفشي المحسوبية في التعيينات للتدريس بالجامعة (فانك تجد من المدرسين من كان السنة الفارطة على نفس المدرج طالبا يتلقى الدرس كغيره و حتى نجاحه يكون بدرجة متوسط فبقدرة قادر نجده يدرس المهندسين أو التفنيين السامين) والسؤال المطروح كيف يمكننا أن نطالب متخرج جديد من أحد هذه المدارس على ضعف إمكانياتها بأن يكون متمكنا من نفسه و من علمه و قادرا على تسيير مجموعة عمالية بحكم زاده المعرفي؟ من أجل ذلك يروم الجميع العمل في المؤسسات الإقتصادية ذات الطابع العمومي أو بالوظيفة العمومية لأنه سوف يواصل في نفس النسق الذي تكون فيه بالمدرسة أو المعهد مسايرة ما هو موجود وهو غير مطالب لا بالإضافة ولا بالتقدم العلمي إنما فقط إمضاء أوقات الدخول والانصراف و الرخص السنوية للعمال ومن ناحية أخرى لماذا يتهرب أصحاب الشهائد العليا من العمل بالقطاع الخاص؟ في حين أن مكسبه المادي أكبر من الوظيفة العمومية أو القطاع العام؟ و الجواب قلناه آنفا هو أن القطاع الخاص يطالب المهندس أو التقني السامي بتقديم الإضافة المطلوبة منه و كذلك المساهمة في تطوير الإنتاج و تحسين الإنتاجية و بما أن فاقد الشيء لا يعطيه ليس هناك إذا خير للعمل المريح من رزق (البيليك) ثم هناك طرف آخر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه هو المهندس المؤطر داخل المؤسسة التي تحتضن الطالب في تحضير مشروع ختم الدروس الذي كثيرا ما يكون تعامله مع الطالب فيه كثير من الفتور و نقص في الجدية (نستثني دائما البعض من ذوي الضمائر الحية) لأنه والحمد لله أصحاب الضمائر الحية لا تخلو منهم بلادنا لكن الأغلبية تغلب عليهم روح الاسترخاء و عدم الرغبة في التأطير أو العناية بمشروع مهندس يمكن أن يكون مفيدا للعباد و البلاد و في هذا الصدد أنا أساند بعض المهندسين المؤطرين للطلبة داخل المؤسسة من ناحية واحدة هي الجانب التحفيزي في الموضوع لأن الأستاذ الجامعي المؤطر له منحة تشجيعية مهمّة على كل طالب يتحمل متابعته خلال مرحلة تحضير مشروع ختم الدروس في حين أن المهندس بالمؤسسة والذي إحقاقا للحق يتحمل العبء الأكبر في العملية برمتها أكثر ما يحصلُ عليه دعوته الى حضور مناقشة المشروع في ختام السنة الدراسية إذا بكل هذه المتناقضات و بكل هذا الحواجز كيف يمكن لنا أن نتحدث عن كفاءات علمية و قدرات فنية ؟ و كيف يمكننا أن ننتظر من مهندس حديث العهد بالتخرج من تقديم أي إضافة ؟ و هل يحق لنا لومهم على العزوف عن القطاع الخاص؟ و الرغبة القوية في الإنتماء للقطاع العام فقط كل ذلك هو نتيجة حتمية لغياب أي تصور و برامج علمية مدروسة داخل الحرم الجامعي تؤسس لتكوين مهندسين في جميع المجالات و الاختصاصات و تقنيين سامين و فنيين رفيعي المستوى ثم لا ننسى الغياب التام لمعدات العمل و التصحر المخيف على مستوى الندوات التكوينية و الاستضافة لبعض الخبرات والكفاءات من الخارج و الداخل لتدعيم الزاد المعرفي للطالب دعما لما تلقاه من أستاذه المباشر لتلاقح الأفكار و تنوع المدارس العلمية ونفس الشيء في خصوص الزيارات الميدانية للمؤسسات الصناعية الكبرى، ثم أمام الغياب التام للتنسيق بين المؤسستين التعليمية والصناعية في جميع مراحل تكوين الطالب، و أمام غياب الجانب التشجعي لكل الأطراف المتداخلة في هذه العملية الطالب و خاصة في المرحلة الأخيرة من حياته الطلابية كل ذلك يسهم بصفة كبيرة في تدني مستوى المتخرجين و هنا أود أن أستشهد بحادثة وقعت في رحاب المدرسة الوطنية للمهندسين بقابس عندما أراد طالب في المرحلة الأخيرة مقابلة الكاتب العام الأسبق للمدرسة لطرح مقترح برنامج دراسي خلال العطلة: أولا لم يتمكن الطالب من الدخول للمكتب إلا بعد ثلاثة أيام ثم لما ولج داخل القاعة لم يعر الكاتب العام الطالب أي اهتمام باعتبار أنه مشغول في إمضاء البريد، قال الطالب هل يمكنني الحديث إليك في موضوع؟ أنا أسمعك أجابه المسؤول دون أن يرفع رأسه، فقال الطالب هل يمكنني الجلوس؟ تكلم و أنت في مكانك رد عليه الكاتب العام مواصلا إنشغاله ببريده، فاعتذر الطالب عن إضاعة الوقت و طلب الخروج، فأجابه: لك ذلك، وانصرف محبط العزائم. هل بمثل هذه السلوكيات يمكننا أن نرتقي بمستوى الطالب ؟ وبأي شعور خرج الطالب من قاعة المسؤول الذي لم يعطه الفرصة حتي للجلوس ليطرح رأيا عساه تكون مهما؟ (مع العلم أن فكرة الطالب كانت زيارة لمؤسسة صناعية بالجهة تقوم بعملية الصيانة الكبرى لآلياتها حتى يلمس هو و زملائه عن قرب عديد المعدات التي يعرفونها نظريا فقط) من أجل ذلك نلاحظ أن الشركات الخاصة الأجنبية كثيرا ما تدفع أصحاب الخبرة من المهندسين و الفنيين بالقطاع العام الى الاستقالة والعمل لفائدتها و عند التعذر فهي تلجأ لأصحاب التجربة من المتقاعدين و هنا لا بد من ملاحظة حذار من تواصل الوضع على حاله عندها يمكننا القول بأن أهداف الثورة لم تتحقق في هذا الجانب إن لم يقع تلافيه.